سوريا ... لا خبز ... ولا حرية 3

سوريا ... لا خبز ... ولا حرية

آلن جورج
ترجمه: د. حصيف عبد الغني

الفصل الثالث

شتاء دمشق:  قمْع حركة المجتمع المدني.

المجتمع المدني هو " تعبير أميركي " أعْطِيَ معنى إضافياً من قِبَل ِ مجموعات تحاول أن تُصبح َ أحزاباً (سياسية) , هذا ما صَرّح َ به وزير الإعلام السوري عدنان عمران , والسفير الأسبق في لندن والنائب السابق للأمين العام لجامعة الدول العربية(1) عندما تحدّث للصحفيين في 29 كانون الثاني /2001/ , ارتأى أن مجموعات المجتمع المدني في البلاد النامية مدعومة من قِبَل ِ السفارات الأجنبية التي توَفر الفوائد المالية والامتيازات لِلنُشطاء الداعين للديمقراطية.

وكان تصريحه بداية لحملة مُنَسّقة قامت بها الحكومة لمواجهة مباشرة مع المنشقين - المعارضين- والتي بلغت ذروتها في أواخر تلك السنة باعْتقال عُضْوين مستقلين في البرلمان مأمون الحمصي ورياض سيف , واعتقال (إعادة اعتقال) رياض الترك زعيم الحزب الشيوعي - المكتب السياسي , الممنوع قانوناً واعتقال الاقتصاديّ عارف دليله وعدد آخر من زعماء حركة المجتمع المدني. وعَنَى تغيير الوجه هذا... أن بشّار الأسد بدأ يتراجع أمام المتشدّدين في النظام الذين تجمّعوا حول عبد الحليم خدام نائب الرئيس.

وهذا الخوف الحقيقي كان التحدّي لسلطاتهم ومصالحهم من قِِبَل حركة المجتمع المَدني , إلا أنهم ألبسوه , ويا للسخرية , ثوب الاحتجاجات التي تنادي بالحاجة للوحدة الوطنية والاستقرار لمواجهة إسرائيل العدوانية دائماً والتي أصبحت أكثر خطراً بعد انتخابات شباط /2001/ التي جاءت بحكومة ليكودية يمينية يرأسها المتطرف أرييل شارون.

وأعلن الوزير عمران أن الناشط المصري في مجال حقوق الإنسان البروفسّور سعد الدين إبراهيم , والذي كان يُحَاكم آنذاك في القاهرة , "هو (ناشط) في مؤسسات المجتمع المدني, ومُتهم باسْتلام أموال من دول أجْنَبية والقيام بمهمات أمنية بِطلب ٍ من جهات أجنبية " وصرح عمران " أن الإستعمار الجديد -النِيُوكولونْيَالِزْمْ- لا يعتمد اليوم على الجيوش " وفي 21 أيار/مايو 2001م قرّرت المحكمة أن البروفسّور سعد الدين إبراهيم وثمانية وعشرين من زملائه في مركز ابن خلدون لدراسات التنمية بالقاهرة -وسُمّيَ هذا المركز باسْم المؤرخ القروسطي المسلم المشهور - مذنبون بجرائم عدّة منْها نَشْر إشاعات كاذبة لتشويه صورة مصر في الخارج , واستلام مساعدات غير مشروعة من (المفوضية الأوروبية). وحُكِمَ على البروفسّور إبراهيم بـ 7 سنوات سجن مع الأشغال الشاقة بينما حُكم على ستة من زملائه بالسجن مدداً تتراوح بين سنتين إلى خمس سنوات مع الأشغال الشاقة , وواحد وعشرون من زملائه حكموا بالسجن لمدّة عام مع وقف التنفيذ ثم أطلق سراحهم. وأغلق مركز ابن خلدون وكذلك جمعية أخرى تعمل معه تُشَجّعُ المرأة على ممارسة حقوقها الانتخابية. وأقام البروفسّور إبراهيم -وهو أستاذ علم الاجتماع في الجامعة الأميركية بالقاهرة- , مركز إبن خلدون لتعْزيز المجتمع المدني في مصر. وفي شباط عام /2002/ طلبت محكمة الإستئناف إعادة المحاكمة وتم ذلك في 29تموز - يوليو - فأقِرَّ الحُكم نفسه على البروفسور إبراهيم وثلاثة وعشرين من زملائه , وخفف الحكم على أربعة آخرين. وفي 3 كانون أول عام /2002/ , استأنف البروفسور إبراهيم وأربعة من زملائه الحكم فقبلت المحكمة إعادة أخيرة للمحاكمة في كانون ثاني/يناير عام 2003م، وفسر (عمران) ذلك بالتصريح: "إن هذا لا يعني أننا لا نؤمن بالحرية كأكبر مطالب المجتمعات كلها. ولكن ليست الحرية المطلقة العمياء! كل مجتمع له خطوطه الحمر والحرية الاجتماعية لها خطوطها الحمر. والحرية الثقافية لها خطوطها الحمر "في سوريا الخطوط الحمر السياسية منصوص عليها في الدستور وفيه، "أن كل حديث يهدد وحدة المجتمع هو خطر على المجتمع كله" نريد حريةً مسؤولة تسمح للمواطن بالتعبير عن أفكاره ضمن حدود الدستور". وعندما سئل ما هو الموقف الرسمي من حركة المجتمع المدني , قال عمران إنه موقف الاحترام للرأي الآخر طالما هو في إطار الدستور , والمسؤولية الوطنية ووحدة وقوانين البلد. وأضاف إن الأحكام العرفية التي فرضت عام 1963 هي في الواقع مجمدة ولكن سورية تواجه "احتلالاً وعدواناً إسرائيلياً مستمراً وهي في حالة حرب يمكن أن تصبح حرباً حقيقية في أي وقت لأن سياسة العدو مؤسسة على العدوان".

وبعد أقل من أربع وعشرين ساعة هوجم الكاتب -القصاص- نبيل سليمان وضرب بشدة من قبل شخصين كانا ينتظرانه خارج منزله في اللاذقية. وكان سليمان قد افتتح منتدى ثقافياً في المدينة في 15 كانون ثاني , بدأ بمحاضرة عن المجتمع المدني والإصلاح السياسي ثم استدعي بعد ذلك للتحقيق من قبل أجهزة الأمن في المدينة.

فيما خرِّبتْ سيارته الخاصة من قبل مجهولين بعد سرقة محتوياتها في 25 كانون ثاني وكان هناك اعتقاد واسع بأن وراء العملية هذهِ أياد ٍ -رسمية- وفي اليوم التالي ذهبت مجموعة من المثقفين إلى مكتب رئاسة "إتحاد الكتاب ليعبروا عن تضامنهم مع سليمان ضد قوى الظلام... مهما وأينما كانوا."

وأصبح رياض سيف هدفاً خاصاً للسلطات الحاكمة. ففي 31 كانون ثاني حضر لقاء منتدى الحوار الوطني خمسة أكاديميّين بعثيين في بيته بِصِحْنايا , 15 كيلومتر جنوب دمشق , وفي اللقاء أعلن سيف عن تفصيلات إضافية لخططه لتشكيل حزب سياسي. وعندما كان يقرأ بيان المبادئ التي تركز على سورية وخصوصياتها - في مقابل إيديولوجية البعث عن الوحدة القومية العربية الجامعة - قاطعه البعثيون الموالون الحاضرون واتهموه بأنه "عميل لقوى أجنبية"، و" غير وطني".

وخلال شهر شباط عام 2001 تكثفت حملة النظام الحاكم , وبدا أن الذي خطط لها كان عبد الحليم خدام.

والمقابلة التي أجرتها جريدة الشرق الأوسط - السعودية - مع الرئيس بشار الأسد في 9 شباط كانت المصدر , فلقد جزم الأسد أن مثقفي سورية هم مجموعة صغيرة تصور نفسها أنها النخبة، ليس من الطبيعي أبداً أن يدّعوا أنهم " الممثلون الحقيقيون للغالبية " وأضاف من الطبيعي جداً ألا يتأثر بما يقوله قلّةٌ من الناس هنا وهناك". والواضح أن هناك اختلافات كبيرة بين أولويات أغلب المواطنين وبين ما تدعو إليه هذه الفئة " لذا اعتبر الأسد أن ناشطي الحقوق المدنية هم أقلية ضئيلة لا تمثل أحداً إلا نفسها وأنها , بعكس ما هو عليه الأمر , منفصلة عن الجماهير. ولم يكتف بهذا التقييم الضعيف إذ أضاف:  عندما تؤثر تبعات عمل ما على استقرار الوطن هناك احتمالان " فإما أن الفاعل عميل للأجنبي يعمل لمصلحة قوى خارجية , أو هو بكل بساطة يعمل بدون سوء نية , ولكن في الحالين هو يؤدي خدمة لأعداء البلد ولذا يجب التعامل معهما بأسلوب واحد بغض النظر عن النوايا أو الأسباب"  لذا أدينت حركة المجتمع المدني من قبل أعلى سلطة في البلد واتهمت بأنها مجموعة جواسيس أو مجانين أو الاثنين معاً تخدم مصالح دول أجنبية حاقدة  وهذا يعني إسرائيل وأميركا-.

وعند سؤاله إلى أي مدى سيسير في طريق الليبرالية السياسية , قال بشار:  "هناك مستويان مستوى أفقي محدود بحدود الشعب وآخر مستوى عمودي يحده أمن واستقرار الوطن. وضمن هذه الحدود كل شيء مسموح به إلا أن أية محاولة لتجاوز -هذه الحدود- ستقابل برد ٍ صارم".

ثم صرح خلال المقابلة مؤكداً:  "إن الإصلاح الاقتصادي هو الموضوع الأهم على طاولة النقاش اليوم , وفي هذا الإطار ليس هناك حدود."

في منتصف شهر شباط أرسل حزب البعث سبعة عشر عضواً من القيادة القطرية -المؤلفة عادة من واحد وعشرين عضواً- إلى جميع المحافظات السورية وإلى الجامعات الأربع لتوجيه خطبً من خلال لقاءاتهم محاولين الرد على المواضيع التي أثارها الناشطون المعارضون. وفي الثامن عشر من الشهر نفسه تحدث خدام في اجتماع للهيئة التدريسية في جامعة دمشق قائلاً:  قبل رفع شعار -المجتمع المدني- يجب أن ندرس معناه. ربما كان هناك عيوب في بعض المؤسسات. يجب أن نناقشها ولكن لا نعمد إلى تفجير البنية القائمة إذ لا يملك أحد أي بديل لن نسمح في أية حال أن تصبح سورية جزائر ثانية أو يوغوسلافيا , يجب أن يكون هذا واضحاً للجميع".(2)

ولم يُرَوّع الناشطون من مواقف السلطة. ففي آخر شهر كانون ثاني أصدر سبعون محامياً بياناً يطالبون فيه بإصلاحات سياسية واسعة وبإلغاء حالة الطوارئ -والأحكام العرفية- وبإصدار قانون للأحزاب يضمن التعددية ويؤمن حيادية وكالات ومؤسسات الدولة خلال الإنتخابات. وألح المحامون على أن حكم القانون يعني تطبيقه على كل الرسميين في الدولة بغض النظر عن رتبهم. كان بيانهم عملاً شجاعاً إذا أعدنا إلى الأذهان ماذا فعل الأسد الأب بنقابة المحامين عام /1980/ م (راجع الفصل السادس).

في نفس الشهر أمر رئيس المجلس النيابي عبد القادر قدورة , رياض سيف بإغلاق منتداه. كان الأمر شفهياً كما يتذكر سيف وكان الأمر باسم الرئيس فقلت له " إنني لن أقوم بذلك بدون أمر مكتوب."(3)  وبعد عدة أيام صدر إتهام له بأنه خرق الدستور بإعلانه عن خططه لإنشاء حزب سياسي. بعد ذلك "بدأ عدد المشتركين في المنتدى يتناقص وهبط العدد من حوالي 350 مشتركاً إلى 70  وزاد حضور البوليس السري".كما ذكر سيف. واستدعي عضو البرلمان -رياض سيف- للتحقيق معه لمدة ساعتين قبل أن يأتي أحد حكام القضاء المدني في وزارة العدل في سوق الحميدية التاريخي المعروف في دمشق"، كان ذلك فقط... لتخويفي. ولم أسمع شيئاً بعد ذلك"  هذا ما رواه لي سيف في أيار عام 2001.. قبل أربعة أشهر من اعتقاله وسجنه.

إغلاق منتديات المجتمع المدني

أكبر الضربات التي وجهت لحركة المجتمع المدني كانت في منتصف شهر شباط إذ صدر الأمر بألا يعقد أي منتدى إلا بعد الحصول على إذن رسمي من وزارة الشؤون الاجتماعية. وطلب من منظمي المنتديات تقديم طلب قبل خمسة عشر يوماً على الأقل في تفصيلات عن مكان الاجتماع وزمان الاجتماع والمواضيع التي ستبحث فيه وأسماء المتكلمين فيه وأسماء من سيحضر المنتدى. وكان هذا الأمر يهدف عملياً إلى إيقاف المنتديات إذ كيف يمكن للمنظمين أن يعرفوا مقدماً من سيحضر المنتدى ؟

وخلال أسابيع قليلة أغلقت كل منتديات المجتمع المدني في سورية أبوابها. أحياناً توقفت بعض المنتديات بسبب خوف منظميها من مخالفة الأوامر الرسمية وخوفهم من البوليس - ومداخلاته --. وأحياناً أيضاً تقدم بعض منظميها بطلب إذن رسمي فرفض الطلب. بعض الناشطين استمر على لقاءات خاصة في بيته وسماها زيارات أصدقاء ولكن الحركة فقدت تسارعها تدريجياً، "كانوا خائفين إلى حدّما".   

"وكانوا على حق في ذلك" هكذا قال صبحي حديدي، "لم يستطيعوا تخمين متى سيعيد النظام الحاكم سيرته الأولى ويُطبق أسلوبه القديم في القمع"(4).

كان منتدى جمال الأتاسي في دمشق الذي يلتقي في شقة حديثة واسعة في منطقة المزّه مشرفة على أوتوستراد بيروت أحسن حظاً إلى حدّ ما. فلقد تعاملت السلطات معه بانتباه أكثر لأنه يمثل التجمع الوطني الديموقراطي الذي تشكل في كانون ثاني عام /1980/ في أوج التمرّد الذي قاده الإسلاميون ضد النظام، والذي تابع نشاطاته منذ ذلك الحين بطريقة (نصف شرعية). والتجمع يربط الأحزاب اليسارية التي لم تدخل الجبهة الوطنية التقدمية بما في ذلك أحد أجنحة الاتحاد الاشتراكي العربي والمكتب السياسي للحزب الشيوعي السوري لرياض الترك.

وكان يرأس الاتحاد العربي الاشتراكي في التجمع جمال الأتاسي العضو المؤسس ثم بعد ذلك، أحد كبار المسؤولين الرسمين في حزب البعث. وتردّدت السلطات في اتخاذ التدابير الشديدة ضدّ مجموعة تمثل شريحة لا بأس بها من الرأي العام والتي رغم كونها غير متحالفة مع النظام لا تظهر له العداء المشكوف. "وفكّر بشّار الأسد إن هذا المنتدى قد يمثل كل التجمع الوطني الديموقراطي ويجب أن يسمح له بالنقاش، كما ذكر صبحي حديدي. "ولكن حتَّى هذا الهامش لم يتحمّله المتشددون".

وحتى منتدى جمال الأتاسى ، الذي كان أحد منتديات سَبَقَتْ (ربيع دمشق) رُفض طلبه في الحصول على إذن بالعمل رغم إنه تحدّى السلطات وتابع لقاءاته العامّة. وفي الثاني من كانون أول عام/2001/ حَضَرْت أحد لقاءاته وكان المتحدث فيه الصحافي والمنتج السينمائي السوري محمد علي الأتاسي. كان اللقاء حدثاً استثنائيا يُبرز المسافة التي قطعتها سورية منذ القمع العنيف في الثمانيات عندما لم يكن يتجرّأ أحد على الحضور، وكل من يحضر يُقبض عليه ويُزجّ في السجن. كان هناك أربعمائة شخص، كثير منهم من الشباب بما في ذلك الفتيات المحجبات بغطاء الرأس، وحضروا اللقاء في الصالة المكتظة بهم حتى سُلّم الدار أمام مدخل البناء وكان على الرصيف المقابل للدار ضباط المخابرات بثيابهم المدنية يراقبون الجمع بصورة علنية دامت المحاضرة ساعة واحدة وتبعها نقاش حيوي وأحياناً،ساخن دام ساعتين دافع خلاله أكاديميون بعثيون عن سياسات النظام، وكانوا يتعمدون حضور كل لقاءات المنتدى. وذكر لي بعض الحضور أن البوليس السري كان سابقاً يقف على مدخل الدار ويُسجل أسماء الداخلين.

ومنذ ذلك التاريخ-كانون أول/2001/ تابع المنتدى لقاءاته الشهرية حتى نيسان عام 2002. كانت المواضيع: "حُكم القانون، واستقلالية القضاء"، "العالم بعد الحادي عشر من سبتمبر-أيلول"_ "الوحدة بين سورية ومصر" "مستقبل المشروع القومي"، "الرأي والرأي الآخر" "قراءات في الفكر الوطني والديموقراطي للدكتور جمال الأتاسي في الذكرى الثامنة لوفاته"، وبوضوح لم ينتظر منظمُو هذه اللقاءات، على الأقل إغلاق المنتدى. وظل نشطاً حتى ايلول/2002/.

وعندما تحرك النظام بهجوم مضاد على حركة المجتمع المدني بمنعه النقاش في المنتديات والتشنيع عليها في أجهزة الإعلام الرسمية، أراد من ذلك تصليب المعنويات داخل المؤسسات الموالية له. وصدرت نشرة من سبع صفحات رقم (1075) في 17 شباط/2001/ ونقلتها أيضاً جريدة الحزب (المناضل)، رحَّبتْ ببرنامج بشّار في (التنمية والتحديث) معترفةً بأن أخطاء ارتكبت في الماضي، وإن حركة المجتمع المدني تَضُرّ البلاد-عامدةً أو غير ذلك. لأنها تخدم أعداء الوطن. وحثت أعضاء الحزب على مضاعفة جهود في الردّ على حُجج ناشطيها (راجع الفصل الرابع) وإحدى أشد التهجمات البشعة جاءت من وزير الدفاع الجنرال - اللواء- مصطفى طلاس، المعروف جداً بألفاظه الخارجة عن المألوف. ففي أوائل نيسان صرّح لتلفزيون أبو ظبي إن عنده الإثبات إن الذين وقّعوا على بيان الألف هم عملاء (السي آي إيه C.I.A)-وكالة المخابرات المركزية الأميركية. ويستطيع إعطاء رقم جواز السفر لهؤلاء...لمن يهمه الأمر مع تاريخ زيارتهم للولايات المتحدة الأميركية وكمية المال الذي دُفع لهم من وكالة المخابرات للتوقيع على هذا البيان(6).

العقد الوطني الاجتماعي

بعدما تبخّرت الآمال في حصول الإصلاحيين من داخل النظام على "اليد العُليا"، أصدر ميشيل كيلو وزملاؤه في لجان إحياء المجتمع المدني، بدون خوف أو رعب، وثيقة مهمة بعنوان: نحو عقد اجتماعي وطني في سورية (الملحق رقم 3).

وفي مقدمة الوثيقة ذات النقاط التسع أعلنوا إن الوثيقة تمثل إرشادات عامّة كأساس لحوار وطني شامل وكقاعدة لعقد أخلاقي اجتماعي واقتصادي جديد يرتكز على شرف وحرية وكرامة الفرد وحقوق الإنسان المرتبطة بالقانون وبالشعور بالمسؤولية، وتكافؤ الفرص والعدل الاجتماعي والمساواة أمام القانون، لذا تؤكد الوثيقة على:

· وجوب معاملة المواطنين كأشخاص أحرار، المواطنون الأحرار، يجب أن يكونوا الدعامات الأساسية في نظامنا الاجتماعي والسياسي.

· ويجب معاملة الناس فقط كمجموعة موحّدة من المواطنين الأحرار وليس كجسم مشكلٍ من فئات متعددة دينية وطائفية واقتصادية.

· إن الاستقلال والحرية والكرامة والقوة والوحدة في بلدنا هي أهداف عامة لنضال مستمر في معركة ضد الجشع والطمع محلياً-داخلياً-، وضد العدّو الصهيوني وقوى النهب والسيطرة خارجياً والديموقراطية هي أمضى أسلحتنا لكسب المعركة.

· يجب على الدولة أن تقوم على أساس العدل وحُكم القانون.

· النظام الاقتصادي في سورية يحتاج إصلاحاً عميقاً وديموقراطية تلازمها شفافية وتعدّدية سياسية وإعلامية ومجتمع مدني وحكم القانون، فصل السلطات وانتخابات حرّة تُجرى تحْت رقابة مستقلة كلها شروط ضرورية لنجاح الإصلاح الاقتصادي.

· لا يمكن تحرير الأرض المحتلة بدون نظام عربي ديموقراطي يستطيع تنشيط وتفعيل الإمكانات والجهود الضرورية.

· يجب العمل بهدف إعادة بناء التضامن العربي وتقوية الروابط بين الدول العربية إلى المستوى الذي يمكن معه مواجهة الأخطار والتهديدات التي تواجه الشعب العربي.

· يجب ألاّ يبقى الشعب تحت الوصاية، وحق الشعب في اختيار نظامه الاجتماعي والسياسي والاقتصادي لا يمكن سلبه لأن الشعب هو مصدر السلطات كلها ومنبع الشرعية، ويجب ألاّ تعود بلادنا لأيام الفوضى والانقلابات العسكرية. واستمرار حالة البطالة والاستنقاع (الاقتصادي) تهدّدنا جميعاً بتأثيرات خطرة ولا يمكن عكس هذا التيار إلا بتعميق الديموقراطية وتحرير المجتمع المدني من طغيان الاستبعاد السياسي والإيديولوجي.

· الحوار والتوافق بالإجماع هو السبيل لحلّ المشكلات في بلدنا ويجب التخلي عن الاضطهاد كطريقة لإدارة حياتنا الوطنية.

وصَدَمَ (العقْد) مواجهةً أهمّ حجج السلطات. وشجب النظامُ الناشطين واتهمهم بأنهم (غير وطنيين). وأكدّتْ الوثيقة أهمية الوحدة الوطنية واستعادة الأراضي العربية المحتلة من قبل إسرائيل كذلك أكدت على التضامن العربي القومي. كذلك رَفَعَتْ الرهان بتأكيدها على إن الديموقراطية وحُكْم القانون هما المفتاح والعُنصر المهم لإنجاز هذه الأهداف الوطنية. واتهم النظام "الناشطين" بأنهم يريدون التغيير السياسي بينما التنمية الاقتصادية هي التحدّي الرئيسي. وكسالفه من البيانات أكدّ (العقد) إن التنمية الاقتصادية لا تستطيع النجاح إلا عن طريق الديموقراطية.

وكان لـ(العقد) تأثير أقلّ من المتوقع، فلقد صَدَرَ في وقت كانت فيه حركة المجتمع المدني في بحر من الاضطراب. وكان الأمر نفسه بالنسبة للبيان الجديد الهام للإخوان المسلمين الذي صدر في 3 آيار معلناً تمسّك الجماعة بالديموقراطية والتعددية السياسية وحُكم القانون (راجع الفصل الخامس). وما جاء شهر تموز، والذكرى الأولى لتسليم بشار الأسد الرئاسة، إلا وكان ربيع دمشق في حاله احتضار. "أنا متشائم حقاً" هذا ما قاله لي المحللّ السياسي صبحي حديدي في حزيران/2001/ "بالتأكيد في النهاية ستتغير الأمور في سورية،... ولكن الثمن سيكون مرتفعاً جداً". في أحسن الأحوال سيكون هناك أنصاف التدابير التي ستكون على الأغلب تزويقيّه. ولا شيء غير ذلك.

والآن، الحال هي تماماً كما كانت قبل ستّة أشهر من موت الأسد. لا سياسات ولا حركة، الناس فقط ينتظرون شيئاً... قد لا يأتي أبداً: إنها حقاً مأساة"(7).

صادق جلال العظم، المفكر البارز وعضو حركة المجتمع المدني كان أقل تشاؤماً "الفكرة الهامة التي قدّمها الفلسطينيون للعالم هي "التشاؤل" هذا ما قاله لي في أيار /2001/ مُشيراً إلى كتاب (إميل حبيببي): " الحياة السرية لسعيد..."المتشائل" وهي قصة فلسطيني أصبح إسرائيلي الجنسية. ولقد اخترع حبيبي كلمة جديدة في اللغة العربية (المتشائل) هي مزيج من كلمة المتشائم وكلمة المتفائل. لا يمكنه فقدان الأمل... فهو متفائل. ولكن الأمور الحالية هي من السوء بحيث تجعله متشائماً،والمتشائل تعني إننا نتحرك كما لو بقي لنا بعض الامل"(8). (ويجب الإشارة هنا إلى إن حديث العظم كان قبل الاعتقالات)، ولقد ارتاح قليلا، على ما بدا لأن السلطات استعملت فقط التدابير الإدارية لضرب حركة المجتمع المدني.

"بالنسبة لنا الطريقة التي أتبعوها هي حدث هام جدّاً هناك تحسن" هذا ما قاله العظم وأضاف: "ليس هذا هو ربيع براغ وليس هذا هو قمْعُ (ياروزلشكي)... حتى الآن، نحن "لا هنا ولا هناك"! نحن في الوسط... في المنطقة الرمادية."

 

اختار بشار الخبز قبل الحرية

ركزّ بشار الأسد دائماً على أهمية الإصلاح الاقتصادي واتخذت سلسة من التدابير المالية والاقتصادية في الأشهر التي تلت تسلمه السلطة في الثاني من كانون أول عام /2000/، مثلاً أعلنت القيادة القطرية موافقتها على خُطط لتأسيس أوّل مصرف خاص وبورصة (لسوق الأسهم)، مع تعويم العملة المحلية معلنة بذلك نهاية لأربعين سنة من احتكار الدولة للعمل المصرفي ومكاتب تبديل القطع الأجنبي. ومع حملة تحطيم حركة المجتمع المدني جاء التواء هام جديد يعلن إن الإصلاح الاقتصادي أولوية على الإصلاح السياسي-موقف بشّر به الرئيس في مقابلته مع جريدة الشرق الأوسط في الثامن من شباط.

"برأيي إن الرئيس الجديد اعتقد في البداية إمكانية بدء الإصلاح السياسي بموازاة الإصلاح الاقتصادي" هذا ما قاله رياض سيف."ولكن هذه الحركة من أجل الديموقراطية نمت بسرعة كبيرة لدرجة لم تكُن هناك طريقة لضبطها. بذلك صدر قرار مفاجئ بإيقافها بذريعة إن إصلاح الاقتصاد وتحسين شروط الحياة للمواطنين له الأولوية" ولخّص حجّة النظام هكذا: "الخبز قبل الحرية" واعترض علي ذلك بشدة مؤكداً إن الإصلاح الاقتصادي الناجح يعتمد على إصلاح سياسي فاعل(9). ووافق على هذه المقولة صادق جلال العظم: "انا ماركسي قديم" هكذا قال لي العظم، وتابع "أظن إن موضوع الاقتصاد حاسم. والإصلاح الترقيعيّ بدون اختصاص علمي في الاقتصاد وبدون إحداث التكليفات اللازمة حتى التي يحتاجها  هذا (الترقيع)... في نفس الوقت، لن يؤدي على ما اعتقد إلى أي نتيجة"(10)، وتابع قررّت سورية السماح بتأسيس المصارف الخاصة وهذا يعني، بصورة آلية،وجود نظام قضاء مستقل فعندما يختلف البنك مع بعض زبائنه أو مع بنك آخر أو حتى مع الحكومة إذا لم يكن هناك الحدّ الأدنى من الثقة باستقلالية القضاء سيطوي المصرف (البنك) أوراقه ويُغلق أبوابه وينهار كل شيء والقول باستطاعته فتح بنوك خاصة دون عمل أي شيء بالنسبة للقضاء هو تفكير تبسيطي إلى حد كبير".

ويشعر (العظم) إن طرح موضوع "الاقتصاد أولاً" نتج عن الاقتصاد الخاطئ إن التمزّق المؤلم من النوع الذي حصل في الاتحاد السوفيتي السابق، بعد انهيار الشيوعية يمكن تلافيه باعتناق النموذج الصيني، ليس صحيحاً إن الصينيين غيروا فقط في الاقتصاد دون أن يُغيروا في ميادين كثيرة أخرى.

فالفريق الحاكم كله قد تغير في الصين. بينما في سورية لا زال الفريق نفسه. "الحرس القديم" لازال هنا.ثانياً في الصين يمكن تأخير التغيرات السياسية والتركيز على الاقتصاد لأن هناك نسبة عالية جداً من النمو الاقتصادي. وعندما يشعر الناس أنهم يتقدمون وهناك فرص كثيرة...يبتلعون الصفقة: "نظموا الاقتصاد ونبقى هادئين الآن بالنسبة للأوجه الأخرى" هذا لا ينطبق على سورية أبداً ليس هناك اقتصاد مزدهر لرشوة الناس ليسكتوا بالنسبة للإصلاحات الضرورية الأخرى في الميادين السياسية والاجتماعية والقضائية".

وما هي الإيحاءات بأن حركة المجتمع المدني في سورية مُرتبطة بشكل ما بالأجانب "القوى الغربية"؟ قال العظم: هذا رد فعل انعكاسي. وخاصة الآن بوجود أزمة الشرق الأوسط-بوجود شارون في إسرائيل، ومحاصرة العراق-تنامى الشعور الشعبي المتحمس ضد الولايات المتحدة الأمريكية والغرب بعامّه، لذا إثارة هذه التهمة لها بعض الجاذبية على المستوى العاطفي-ولكنها-كذبة-مفضوحة إلى حد كبير. لم يأتوا بحُجج جديدة ولا أساليب جديدة. لا يزالون يعتمدون على (علبة أدواتهم القديمة) وفي خط آخر للحجج الرسمية حاولوا تصوير المثقفين كأقلية لا أهمية لها إلا إن (العظم) مقتنعً إن هذه ببساطة محاولة كموضوع-دفاعي- "إنهم أذكى من ذلك ويعرفون الحقيقة. الكثير منهم، عندما كانوا في المعارضة كانوا يتأثرون وينقادون بالمثقفين، لذا يعرفون من تجربتهم الخاصة إنه لا يمكن استبعاد المثقفين. وأكد العظم إن الثلاثة أو الأربعة آلاف مثقف المنخرطون مباشرة في حركة المجتمع المدني في سورية يعكسون بصورة صحيحة الرأي العام الأساسي. الأنْتِليجنْسيَا المدّربة تستطيع صياغة الفكرة من المواقف الغائمة المائعة والعواطف والمشاعر الواسعة الانتشار في المجتمع. لذلك ليس أمراً حسناً بل هي ببساطة، سياسة سيئة: إهمال ما تقوله وتفعله الأنْتِليجنْسْيَا. أنظر إلى دول أوروبا الشرقية هناك أيضاً تعامل المسئولون مع المثقفين كأنهم (حثاله) وتبيّن فيما بعد إنهم كانوا طليعة رأت باكراً المأساة التي كانت قادمة.

وليس من العسير إيجاد شواهد لدعم إدعاءات العظم. في أواخر نيسان عام/2001/ وَصَلْتْ مطار دمشق عند منتصف الليل ثم أخذت (التاكسي الأصفر) yellow cab للنـزول للمدينة: كيف أحوال الحياة في سورية، بعد عام تقريباً من استلام بشار للسلطة فرفع السائق حاجبيه وهز كتفيه وقال: أسوأ ما تكون!

اعتقالات

في أواخر ربيع عام/2001/ كان لدى ناشطي حركة المجتمع المدني أسباب وجيهة للتشاؤم أو على الأقل-للتشاؤل- ولكن الآتي كان أسوأ. ففي أواخر الصيف بدا بشار الأسد والمقربون في دائرته الضّيقة من الإصلاحيين الحذرين من داخل النظام بلا سلطة لمقاومة المتشددين في النظام المطالبين بأكثر من المعالجة الإدارية للناشطين. أول اعتقال في 9 آب/2001/ كان عضو مجلس الشعب مأمون الحمصي الذي بدأ إضراباً عن الطعام لدعم المانفستو من(10) نقاط الذي أصدره مطالباً بالإصلاح، وهذا ما أغضب المتشدّدين سابقاً لأنه أسس لجنة برلمانية لحقوق الإنسان. ولقد اتهمت السلطات الحمصي بالتهرّب من الضرائب وهي تهمه استعملها النظام مراراً ضد خصومه. وفي 20 آب أصدر ثلاثون من المثقفين، بما فيهم ميشيل كيلو والفيلسوف أنطوان المقدسي بياناً يطالب بإطلاق سراح (الحمصي) ومحاكمة الذين خرقوا قوانين البلاد وخرقوا الدستور مهما كانت مناصبهم ورتبهم الرسمية.

وبعد ذلك، وفي أول أيلول جاء دور الزعيم الشيوعي و(المحارب القديم) رياض التُرك الذي أُطلق سراحه عام 1998 بعد سجنه لسبعة عشر عاماً-17- وكلها تقريباً في السجن الانفرادي اتهم بتشويه سمعة النظام والزعيم الخالد الراحل الرئيس حافظ الأسد. أما جريمته المفترضة فكانت في مقابلة تلفزيونية شديدة النقد في محطة  الجزيرة الفضائية في منتصف شهر آب ودعوته المباشرة في منتدى جمال الأتاسي في الخامس من آب حيث أدان فيها الجمهورية الوراثية لسورية وطالب بالانتقال من الديكتاتورية إلى الديموقراطية. ولقد أُعتقل التُرك، وعمره 71 عاماً في عيادة طبيب في البلدة الساحلية طرطوس حيث كان يُعالج من مرض في القلب. وفي بيان مكتوب يحتج على اعتقاله، وقعه (216) أكاديمي وصحفي ومؤلف ومخرج سينمائي وأدانوا فيه هذا الاعتقال التعسفي والتدبير غير الشرعي وطالبوا بإطلاق سراحه في الحال كذلك طالبوا بمحاكمة المسئولين عن اعتقاله(11)"

وبرغم هذا الفتور السياسي المتنامي، أعاد البرلماني رياض سيف لقاءات منتداه في 5 أيلول حيث تجمّع(400) شخص وسمعوا محاضرة الدكتور برهان غليون عالم الاجتماع في جامعة السوريون وعنوانها الحاجة لنظام سياسي تعددّي ونهاية للأحكام العرفية... وكان سيف قد أوقف لقاءات منتداه في شباط عام/2001/، ولكنه حَضّرَ لهذا اللقاء رغم فشله في الحصول على الإذن الرسمي اللازم.

وفي اليوم التالي اُسْتدُعي إلى وزارة الداخلية واعتقله ضباط المخابرات وسُجن مع زميله (الحمصي) ومع رياض الترك في سجن عدرا شمال شرق دمشق. وقبل خمس ساعات من اعتقاله صرح (سيف) لجريدة (فايننشَالْ تايْمْزْ) عن عزمه الأكيد على متابعة عمله السياسي رغم اعتقال (الحمصي) و(الترك) لأن السلطات تريد إرعاب الناس وتريدهم أن يعرفوا إنها لا تسمح بأي شكل من الديموقراطية"(12).

وفي الثامن من أيلول اعتقل "كمال لبواني ووليد البنّي والاثنان من الأطباء وكانا يَحضران ندوة سيف وكانا من اللجنة التنفيذية من أجل الدفاع عن الحريات الديموقراطية والحقوق المدنيّة (راجع الفصل الثاني). وفي اليوم التالي اعتقل الاقتصادي عارف دليله وهو شخصية قيادية في حركة المجتمع المدني، كذلك اعتقل رجل الأعمال حبيب صالح، والأستاذ المتقاعد حسّان سعدون. وكان الثلاثة ممن حضروا أيضاً ندوه (سيف). وفي 12 أيلول أعتقل محامي رياض سيف حبيب عيسى، وهو صحافي سابق والمتحدّث بأسم منتدى جمال الأتاسي، بعدما دافع عن موكله خلال مقابلة مع فضائية تلفزيون الجزيرة. وفي نفس اليوم اعتقل فواز تلِلّو الذين كان، مع عيسى، عضواً مؤسّسِاً في جمعية حقوق الإنسان السورية (راجع الفصل السادس).

وصَاحَبَ الاعتقالات السالفة الذكر-حمله سامّه في أجهزة إعلام الدولة لتشويه سُمعة النشطاء بخاصّة (الترك) و(الحمصي) و(سيف). والشيء الذي لا يمكن تصديقه هو أن يومية (الثوره) كان لديها الوقاحة للإدّعاء بان المعتقلين كانوا "يُعرْقلون الحوار الوطني وأجواء الحرية المنتشرة في سائر أنحاء سورية"(13).

محاكمات

من بين المعتقلين لم يحاكم وجاهيا إلا سيف والحمصي.  وكان الأمر جديداً في سورية حيث المعتقلون السياسيون لا يحالون على المحاكمة لسنوات طوال أو يحاكمون في محاكم خاصة (راجع الفصل السادس) لقد أتُهما إنهما "يحاولان تغيير الدستور بطرق غير شرعية" مانعين السلطات من ممارسة واجباتها، وإهانة السلطات وإثارة النعرات الطائفية. وأتهم (سيف) أيضاً بأنه يؤلف جمعية سرّية". 

أحاط ظهورهم أمام المحكمة دراما كبيرة في 30 تشرين أول 2001. و(الحمصي) رافقه من سجن عدرا إلى قصر العدل ثلاثون ضابطاً مسلحاً من البوليس. وأكد (الحمصي) براءته وقال" أعيد المطالب التي ذكرتها سابقاً (والتي كانت سبب اعتقاله). وعندما أدّعى أحد المحامين إن وجود الصحفيين-في المحاكمة- يُثبت وجود الديموقراطية في سورية، صاح البرلماني (الحمصي) من قفصه الفولاذي الذي هو قفص الاتهام-: "لو كان هناك ديموقراطية في سورية لما كنت واقفاً هنا، لقد ذهبنا إلى السجن من أجل الحرية".

غطّى على الجلسة الأولى لمحاكمة سيف في 31 تشرين أول في أجهزة الإعلام العالمية، المؤتمر الصحفي المشترك عن الإرهاب الذي أُقيم في فندق الشيراتون في الجهة الثانية من دمشق بين بشّار الأسد وتوني بلير رئيس الوزراء البريطاني. كذلك (سيف) أنكر بشدة الإدعاءات ضدّه مُعلناً: "إنه متأكد أن الذي رتّب الاتهامات ضدّي هو نفسه مقتنع بكذبها" وطالب بتفسير أساسي وليس تفسيراً عاماً،: "لماذا أنا هنا". وقال" إن النظام القائم في سورية لا يقبل أي رأي أو حجة غير رأيه وحجته... أنا لم اخرق الدستور أنا هنا اليوم لأنني طلبت إنهاء الاحتكار السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي والإعلامي في سورية". وحاول رئيس المحكمة مقاطعة كلامه مرات عدّه ولكن سيف استمر في المرافعة وأحياناً بصوتٍ مرتفع.

وقُدّر عدد المؤيدين لحمصي بثلاثة آلاف اجتمعوا خارج قصر العدل يوم الجلسة الثانية لمحاكمته في 13 تشرين ثاني مما أوقف السير في قلب العاصمة دمشق. وكان المتظاهرون لا زالوا على قناعتهم بحسن نية الرئيس أساساً بحركة المجتمع المدني لذلك هتفوا: "بالدم بالروح نفديك يا بشّار". وحَضَرَ المحاكمة صحفيون ودبلوماسيون من مفوضية الإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية والنروج وفرنسا وإيطاليا واليابان وممثل عن لجنة حقوق الإنسان العربية القائمة في مصر. ودخل الحمصي قاعدة المحكمة يرتدي بذّة سوداء أنيقة وعلى كتفيه العلم السوري. وعندما حاول الكلام أسكته رئيس الجلسة فردّ عضو البرلمان مأمون الحمصي: "لقد قضيت أربعة أشهر في السجن وأعتقد إنني استحق أربعة دقائق من الحديث. هذه ليست عدالة متوجهاً بكلامه لكل من في قاعة المحكمة: "يتهموننا بخرق الدستور وهم أنفسهم الذين يخرقونه." وفيما كان يقاد لخارج القاعة صرخ عالياً: نحن نُضحي بكل شيء من أجل سورية. عاشت سورية وعاشت الحرية وعاش العدل".

في اليوم التالي اقتيد رياض سيف من زنزانته في سجن عدرا للجلسة الثانية للمحاكمة. وامتلأت المحكمة بالأصدقاء وأعضاء العائلة والدبلوماسيين من الولايات المتحدة والنرويج وهولندا وسويسرا وبلجيكا والمانيا. ولما دخل القاعة بعد تأخر خمس ساعات حَظِيَ باستقبال حافل بوقوف كل الحاضرين. وبعد ذلك بقليل أعلنت زوجته (ريم) إنها "فخورة به" وقالت لي إن رياض يشعر بالتفاؤل ولا يهمه ماذا سيحدث"(14). والأوضاع في سجن عدرا حسنة وإن زوجها ومأمون الحمصي هما في زنزانة واحدة. بينما الثمانية الباقون مُوزعون على زنزانتين. وكان يسمح لرياض بالخروج من الزنزانة للرياضة ساعة واحدة في اليوم يعدو خلالها، باستثناء نهار الجمعة (يوم العطلة عند المسلمين). وكان يسمح بزيارته نهار الأحد فقط، "ولكنني طلبت من مدير السجن أن يسمح لي أحياناً بزيارته في أوقات أخرى". هذا ما قالته السيدة (سيف).

وبشيء من التعارض، بينما لم يُظهر أية رحمة في موضوع الناشطين بحركة المجتمع المدني، أحتفل النظام بعيد استلام حافظ الأسد للسلطة الواحد والثلاثين في تشرين ثاني/2001/، بإطلاق سراح مئة من المعتقلين الإسلاميين وغيرهم من السجناء السياسيين وبعضهم كان معتقلاً منذ العام 1987. ورغم الجو السياسي غير المطمئن، أعلنت مجموعة من المحامين السوريين في 15 كانون ثاني/2002/ عن تشكيل لجنة وطنية جديدة للدفاع عن حريّة الرأي والتي ستدعو لتطبيق حُكم القانون وفي اليوم التالي أَعلنت لجان إحياء المجتمع المدني في بيان طويل إدانة لتوقيف الناشطين ولم تزد عماً أعلنته سابقاً في بيان:

"نحو عقد وطني اجتماعي في سورية"

وبعد تأخير طويل حُكم مأمون الحمصي في 19 آذار عام 2002 بالسجن خمس سنوات لأنه "حاول تغيير الدستور بوسائل غير مشروعة"، و"لتحقيره السلطات"، و"تعويق السلطات من القيام بواجباتها". وأسقطوا عنه تهمة إثارة النعرات الطائفية. وجدّد الحمصي إعلانه ببراءته قائلاً: "للحرية والكرامة ثمن... السجن لا يخيفني..."وكان في القاعة لدى صدور الحكم-خمس من الدبلوماسيين الغربيين. وفي الرابع من نيسان 2002 حُكم على رياض سيف أيضاً بالسجن لخمس سنوات لمحاولته تغيير الدستور بطرق غير مشروعة ولتشكيله جمعية سرية. وأسقطت عنه هو أيضاً تهم إثارة النعرات الطائفية. ورد سيف بأعصاب فولاذية مُعلناً إن الحكم عليه هو وسام وشرف له، وصاح: يحيا الشعب الحرية... الحرية. وحضر الدبلوماسيون الغربيون إعلان الحكم عليه.

 وأتهم رياض الترك بإثارة تمرّد مسلح ومحاولة تغيير الدستور بطُرُقٍ غير مشروعة والإضرار بصورة الدولة وبوضعها المالي. وبدأت محاكمته أمام محكمة أمن الدولة العُليا في دمشق لخمسة عشر دقيقة يوم 28 نيسان /2002/ بعد ثمانية أشهر من اعتقاله-حيث أجل رئيس المحكمة النظر في الدعوى إلى 19 أيار لإعطاء الدفاع الفُرصة لدراسة الأدلة التي لم تُقدم بعد للمحامين.

وكان بين الحاضرين دبلوماسيون من الاتحاد الأوروبي والصحفيون وفي الجلسة الثانية في 19 أيار أجّلت المحكمة النظر في الدعوى إلى 27 أيار، وكانت الجلسة في هذا اليوم مغلقة لم يسمح إلا لصحفّيٍ واحد بحضورها وهو مندوب وكالة سانا الرسمية-وكالة الأنباء السورية-مع إنه كان خارج المحكمة جمعْ من الصحفيين والدبلوماسيين الغربيين بالإضافة إلى حوالي مئة شخص من المؤيدين. وقال الترك لرئيس المحكمة إنه يرفض الإجابة على أي سؤال ما لم تفتح المحكمة أبوابها للناس جميعاً. وبعد شهر، في 26 حزيران صدر الحكم عليه بالسجن لمدة عامين ونصف العام.

كذلك مُنع الصحفيون وغيرهم-باستثناء مندوب سانا من حضور جلسات محكمة أمن الدولة العليا لباقي المعتقلين من ناشطي حركة المجتمع المدني. وفي 24 حزيران حُكم على حبيب صالح بالسجن ثلاث سنوات لمعارضته أهداف الثورة وإثارته النعرات العرقية والطائفية. أمّا عارف دليله فنال عشر سنوات سجن ووليد البني حُكم بخمس سنوات سجن، في 31 تموز، وحُكم على حبيب عيسى بالسجن خمس سنوات في 28 آب، ونال فوّاز تللو خمس سنوات سجن، وكمال اللبواني ثلاث سنوات، وحسن سعدون سنتين سجن.

ولقد أثرت الاعتقالات والمحاكمات السياسية بعمق على صورة بشار الأسد بعد ما حاولوا بعناية ونشاط تصويره كزعيم إصلاحي سيجُر بلده معه إلى العالم المعاصر والاقتصاد العالمي من عزلتها التي دامت عقوداً. وقدّر المراقبون إن تأخير محاكمة النشطاء تعكس تردّد المسؤولين وعدم قطعهم الحاسم داخل النظام. ومن المؤكد إن بعض أبناء النظام شعروا إن الاعتقالات مهما كانت أبعادها الأخلاقية غلطة لها نتائج عكسية. أيمن عبد النور أحد أفراد دائرة المستشارين المقربين جداً من بشار، قال لي حَسَب رأيه كان من الحماقة توقيف النشطاء لأنه بهذا العمل تبنّى النظام أجندة النشطاء أنفسهم. وبرأيه إن الموقوفين عمدوا إلى الإثارة المقصودة لكي يعمد النظام إلى سجنهم، "برأيي-وهذا رأي رسمي- إنهم أرادوا دفعنا للقيام بخطوة خاطئة ونجحوا في ذلك بسبب ضيق أفق بعض ضباط المخابرات(15).

ربما كان هذا المنحى من التفكير وراء إطلاق سراح رياض الترك المفاجئ في 16 تشرين ثاني /2002/ رسمياً لأسباب إنسانية. ولم يُتوقع من هذه المحادثة أن تعني المزيد من إطلاق مُعتقلين آخرين، بل أشارت على الأغلب إن النظام أبرز موقفه، وإن له وليس لنُشطاء المجتمع المدني القول الفصل في سورية.

المستقبل المتوقع كئيب:

في خريف عام 2002 بدا غَدُ حركة المجتمع المدني كئيباً حقاً فالنُشطاء المهمون كانوا في السجن. والندوات استمرت في اللقاءات بصورة شبه سرّية أو سرّية تماماً. وفي الوقت الذي لم تعد أجواء الخوف التي طبعت حكم حافظ الأسد، كان المعارضون أكثر حذراً بكثير من أيام (ربيع دمشق) المتهورة السريعة التي كان فيها كل شيء ممكنا. ورغم القهر العنيف لم يرتعب زعماء حركة المجتمع المدني إذ اعتبروا إن مشروعهم هو مشروع طويل الأمد سينجحُ في نهاية الأمر. "أنا لست متشائماً ولا متفائلاً" هذا ما قاله ميشيل كيلو مؤكداً "إن المثقف لا يعمل حسب موازين القوى بل حسب قناعاته ومثالياته" لم تفشل حركة المجتمع المدني بل على العكس لقد شجعت خلق تحالف واسع من الاتجاهات المعارضة-بما في ذلك الإخوان المسلمون ذي الأهمية القصوى (راجع الفصل الخامس).

وقام التحالف على أساس الديموقراطية "الآن لدينا اتجاه إسلامي ديموقراطي، واتجاه علماني-أي-التجمع الوطني الديموقراطي، والمثقفون الديموقراطيون وحركة المجتمع المدني". هذا ما قاله (كيلو). "لقد تشكلت كتله أساسها لأول مرة في سورية، الديموقراطية وأعضاؤها لهم اتجاهات إسلامية ووطنية –قومية-وشيوعية وليبرالية". "في سورية كتلتان الكتلة المؤسسة على الديموقراطية، والكتلة التي تمثل النظام والتي تعلم إنها فشلت وليس لها برنامج حقيقي للإصلاح."

 هيثم المالح الرئيس الشجاع لجمعية حقوق الإنسان السورية وافق على ذلك مشيراً إلى إن القهر الشامل للنظام-الحاكم-كان العامل الأهم في تأسيس هذا التحالف المختلط من الديموقراطيين.

"أنا أشكر حافظ الأسد الذي سجنني" هذا ما قاله لي في لندن في أيار /2002/. "كل الإيديولوجيات كانت في السجن في سورية؛ لقد أقام في منزله وليمة اللحم المشوي وكان الضيوف يمثلون كل الاتجاهات السياسية-شيوعيون وبعثيون وإسلاميون.

قلت: "يجب أن نشكر حافظ الأسد ولو لم نكن جميعاً في سجونه-لما اجتمعنا سويّةً هنا اليوم"؛ وبعد فترة قصيرة في أواخر آب /2002/، صدر أمر باعتقال المالح وثلاثة من جمعيّته (راجع الفصل السادس).

"الإصلاح ضرورة ملحة آنية لا يمكن الهروب منها رغم إنها في الواقع هدف على المدى البعيد" هذا ما قاله ميشيل كيلو "ومن واجبنا أن نعمل على مستويات متعددة. يجب ألا ننسى مشروعنا الأصلي: إحياء المجتمع وإعادة تأسيس السياسة على إنها نشاط مجتمعي. ولكن يجب علينا أيضاً أن نقدم رؤية للإصلاح تضغط على النظام وفي نفس الوقت تُحرك المجتمع. وهذا لن يأخذ وقتاً طويلاً".

وأكدّ "إن حركتنا قد جُمِدْتَ ولكنها لم تمت أبداً ونحن عاقدون العزم على متابعة مشروعنا(18).