سورية ... لا خبز ... لا حرية 2
سورية ... لا خبز ... لا حرية
آلن جورج
ترجمه: د. حصيف عبد الغني
الفصل الثاني
ربيع دمشق
قيام حركة المجتمع المدني
بدا رياض سيف أصغر من عمره الحقيقي -56 عاماً- إلا أن آثار الإجهاد لا زالت ظاهرة على محياه فعيناه ذات اللون البني العميق والذي تؤطّر جفونهما هالة حمراء... في لمعانها بعض حذرٍ من ملاحقه. وطيلة فترة مقابلتنا في مكتبة بقلب دمشق، وكان يجلس بصورة غير مريحة على حافة الكرسي يدّخن باستمرار مقصود: "كلنا رأي واحد"، مؤكداً، بعد أن سحب نفساً عميقاً من لفافته (الحمراء) وهي إنتاج محلي واسع الانتشار، بين العامة". نريد، كحد أدنى خلق دولة الحق والقانون حيث يتمتع كل مواطن سوري بحقوق متساوية. ولكل مواطن فرص متساوية عادلة للتنافس ولكي نصل إلى هذه الحال نريد العناصر الأساسية البديهية للديمقراطية: انتخابات حرة، برلمان مستقل، محاكم مستقلة إعلام حرّ ومجتمع مدني بمنظماته غير الحكومية الرسمية[1]، ورياض سيف الذي أصبح أكبر شوكة "في جنب النظام الحاكم أكد أن سورية الحديثة "يجب أن تعكس ثقافتها الذاتية" لا أريدها نسخة عن أي ديمقراطية أخرى، إلا أنه كان مصّراً، "إن هذه القواعد هي عالمية". فالانتخابات الحرة مثلاً، لا يستطيع أحد القول أن الديمقراطية لا تستلزم مثل هذه الانتخابات".
كان سيف مرة، أحد عصاميي رجال الأعمال الموسرين وكانت صناعته المحلية تنتج أصنافاً رفيعة الجودة نادرة المستوى، فعاقبته الدولة وأشهر إفلاسه ثم اعتقلته بعد وقت قصير من مقابلتي له. ولقد انتخب للبرلمان كمستقل في قائمة دمشق عام 1994، وأعيد انتخابه مرة ثانية لأربع سنوات أخرى عام 1998، رغم أن السلطات قد عقدت العزم على محاربته بإثارة حملة لتشويه سمعته. ولقد ذكرت قبلاً أن وزارة الإعلام حاولت إقناعي بعدم مقابلته على أساس أنه فاسد ولا يمثل إلا نفسه".أنا العدو الأول"، قال لي ضاحكاً "يريدون عزلي بأقصى ما يستطيعون". سيف هو ابن نجّار من الطبقة العاملة في حيّ الميدان بدمشق، ولقد حصل على عمل بنصف دوام في أحد معامل الألبسة عام 1959. وعام 1963 أسس مع إخوته معملاً صغيراً توّسع بعد ذلك ليصبح أحد أكبر معامل صناعة الثياب، يعمل فيه (1400) موظف وكانت شركة (أديداس Adidas) العالمية المتعددة الجنسية أكبر زبون له. وعندما دخل البرلمان لم يظهر أية مراعاة للنظام الحاكم وأدان بصورة متكررة سوء إدارة النظام للاقتصاد وللعديد من نواقصها وعيوبها. وكانت ردة فعل النظام الحاكم باتهامه رسمياً بالتهرب من دفع ملايين الليرات السورية كضرائب... متأخرة عليه، وكانت نتيجة هذه الملاحقة الشيطانية إفلاسه. ولقد تسلح النظام في ملاحقته بتهمة أنه "فاسد" -بتهمة مضحكة، من نظام فاسد- وحاولت السلطات وفشلت في منع انتخابه للبرلمان مرة ثانية في عام 1998.
رئيس جديد... ومزاج جديد
في الشهور الأخيرة من رئاسة حافظ الأسد وفيما كان يحضّر بشار بصورة علنية متنامية للخلافة، كانت أجواء الشدة في سورة قد خفت، وتحرك النظام الحكم باتجاه تبديد النقد الشعبي الساخر له بالسماح بنقاش أوسع رغم تحديد أفق هذا النقد بصورة واضحة. فأساسيات النظام بقيت من المواضيع المحرمة إلا أن بعض أوجه العمل سمح بمناقشتها مثلاً: عدم فاعلية البيروقراطية كان مجال النقاش في أجهزة الإعلام وخارجها. الاقتصاد والسير نحو الليبرالية صارا ميداناً واسعاً للنقاش المقبول.
بشار الذي كان لقبه الرسمي قبل عام 2000م رئيس جمعية الحاسوب السورية، فقط، مثل أخيه الراحل باسل عندما كان يرتّب لاستلام السلطة من والده، -كان يقْرن شخصه بالمزاج الجديد حيث أتى بشباب أكثر دينامية إلى الواجهة متزعماً- رغم كون الأمر مسخرة إلى حدٍ ما – حملة مكافحة الفساد تماما كما فعل باسل أيضا"نحن نحتاج للتغيير"هكذا صرّح لجريدة (الحياة) القومية العربية في آذار من ذلك العام. "نحتاجه اليوم أكثر من أي وقت آخر"[2].
يوم مات الرئيس في 10 حزيران عام 2000م كانت الآمال كبيرة بأن سورية قد تكون على حافة تغيرات ليبرالية سياسية واقتصادية ضخمة. وفي خطابه الافتتاحي للبرلمان في 17 تموز لم يطفئ مشعل هذه الآمال مع أنه بنفس الوقت،لم يقدم شيئاً كثيراً ملموساً في هذا الموضوع.
وركّز على أن واجبه هو العمل على استمرارية سياسات الزعيم الخالد الراحل. وأكد أن والده حضّر لنا أرضاً صلبة وأساساً ثابتاً، وتقليداً كبيراً من المبادئ والقيم! التي دافع عنها وتمسك بها حتى وفاته، بالإضافة إلى البنية التحتية التي أرساها والانجازات الكبيرة التي تمكن من تحقيقها في سائر أمور الحياة في أرجاء وطننا، مما مكننا من السير نحو المستقبل المرغوب بقوة وثقة.
ومع ذلك دعا بشار إلى تطبيق أفكار –خلاّقة- في معالجة مشاكل سورية وأشار إلى الحاجة الملحة للنقد البناء.
وأعلن دعمه "للشفافية" و"المحاسبة" وأبرز الحاجة لاستراتيجيات اجتماعية واقتصادية وعلمية وغيرها والتي تعزز التنمية والصمود.
وفي نفس الوقت أشار إلى أنه ليس ليبرالياً ديمقراطيا، وأن أقصى ما يطمح إليه هو نوع من إعادة تشكيل الجبهة الوطنية التقدمية. المحتضرة "إلى أي حد من ديمقراطية تساءل؟ هل الأمر في الانتخابات، وحرية الصحافة أو حرية الكلمة أو في الحريات والحقوق الأخرى؟ أقول أنه ليس في كل ما ذكرت". جزم بشكل بيّن أن هذه الحقوق ليست هي الديمقراطية... بل هي مجرد ممارسات ديمقراطية ونتاج الديمقراطية"، وجادل بشار بأسلوب مبهم إلى حدٍ ما، أن كل هذه مبنية على تفكير ديمقراطي، وهذا التفكير يستند على قبول الرأي الآخر". وتابع: أنه شارع باتجاهين: الديمقراطية هي واجب يلزم أن نقوم به نحو الآخرين قبل أن يكون حقا من حقوقنا المشروعة(!) وفي رفض واضح للديمقراطية على النمط الغربي، أعلن بشار أنه لا يجب أن نطبّق على أنفسنا ديمقراطية الآخرين. فالديمقراطية الغربية هي حاصل تاريخ طويل، يجب أن يكون لنا تجربتنا الديمقراطية التي تنبع من تاريخنا وثقافتنا وشخصيتنا".
وتابع... واصفا الجبهة الوطنية التقدمية "بأنها نموذج ديمقراطي نشأ من تجربتنا"، وأكد أنه صار من الضروري أن ننمي معادلتها الوظيفية بشكل تستطيع معه الاستجابة لحاجات التنمية".
ويبقى بعض السوريين متشككين بشدة بهذا الكلام والكاتب المحلل السياسي المقيم في باريس صبحي حديدي وهو المثقف الماركسي الواسع الاطلاع من بلدة القامشلي في الشمال الشرقي لسورية، الذي ذهب إلى المنفى عام 1987، بعد أن عانى من وطأة النظام الحاكم الشديدة وسجونه، أقول انتقد حديدي بشار الأسد لإقامته "حركة تصحيحية - موديل ثاني"، وإذا بدا أن سورية مستقرة فبسبب أن لا شيء يتحرك فيها على الإطلاق، ولا شيء يتغير فيها –كذلك– "ليس هناك هجمات على (الدينوصور) لذا ليس هناك مقاومة من الدينوصور"[3]. وسخر حديدي من خطط (لتقويم) الجبهة الوطنية التقدمية قائلاً إن الرئيس الجديد وجد إنه من المناسب تجاهل ما يعرفه كل مواطن سوري بالغ: إن هذه الجبهة كانت منذ إنشائها ابتداءً، جسماً ميتاً واستمر في التفسخ... ناشراً بذلك نتناً لا يطاق منذ ذلك الحين".
ولاحظ مضيفاً، "إن الحاجة لإعادة تفعيل الجبهة الوطنية التقدمية هو ما كان يقوله تماماً الأسد (الأول) في كلمته الانتخابية بعد إعادة انتخابه خلال السنوات الثلاثين لاستلامه السلطة، وأكثر الذين أرادوا التغيير، مع ذلك، تشجعوا بكلمة بشار الافتتاحية. ولقد خاب ظنهم لفشل بشار في تقديم شيء أكثر من عملية ترقيع النظام القائم، إلا إنهم فهموا أن يديه مكبّلتان بإلزامات النظام نفسه، والحاجة للتأكد من ولاء كبار رجال النظام في الجيش وأجهزة الأمن الذين ستعتمد عليهم الرئاسة. كان هناك شعور واسع الانتشار -شجعه صورة بشار التي حرص على الظهور بها قبل موت أبيه- والتي أوحت أنه يفضل، شخصياً، تغييرات جذرية أكثر بكثير. وبتسلمه الرئاسة – أو بتعبير أدق، بموت والده أخذ نشطاء المجتمع المدني زمام المبادرة.
حركة المجتمع المدني:
"بدأت الحركة بعد ساعات فقط من موت الأسد"، هكذا قال صبحي حديدي، "ولم تكن في سورية فقط، لقد تشجع الناس للكلام بصوت مرتفع في لبنان وأماكن أخرى في الشرق الأوسط، حيثما كان هناك ارتباط بسورية. لقد أحس الناس أن الرجل القوي قد مات ولدينا الآن... فرصة"[4].
زرعت البذرة الأولى لحركة المجتمع المدني في سورية قبل ذلك في 28 أيار عام 2000م خلال اجتماع في دمشق بمنزل المخرج السينمائي نبيل المالح. ونظم الاجتماع الكاتب والمعارض القديم ذو الستين من العمر، ميشيل كيلو الذي سجن من عام 1980 إلى 1983 في ذروة التمرد الشامل الذي عمّ البلد على النظام الحاكم. وضم الاجتماع الشاعر والكاتب عادل محمود والمخرج السينمائي محمد القارصلي. وكان موضوع الاجتماع: "كيف يمكننا إحياء الحركة الثقافية والديمقراطية في سورية؟"... كما يتذكر ميشيل كيلو. كان الاجتماع هو افتتاح لحركة المجتمع المدني في سورية"[5].
واستمرت هذه المجموعة في لقاءات غير رسمية إلى أن أعلنت عن نفسها رسمياً كمجلس تأسيسي للحركة التي أطلق عليها اسم (لجان إحياء المجتمع المدني في سورية).
"كان لدينا خياران" كما يتذكر ميشيل كيلو، وكان يتكلم عن الموضوع في بيته المليء بالكتب في شرق دمشق قرب ساحة التحرير وعلى مقربة أيضاً من مسجد الفردوس ومركز رئاسة أركان المخابرات الجوية البشعة المنظر. وكان بإمكاننا العمل كصفوة ونؤسس حزبا سياسيا جديداً. أو العمل بطريقة أخرى نقدم المعرفة والأفكار والتجارب والآراء والعواطف إلى (ذلك الجزء) من المجتمع الذي هو الآن خارج السياسة: للمساعدة على استعادة المجتمع السياسي لدوره من خلال خطة ثقافية نقدمها له".
ليس هناك أنموذج طبقي لتحليل سياسي يناسب الدول الصناعية، يمكن تطبيقه في سورية، على حد قول (كيلو)؛ ليس هناك برجوازية حقيقية ولا كتلة من الطبقة العاملة، "والقوة الاجتماعية الوحيدة القادرة على تطبيق برنامج سياسي هي الطبقة الوسطى"، والتي استولى عليها الجيش (راجع الفصل الرابع)، واستبعدها عن لعب أي دور سياسي فاعل. ويضيف (كيلو): "إذا لم تلعب الطبقة الوسطى دوراً فاعلا في الحياة السياسية، فلن يلعب المجتمع أيضاً أي دور. وكل مشروع سياسي لمواجهة النظام الحاكم يجب أن ينشأ من الطبقة الوسطى أو بعض مجموعات من هذه الطبقة الذين يهتمون بموضوع الديمقراطية بخاصة. ويجب التركيز على تنشيط هذه المجموعات كالمحامين والمثقفين والطلاب "لأن هؤلاء هم الذين يستطيعون نقل الأفكار عن الديمقراطية والحرية في المجتمع". وتطلع رفاق (كيلو) نحو إنشاء لجان على كافة المستويات: المهنية وغيرها التي تربط المشاكل الخاصة بكل قطاع بالمشكلة السياسية العامة".فالمحامون مثلاً، يسعون لدمج المشاكل التي يواجهونها: تدخل جهاز الأمن بالقضاء، وظلم بعض القوانين المطبقة، في برنامج ديمقراطي شامل".
ولقد ذكرني (كيلو) وأصله من مدينة اللاذقية الساحلية، أن "ربيع دمشق" في النصف الثاني من عام 2000م كان استثنائياً، إلا أن النضال من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان لمثقفي سورية بدأ قبل ذلك التاريخ بسنوات عدة، وكان هناك ربيع سابق له في أواخر السبعينات بموازاة التمرد المسلح ضد النظام الذي قام به الإخوان المسلمون. كان (كيلو) في السجن من عام 1980 – إلى 1983 ثم نفي بالقوة بعد ذلك، ولقد ذكر رئيس مكتب جريدة (الحياة) في دمشق الواسعة الاطلاع، الموضوع نفسه كما يلي: "في أواخر السبعينات، وأوائل الثمانينات كان هناك وضع مشابه" تماماً في الحوار بين السلطات والمعارضة (نائب الرئيس نفسه – عهد عبد الحليم خدام ولقاءاته مع المثقفين في جامعة دمشق، حاولنا تفعيل المجتمع المدني وكان هناك مقالات شديدة في الإعلام الرسمي ضد المثقفين. وفي النهاية أوقفت كل هذه الحركة"[6].
رياض سيف، الذي كانت له سمعة تستحقه تماماً كناقد صريح جريء للنظام، كانت علاقاته حميمة مع مجموعة (كيلو) وكان يحضر اجتماعاتهم في آب وأيلول عام 2000م. وبينما كان (كيلو) ورفاقه يتطلعون إلى حركة سياسية ثقافية، كان (سيف) يفضل حملة سياسية أكثر علنية والتي يمكنها أن تجذب الدعم من الإصلاحيين داخل النظام. ولقد التقت مجموعات عدة من المثقفين بصورة غير رسمية وعلى فترات لسنين عديدة لنقاشات حذرة لمواضيع نصف سياسية. ولكن في تموز عام 2000 أطلق سيف مجموعة نقاش سياسي بامتياز على شكل منتدى في مكتبه في عمارة قديمة قرب جسر فكتوريا في قلب دمشق على مرمى حجر من وزارة الداخلية".ومنذ بداية تموز 2000م جمعنا حوالي عشرين من المثقفين في مكتبي للقاء كل نهار أحد. والتقينا هنا حتى نهاية آب" قال سيف "وكان هذا أول منتدى للمجتمع المدني في سورية"[7].
في أواخر آب عام 2000م أصدر، مع رفاقه، بياناً على شكل اقتراح لتشكيل جمعية تسمى أصدقاء المجتمع المدني في سورية". وأكد البيان على الحاجة "لإحياء مؤسسات المجتمع المدني وإنجاز توازن بين دورها ودور الدولة في إطار شراكة حقيقية بينها في سبيل المصلحة الوطنية العليا".
ولقد ركّز البيان – على أهمية حرية الرأي والتعبير واحترام الآراء الأخرى المتعارضة وعلى اشتراك الفرد المواطن – الفاعل والايجابي في الحياة العامة، وتبني لغة الحوار والنقد البناء والتطور السلمي لحل الخلافات فهذه كلها من أهم الأسس للمجتمع المدني". ويضيف البيان: " حكم القانون واستقلالية القضاء وإلغاء المحاكم الخاصة وقانون الطوارئ تشكل الأساس الصلب للمجتمع المدني".
وقانون الجمعيات في سورية رقم (39) يطلب من كل جمعية مدنية أن تؤمّن رخصة من وزارة الشؤون الاجتماعية".كنت أعلم أن إعطاء الرخصة أو الإذن هو قرار هام جداً لا يعطيه إلا شخص في مستوى عال جداً "على حدّ قول (سيف)، لذا هتفت لنائب الرئيس عبد الحليم خدّام وقلت له "يجب أن نتحدث سوياً في أمر هام"، ولم يكن اللقاء مع خدام، وهو أحد التقليديين من الحرس القديم للنظام، جيداً: "لقد قدمت له تصريحنا بالأهداف" كما يذكر (سيف) فقال لي: "هذا انقلاب تريد تدمير النظام واستلام السلطة وهذا هو بيانكم رقم واحد" وفسّر لي (سيف) قائلاً: من الأمر المعروف جداً في سورية أن من يقوم بانقلاب يذيع رأساً في الإذاعة البيان رقم واحد، وأضاف سيف: كانت ردة فعل خدام ذات ردة فعل لواء – جنرال- مهم في البوليس السري وكان المسؤول عن هذا الموضوع والذي التقاه سيف في نفس اليوم. وآثر سيف عدم ذكر اسمه لي ولكن مصادر أخرى قالت لي أنه (بهجت سليمان) الرئيس –العلوي- للفرع الداخلي لأحد أهم وكالات المخابرات –الأساسية-(مديرالمخابرات العامةورئيسها)عملياً في دمشق.
وحسب قول إبراهيم حميدي، مدير مكتب جريدة الحياة في دمشق، فإن الاثنين خدام وسليمان أشارا على (سيف) بتأخير تشكيل جمعيته المخطط لها لأن سورية تدخل فترة إصلاحات وانفتاح في جميع الميادين وفي المستقبل القريب سيصدر قانون تشكيل الأحزاب السياسية. ثم قالا ل (سيف) بدل أن تقيم جمعية أو لجنة للمجتمع المدني، تستطيع حينها تأسيس حزب سياسي والآن يمكنك إقامة مناقشة عامة عن مبادئ وأولوية الحزب. وأضاف (حميدي) إنه رغم شكوكهما العميقة بمشاريع (سيف) أشار كلاهما أن هناك خطين أحمرين فقط:
"لا علاقات بالغربييّن ولا سرية، والانزعاج الذي شعر به بعض أطراف النظام الحاكم من الدعوات للديمقراطية ظهر للعيان أيضاً في ردّة الفعل على رسالة مفتوحة لبشّار الأسد من فيلسوف سوري بارز هو: انطوان المقدسي ونشر في جريدة الحياة في14آب، ليطالب بإصلاحات مماثلة. إذ ذكر المقدسي في الرسالة: أن وضع الشعب السوري يجب أن يتغير من (أتباع) إلى (مواطنين). وجاء الرد الرسمي سريعاً وألغي عقد عمل المقدسي مع وزارة الثقافة.
وفي كانون أول عام 2000م استلم المقدسي جائزة الأمير الهولندي (كلاوس) للثقافة والتنمية، و(كلاوس) هو زوج ملكة هولندا (بياثركس) وأنشئت الجائزة تخليداً لبلوغ الأمير... السبعين من العمر.
والغاية من هذا الصندوق هو تعزيز التفاعل بين الثقافة والتنمية. والمقدسي الذي ولد عام 1915 عندما كانت سورية ولاية من ولايات الدولة العثمانية نال هذه الجائزة لأنه اختط طرق تفكير جديدة في العالم العربي ولأنه استمر حتى اليوم في الدعوة للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وأثمرت أفكاره بأجيال من المثقفين. وكان المقدسي بالنسبة لكثيرين من بلده مرجعاً مهماً وحكيماً كبيراً. وهكذا وجدت وزارة الثقافة ان من المناسب تسريحه.
ومتشجعاً بما قاله خدام وسليمان اعتقد (سيف) أن خططه ليست بعيدة جداً عن النظام الحاكم فتابع نشاطاته: "قررت أن أفتح رأساً منتدى في منزلي مستفيداً من حصانتي كعضو في البرلمان. فدعوت الناس إلى بيتي – كل نهار أربعاء لدراسة موضوع المجتمع المدني. وكل أسبوع كان يقدم أحد الأساتذة محاضرة لمدة ساعة ثم تناقش هذه المحاضرة خلال ساعتين من الزمن. وكانت المحاضرة الأولى في أوائل أيلول لأنطوان مقدسي. وكان عدد الحاضرين يتراوح بين مئتين إلى مائتين وخمسين شخصاً". وأجهزة إعلام سورية التي تديرها الدولة تعمدت إهمال هذه التطورات".لقد تصرفت كما لو أننا غير موجودين" على حدّ تعبير (سيف). ولكن بالمقابل كانت أجهزة الإعلام العربية تعلن عن منتدى (سيف) للحوار الوطني بصورة واسعة وبخاصة في قناة الجزيرة الفضائية في قطر وعدد مشاهديها كبير في المنطقة. لذا كان كل السوريين مطلعين على ما كان يجري في ذلك المنتدى. وبعد ذلك في تشرين ثاني تقريباً، بدأت تظهر منتديات أخرى في دمشق ثم في مدن أخرى، كما يتذكر (سيف) وفجأة صارت منتديات المجتمع المدني في كل أنحاء سورية وليست فقط في دمشق، كما ذكر صبحي حديدي".كان هناك شعور بأن الحرية تتسع باستمرار (10) وخلال ستة أشهر من استلام بشار الأسد للرئاسة ظهرت مئات المنتديات أكثرها كانت تعقد في البيوت وكان الذين يحضرونها يعرفون تماماً أن ردة فعل عنيفة من قبل السلطات لا يمكن استبعادها".وما أن جاء شهر كانون الثاني عام 2000 - إلا وأصبح موضوع المنتديات – موضة – وكل أسبوع تسمع إعلاناً عن افتتاح منتدى جديد". كما ذكر (سيف).
أهل ونسب المجتمع المدني:
ولعرض ماذا يعني المجتمع المدني للسوريين توجهت إلى جلال صادق العظم، أحد أبرز المفكرين في بلده، وكان أيضاً المثقف الذي دعم سلمان رشدي ضد فتوى آية الله الخميني وفي لقاء معه في منزله بالحي (الراقي) غرب ساحة المالكي، قرب القصر الرئاسي على سطح قاسيون المشرف على المدينة، فسّر لي العظم الموضوع: "عندما يذكر المجتمع المدني في الغرب أول ما يحضر للذهن أشياء كالنوادي والكنائس والجمعيات المدنية والنقابات المهنية والعمالية"(11). كان هذا بالتأكيد جزءا من معنى تعبير المجتمع المدني، وفي الحد الأقصى– ما نعتبره نحن من وجهة نظرنا حداً أقصى – تفتيت المجتمع الرأسمالي في الغرب، ويبدو طبيعياً أن يركز معنى المجتمع المدني هناك على أمور كالنوادي والجمعيات الأهلية غير الحكومية التي تجمع ذرات المجتمع، والتي تجمع الناس إلى بعضهم البعض". أما في سورية، بالمقابل، لم يكن هناك نقص في النوادي التقليدية، والجمعيات". حتى في بلد مثل سورية حيث حاولت الدولة ضبط كل مناحي الحياة في الجمعيات، بقي عدد من الجمعيات الخيرية والمنظمات المستقلة".ما ينقصنا نواحي أخرى، أي ما يسمونه في الغرب جمعيات حقوق الإنسان: أشياء مثل الحريات المدنية، استقلالية القضاء، بعض طرق العملية الديقراطية، بعض الاستقلال الذاتي للفرد وفكرة تساوي جميع المواطنين أمام القضاء".
وأكد (العظم): مع الوصل بالأفكار الأوروبية عن الديمقراطية، فإن لحركة المجتمع المدني في سورية أيضاً نسباً محلياً قوياً. وأول برنامج قوي لإدخال فكرة المواطنة التي تسمو على الإخلاص والولاء التقليدي للعائلة والدين طبق خلال حكم الأتراك العثمانيين في القرن التاسع عشر. وبدأت هذه العملية على يدي حاكم مصر آنذاك، محمد علي، حوالي عام 1830. وكانت هناك رغبة في (التحديث) أو (التعصير) لمواجهة التحديات التجارية والتقنية والعسكرية والضغوط الأوروبية. وهذا خط يعود أصلاً ل (البريسترويكا) العثمانية –التنظيمات- "وأنا أسمي هكذا -ما قام به غورباتشوف- التنظيمات الروسية، وأضاف، وما قام به العثمانيون منذ عام 1830 تقريباً (البيرسترويكا العثمانية). وأظن أنها كانت شيئاً يمكن تسميته بالمجتمع المدني مقارناً بما نسميه -أنا وغيري- بالعربية المجتمع (الأهلي) حيث العلاقات عضوية والولاءات عائلية وقبلية وما شابه ذلك".
في أوروبا جاء المجتمع المدني نتيجة مطالب من (تحت)... القاعدة – من الشعب- "أما بالنسبة للإصلاحات العثمانية وعملية التعصير –التغريب- فلقد جاءت من فوق -من الدولة- التي كانت تعتبر أيضاً نظاماً مسلماً، ومن الصفوة التي كانت تحكم الدولة. ومحمد على هو المثل الأول وفي أغلب البلاد العربية وبخاصة المركزية منها مثل سورية والعراق ومصر بقيت الدولة قوة للتعصير، وأدى هذا بالضرورة إلى تفتت متزايد للمجتمع الأهلي وقيام فكرة المواطنة والوطنية وغير ذلك.
والفرق بيننا وبين أوروبا أن العملية عندنا قامت بها الدولة من أجل (التعصير) التحديث – كستراتيجية للحياة والبقاء، بينما جاءت في أوروبا من... تحت.... من الناس" وبمعنى آخر زادت الدولة من نجاحاتها – عن الحد اللازم – "أظن الان، على الأقل في سورية، أن فكرة المواطنة والمجتمع المدني التي تشكلت بلغت حداً يمانع في وصاية الدولة –الطاغي-، مثلا أخذت الدولة على عاتقها تعليم كل فرد كيف يقرأ ويكتب. وهذا أمر حسن قامت به الدولة، ولكن الناس بدؤوا يقولون لها: كفى نرجوك كفّي عن فرض ما تريديننا أن نقرأ".
ويعي (العظم) أن الولاءات التقليدية في المجتمع الأهلي لا زالت قوية مؤثرة وهناك خطر من انفجار العنف إذا تراخت الدولة وخففت من قبضتها الحديدية على (أتباعها). وهذه نقطة نقاش ضمني ونزاع في سورية، كما أكد لي: "إن السلطات تذكّر من يعمل على نشر أفكار المجتمع المدني والديمقراطية وحقوق الإنسان، وغيرها، بحقيقة أن هذه الولاءات التقليدية، قد تعود مجدداً لتفرض نفسها وقد تعود لأوضاع شبيهة بالسودان والجزائر ولبنان: والسلطة تستعمل هنا (التخويف) كعصا تضرب بها حركة المجتمع المدني وتجمد الوضع إلى حد ما، وتستمر هي في السلطة". وقال لي ونقاشنا معهم أننا نعرف قوة هذه الولاءات. وقلصنا من إمكانية سيطرتها –على السلطة– ولكن هدفنا هو تجاوزها بمحاولة تقوية نواحي حياتنا لنصبح مجتمعا مدنيا بالمعنى الحديث لهذا التعبير.
أي بمعنى آخر حيث تصبح (المواطنة) هي الصفة الحاسمة المقررة في مجتمعنا وليس الولاءات الدينية والقبلية". إذا لم نحاول بالتعاون مع السلطات لتجاوز الولاءات السابقة للمجتمع المدني فليس هناك أمل لنا وسنبقى أبداً مجتمعاً تمزقه القبلية والعشائرية والفئوية...إلخ. والطريق الوحيدة لإنقاذ الوضع هو في العمل الصعب لبناء مجتمع مدني بقدر الإمكان.
وكان جزء من الرد الرسمي على حركة المجتمع المدني هو في التأكيد على أن في سورية مجتمعاً مدنيا في الأصل يضم مجموعة من مؤسسات مثل الأحزاب السياسية والنقابات العمالية ومنظمات الفتوة والمنظمات النسائية والجمعيات الإسلامية والمسيحية – وأغلب هذه المؤسسات تديرها الدولة، واستنكر –العظم– هذه العرقلة المقصودة مشيراً إلى أن الطريقة التي يناقشون بها "تجعل المجتمع القبلي مجتمعاً مدنياً، ويمكن – هكذا – لمجتمع العبيد أن يسمى: مجتمعا مدنيا. إنهم يثلمون الشفرة الحادة القاطعة للفكرة: ونحن نريد أن ندفع إلى الأمام في الحركة التي أنشأناها المجتمع ما قبل المدني إلى ما يشبه المجتمع المدني.
وعندما تقول أن كل المجتمع، في النهاية، هو مجتمع مدني تكون قد جردت الحد القاطع للحركة من فاعليته القاطعة".
بيان ال(99):
المعْلم الكبير في تاريخ حركة المجتمع المدني في سورية كان يوم 27 أيلول 2000م عندما نشرت جريدة الحياة بياناً موقعاً من 99 مثقفاً سورياً من المهنيين والفنانيين يطالبون بإنهاء حالة الأحكام العرفية التي أعلنت مع قيام النظام الحاكم منذ عام 1963، وبعفو عام عن جميع المعتقلين والمنفيين السياسيين، وإقامة حكم القانون الذي يعترف بالتعددية السياسية والثقافية وحرية التجمع وحرية التغيير وحرية الصحافة –والإعلام– وتحرير الحياة العامة من القوانين المقيدة لها والمضايقة، ومن جميع أشكال الرقابة المفروضة عليها(راجع الملحق رقم 1) .
وبيان أل 99، كما عرف، أكد "أن لا إصلاح سواء أكان اقتصادياً أو إدارياً أو قضائياً يستطيع إنجاز الهدوء والاستقرار في البلاد مالم يكن مرافقاً للإصلاح السياسي المرغوب: وضمت لائحة الموقعين على البيان ميشيل كيلو، وأنطوان المقدسي، وأدونيس (أحد أشهر الشعراء العرب المعاصرين)، صادق جلال العظم، فارس الحلو، الكوميدي المشهور الذي يعيش في دمشق، عبد الله حنا، مؤرخ يعيش في دمشق الخبير برجال الحركة الوطنية السورية ورجالها في عهد الانتداب الفرنسي، خالد تاجا ممثل تلفزيوني معروف، سراب الأتاسي أكاديمية ابنة الراحل جمال الأتاسي، أحد كبار البعثيين السابقين الذي انشق عن الحزب ليتزعم جناحاً من الاتحاد الاشتراكي العربي (راجع الفصل 5).
ولقد صيغ البيان بعناية ليخفف من انزعاج النظام. لم يكن هناك طلب بالجملة لدمقْرَطَةِ المؤسسات السورية –كلها-. ولم يكن في البيان أي طعم عقائدي، لاتهجّم على الطريقة التي وصل بها بشار الأسد إلى السلطة. ولم يسجل على أي من الموقعين نشاطات مناوئة للنظام سابقاً، لذا لم يترك مجالا للسلطات لإدانة الموقعين على أنهم "أعداء الدولة" أو "عملاء إسرائيل" أما الرد الرسمي فكان ببساطة إهمال البيان، ولم يظهر أي خبر عنه في أجهزة الإعلام المؤممة، والصحف الأجنبية التي نشرت خبره منعت من دخول سورية.
ولكن في النصف الثاني من عام 2000م اتخذت السلطات سلسلة خطوات بدت أنها رد على الصخب المتنامي لدعوات الإصلاح. ففي حزيران وتموز أطلقت سراح العشرات من المعتقلين السياسيين الإسلاميين واليساريين، وكان أغلبهم من جماعة الإخوان المسلمين المحظورة التي واجهت علناً النظام الحاكم في أوائل الثمانينات، ومن أعضاء حزب العمل الشيوعي.
وفي 15 تشرين الثاني أصدر الأسد مرسوماً يقضي بإطلاق سراح (600) سجين سياسي منهم (380) من أعضاء الإخوان المسلمين أما الباقون فكان أغلبهم من اليساريين ومن بينهم (22) من حزب العمل الشيوعي. وأعلنت منظمة العفو الدولية عن أملها في "أن يكون هذا بداية فقط وأن إطلاق سراح كل سجناء الرأي والسجناء السياسيين المعتقلين لسنوات طويلة بدون محاكمة سيتبع ذلك".
ومن السخرية أن تنقل أجهزة الإعلام الرسمية السورية تقرير منظمة العفو الدولية للمرة الأولى التي يعترف فيها النظام بأنه يسجن المواطنين بسبب آرائهم السياسية. وبعد أربعة أيام أصدر الأسد أمراً، بإغلاق سجن المزه العسكري السيئ السمعة في غرب دمشق، بناية كريهة الشكل مؤلفة من طابقين على هضبة مسيجة بالأسلاك الشائكة، بناها الفرنسيون في العشرينات من القرن العشرين. ولاحظ المشككون بالنظام مع ذلك أن هناك العديد من السجناء السياسيين الباقين في السجون السورية وأن أحد أسباب إغلاق سجن المزّه هو كونه أصبح (مفارقة تاريخية) وقذى في العين لمنطقة يسكنها أغنياء العاصمة حيث يعيش كبار رجال النظام. وفي 22 تشرين ثاني صدر عفو عام عن المساجين غير السياسيين وأعلن في ذكرى الثلاثين للحركة التصحيحية لحافظ الأسد. واستفاد من العفو بعض المتخلفين عن الخدمة العسكرية الإلزامية وبعض المهربين والمحتالين (شرط أن يعيد هؤلاء الأخيرين المال إلى ضحاياهم خلال عام)". هذه (المكرمة) الكبيرة، على حد تعبير وكالة الأنباء السورية سانا، من (القلب الكبير) -أي الرئيس بشار- ستدخل السرور والحبور وتثير الشكر والحمد في قلوب الأبناء والزوجات والإخوة والآباء. إنها عنوان محبة القائد للجماهير واهتمامه بحاجة ومتطلبات الوطن والمواطنين".
وفي شهر كانون أول نقل (54) سجيناً سياسياً لبنانياً من السجون السورية إلى السجون اللبنانية. ولقد رحبّت منظمة العفو الدولية بهذه الخطوة "كتقدم في طريق إعادة حقوق الإنسان التي سلبتها القوات السورية العاملة في لبنان لأكثر من عقدين من الزمان".
وشهدت الأشهر التي تلت استلام بشار الأسد للرئاسة عودة بروز إحدى المنظمات غير الرسمية لحقوق الإنسان: "لجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سورية"، وتأليف منظمة أخرى هي: جمعية حقوق الإنسان السورية. وهذه جمعية ظهرت في تموز عام 2000 ترأسها المحامي هيثم المالح الذي سجن لسبع سنوات في الثمانينات (راجع الفصل 6). ولجان الدفاع عن الحريات الديمقراطية وحقوق الإنسان في سورية قامت أصلاً عام 1989 ولكنها أغلقت عام 1991 عندما اعتقل رئيسها أكرم نعيسه مع كبار زملائه. وفي أيلول 2000م اجتمعت (لجان الدفاع عن الحريات....) وانتخبت مجلس إدارة جديداً، ثمانية منهم يعيشون داخل سورية. وفي كانون أول حثّت علناً السلطات الحاكمة لإصدار عفو عام لكل المساجين السياسيين وأعلنت أنها "عادت مرة أخرى للعمل بشكل مفتوح بسبب التطورات السياسية الايجابية في سورية".
وفي آب، بعد قليل من استلامه الرئاسة اجتمع بشار الأسد بزعماء الأحزاب التي شكلت مع حزب البعث الجبهة الوطنية التقدمية لمناقشة أساليب تنشيط الجبهة. وفي كانون أول أعلن أن قيادة حزب البعث قررت السماح للأحزاب الستة المنضوية تحت لواء الجبهة الوطنية التقدمية بافتتاح مكاتب لها في سائر المحافظات وإصدار صحفها. كما تقرر التخلي عن تعيين المسؤولين الحزبيين البعثيين واستبداله بالانتخاب بدءاً من عام 2001م ليستكمل الأمر خلال عام – أي أوائل عام 2002م - وتحسن المزاج العام أيضاً. ففي كانون الثاني /2001/ عندما صدرت رخصة إصدار جريدة (الدومري) أول جريدة خاصة يملكها شخص غير حكومي –رسمي-.
واعتبر المشككون بالنظام الحاكم أن كل هذه الخطوات هي –نصف التدابير– هدفها فقط إيقاف المعارضة للنظام والأكيد أن المتشددين في النظام أمثال نائب الرئيس عبد الحليم خدام عارضوا التنازلات الحقيقية أمام حركة المجتمع المدني إذ اعتبروها خطراً يتهدد (الصرح) ويتهدد كذلك امتيازاتهم الشخصية. وبوضوح كان هناك، مع ذلك، بعض كبار المسؤولين في قمة الهرم، وربما كان بينهم بشار نفسه، كانوا مع الرأي القائل أن إدخال مزيد من الحريات في نظام الحكم لن يؤدي إلى انهيار عام له.
بيان الألف (1000)
برزت ثنائية واضحة داخل حركة المجتمع المدني. شعر فريق أن خير استراتيجية هي تحالف ضمني مع الاصلاحيين داخل النظام الحاكم (!) وان المطالبة بالكثير من الإصلاحات بسرعة قد ينفر البعض من رجال النظام، ومنهم بشار، الذين يعتمد عليهم لنجاح الإصلاح. أمّا الفريق الثاني من حركة المجتمع المدني فكان غير مستعد لأنصاف الحلول وألّح أن النظام غير قادر على إصلاح نفسه وأن على الحركة الاستمرار في مطالبها مهما كان موقف النظام الحاكم. وبعض المراقبين وضعوا ميشيل كيلو مع الفريق الأول ورياض سيف مع الفريق الثاني. وآخرون من المراقبين يعتقدون العكس تماماً –بالنسبة للرجلين– ولقد ذكرت بعض التقارير أن الفريقين في الحركة اختلفا وتباعدا كلياً عن بعضهما البعض في موضوع إدارة حركة المجتمع المدني.
من المؤكد أن (كيلو) شعر أن (سيف) مغرق في التفاؤل "اعتقد انه (ليش فاليسا) لاتحاد نقابات التضامن التي قادت الحركة الداعية للديمقراطية في بولونيا وأن النظام السوري الحاكم على وشك الانهيار".
هذا ما قاله (كيلو)12، "قلنا له أن النظام في سورية يجب أن يتفكك تدريجياً ولا يمكن قلبه بحركة شعبية". "وعزا (كيلو) سلوك (سيف) إلى عدم خبرته في السياسة". من ناحية أخرى أظهر (سيف) حذراً شديداً بلقائه مع خدام وسليمان، والادعاء بأن (سيف) تنقصه الخبرة يبدو في غير محله عندما نرى أن سيف تمسك بخلقه وموقفه في وجه حملة رسمية من المضايقات أدت إلى إفلاسه.
وتبدو التقارير التي قالت بوجود انشقاق هام بين (سيف) و(كيلو) أمراً مبالغاً فيه. والحقيقة أنهما كانا يعملان على مشروعين منفصلين ومتكاملين في آن معاً. من المؤكد أن هناك اختلافا بينهما ولكنه يبدو اختلافاً شخصياً أكثر مما هو سياسي ولم يصل إلى حد تجميد العلاقات بينهما".ظن الناس أن رياضاً والآخرين (مجموعة كيلو) على خلاف وكتبت الصحف عن هذا الخلاف الذي لم يكن موجوداً – أصلاً-". هذا ما قاله حسام شحاده مدير مكتب سيف".رياض وميشيل بقيا على اتصال، كانا يهتفان لبعضهما وحضر ميشيل آخر محاضرة لبرهان غليون (أستاذ علم الاجتماع في جامعة السوربون الذي قدم نقاشاً لخمس ساعات عن اقامة نظام متعدد الأحزاب وإنهاء الأحكام العرفية) في بيت رياض سيف. كان ذلك قبل يوم واحد من اعتقال رياض سيف (راجع الفصل الثالث)13.
وفي كانون الأول عام 2000 قدم تنظيم (كيلو) بياناً ثانياً كبيراً صياغة البيان متعرجة ملتوية تعكس مختلف الميول الموجودة في مجموعة (كيلو)".كان هناك اختلاف" على حد قول مدير مكتب جريدة الحياة في دمشق إبراهيم حميدي "عندي كل الوثائق وهناك ثلاث صيغ. كان هناك اختلاف ليس في لزوم البيان بل في لغته"14.
ولقد سربت مسودة البيان قبل توقيع الأشخاص الألف عليه. وظهر مقال ينقل الكثير من البيان في جريدة السفير البيروتية في 11 كانون الثاني 2001م، وبعد ذلك بقليل نشرته الصحف العربية كاملاً (راجع الملحق الثاني).
وأكدت الوثيقة الطويلة أن على سورية أن تتعلم بسرعة من دروس العقد الماضي وتخطط لمستقبلها "بعد تراجع حالها على الصعد الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية وعلى تحديات العولمة والتكامل الاقتصادي وتحديات الصراع العربي الإسرائيلي.
سورية اليوم بحاجة لجهود كل أبنائها لإحياء المجتمع المدني والضعف في المجتمع حرمها من التنمية. ومسيرة بناء إمكانياتها الوطنية اللازمة الحاسمة". والبيان الذين سميّ أيضاً الوثيقة الأساسية – أكد على ان المجتمع المدني كان موجوداً قبل أن تسلبه الشرعية الثورية "الشرعية الدستورية" ولقد همش المجتمع المدني عن طريق إقامة دولة الحزب الواحد واللون الواحد والرأي الواحد حيث اختزلت (المواطنية) للفكرة الضيقة. بمعنى الانتماء للحزب الواحد والولاء الشخصي. والذين يمسكون بزمام السلطة يعتبرون بقية المواطنين مجرد قطيع بينما ثروة الدولة ومؤسساتها ومصادر البلد ومؤسسات المجتمع المدني كلها إقطاعيات ُتوزّع على الأتباع والموالين".
على حد قول البيان الألف (1000)
وتهميش المجتمع المدني تهميش للدولة ذاتها لأن الاثنين مترابطين "والمجتمع المدني يشكل المادة الأساسية للدولة الحديثة، بينما الدولة هي التعبير السياسي للمجتمع المدني. والاثنان معاً يشكلان حكومة النظام الديمقراطي". وعبر البيان عن ثقته بأن سورية لا زالت قادرة على إعادة بناء حياتها الاجتماعية والسياسية، وإعادة بناء اقتصادها وثقافتها، وتستطيع تجاوز العلاقات والبنى التي أنتجت الطغيان، في إشارة إلى موت النظام السوفيتي وهو الذي كان نموذجاً لديكتاتورية (سورية البعثية).
وأكد البيان أن نتائج الانقلابات على السياسة الديمقراطية باسم الاشتراكية واضحة الآن للعيان. وكذلك من الواضح الآن أن آثار الفشل بالاعتراف بحقيقة التعدد الاجتماعي والثقافي والتنوع السياسي. وكذلك الفشل بالاعتراف بالقانون كتعبير عما يجمع المواطنين كحل وسط تاريخي بين مختلف المصالح والمجموعات.
هناك ضرورة قصوى اليوم لإحياء المؤسسات المجتمعة والاجتماعية حرة من أي سيطرة للسلطة التنفيذية ولأجهزة الأمن التي اغتصبت كل السلطات، "وحرة أيضاً من كل الأشكال التقليدية للروابط الاجتماعية والعلاقات والبنى القبلية والطائفية". هذه أمور مطلوبة "ضرورة" لإعادة السيادة إلى المجتمع "كوسيلة لإنجاز التوازن الحاكم بين الدولة والمجتمع وتنسيق الفعاليات بحيث نحرز الحرية والمساواة والعدل". وأكد البيان أن الوحدة الوطنية تتدّعم هكذا كما كرامة وسيادة الدول ويصبح حكم القانون الحكم النهائي بين الجميع". لذلك جزم البيان أن لاحق "لأي مجموعة اجتماعية أو سياسية أن تقرر لوحدها أين تكون المصلحة الوطنية ولا الأساليب التي يجب اتباعها للوصول لتلك المصلحة". ودعا البيان جميع الأطراف – بما فيها الطرف الحاكم الحالي لتقديم برامجها "للمناقشة والحوار". وأعلن البيان "أنه لا يمكن قيام أي حوار دون حرية الرأي والتعبير، ووجود الأحزاب السياسية الحرة والنقابات العمالية والمهنية –الحرة– والإعلام الحر، والمنظمات الاجتماعية الحرة والتمثيل النيابي الأصيل –الحقيقي– الذي يمثل فعلياً وواقعياً الشعب".
وأكد البيان أن الإصلاح الاقتصادي سيفشل لا محالة ما لم يسبقه أو يرافقه حزمة شاملة من الإصلاحات السياسية والدستورية".
وعدد البيان ثمانية تدابير ملحة:
- إلغاء حالة الطوارئ والمحاكم الخاصة والأحكام العرفية والقوانين المتعلقة بها، وإطلاق سراح المعتقلين والمساجين – السياسيين وتصحيح أوضاع من جردوا من حقوقهم المدنية وحقهم في العمل خلال (حكم) حالة الطوارئ والمحاكم العرفية، وعودة المبعدين السياسيين.
- إطلاق الحريات السياسية وأبرزها حرية الرأي والتعبير والتشريع لتنظيم النشاطات للأحزاب السياسية والجمعيات والنوادي والمنظمات الأهلية – غير الحكومية-.
- إعادة قانون المطبوعات والإعلام بعامة ليضمن حرية الصحافة والنشر.
- إصدار قانون ديمقراطي لتنظيم الانتخابات على جميع المستويات تحت رقابة قضاء مستقل ليصبح البرلمان –أو المجلس النيابي– مجلساً تشريعياً حقيقياً –أصيلاً– ومؤسسة رقابية تمثل إرادة الشعب.
- ضمان الاستقلال التام وسلامة القضاء وتطبيق القانون بالتساوي على الحاكمين والمحكومين.
- إعطاء المواطنين حقوقهم الاقتصادية (وأكثرها في نصوص الدستور) وبخاصة حقوقهم بحصتهم العادلة من الثروة الوطنية والعمل المناسب، وحفظ حقوق الأجيال القادمة في نصيبهم العادل من ثروة الوطن وحقهم في بيئة نظيفة.
- التسليم بادعاء الجبهة الوطنية التقدمية أنها تمثل القوى الأكثر حيوية في المجتمع السورية وأن البلد ليس بحاجة لأكثر من تنشيط الجبهة" يديم الاستنقاع الاجتماعي والاقتصادي والشلل السياسي". كذلك أصبح لزاماً إعادة النظر في علاقات الجبهة بالحكومة، وإعادة النظر في فكرة أن (حزب البعث) هو الحزب القائد للمجتمع والدولة.
- إنهاء التمييز القانوني ضد المرأة.
واختتم البيان بالدعوة لإقامة لجان لإحياء المجتمع المدني في سائر قطاعات الحياة في سورية بغاية إنهاء الاستنقاع الذي يضاعف تخلُّفنا عن ركب التنمية العالمية، واتخاذ الخطوة نحو مجتمع مستقل حر وديمقراطي.
وكان بيان الألف (1000) هجوماً كاسحاً على أسس حكم البعث. وبخلاف (بيان 99) طالب بوضوح بنظام سياسي ذي تعددية حزبية كذلك شكك بصراحة بدور (الحزب القائد) لحزب البعث. وبوضوح أكثر من (بيان أل 99) ألح على أن برنامج الإصلاح الاقتصادي الذي يتلهى به النظام سائر نحو الفشل دون تغيير سياسي كاسح بل ثوري. وبعد ثلاثة أيام من نشر البيان عبر (كيلو) عن تقديره لأن السلطات لم تعمد إلى منع الصحف العربية التي نشرته ولا اتخذت أي تدبير ضد موقعيه ولا ضد الصحافيين الذين علقوا عليه. وقال (كيلو) لجريدة الحياة: "نحن ممتنون جداً لانفتاح الزعامة – ويمثلها الرئيس بشار الأسد – التي تعاملت بإيجابية مع هذه الوثيقة"15.
وفي 23 كانون الثاني أعلن محمد صوان، العضو السابق في الاتحاد العربي الاشتراكي (حزب ناصري من أحزاب الجبهة الوطنية التقدمية)، عن مشروع لتشكيل (تآلف الديمقراطية والوحدة). ولاقى هذا التجمع الجديد دعم بعض الشخصيات اليسارية والقومية بهدف تقوية الوحدة الوطنية عن طريق حوار ديمقراطي على حد قول (صوان)16. وبعد أسبوع تحول التركيز مرة أخرى على رياض سيف الذي أعلن في 31 كانون الثاني خلال لقاء منتدى الحوار الوطني، أنه يخطط لتشكيل حزب سياسي مستقل ويكون اسمه: حركة السلام الاجتماعي "سنركز على الجيل الشاب الذي يحق له الإسهام النشيط في بناء المستقبل دون وصاية ممن لهم تجارب سياسية"، كما صرّح (سيف) لمدير مكتب (الحياة) إبراهيم حميدي17. وأضاف أن حزبه لن يكون "تحت وصاية أية اتجاهات سياسية ارتكبت أخطاء ولم تمارس، عندما كانت نشطة في السياسة، الديمقراطية التي تبشر بها الآن". الكثير من نشطاء المجتمع المدني لهم خلفية يسارية / ماركسية، و(وخزة) سيف الواضحة كانت موجهة إلى منافسيه في المجلس الدستوري للجان إحياء المجتمع المدني.
وبالنسبة للمتشددين في النظام الحاكم كانت محاولات إنشاء أحزاب سياسية... القشة التي قصمت ظهر البعير.