أيمن جعفَر و أسْفارُ الجَحِيمْ

أيمن جعفر محمد يوسف - البحرين

[email protected]

صدرتْ للقاصّ البحريني أيمن جعفر محمد يوسف باكورة أعماله الأدبية ، مجموعته القصصية الأولى بعنوان " أسفارُ الجحِيم " عن المؤسسة العربية للدراسات و النشر ببيروت ، و ذلك ضمن سلسلة الإصدار الأول لمركز الشيخ إبراهيم للثقافة و البحوث في البحرين و المؤسسة العربية للدراسات و النشر .

المجموعة التي جاءت في 208 صفحات من القطع المتوسط ، ضمَّتْ بين دفتيْها خمسة عشر قصة وفق ترتيب  زمنيّ ، بدءً بالأقدم فالأحدث ، لتتيح للقارئ فرصة اكتشاف المستوى التصاعدي للقاصّ ، حيث إنَّ القصص مكتوبة في الأعوام 2004 ، 2005 و 2006م ، و قد أشارَ المؤلف إلى أنَّه ارتكب إعادة خمس قصص كان قد كتبها في العام 2003م ، و ذلك في

" وشوشته " للقارئ .

القصص الخمسة عشر حملتْ عناوين (أحاسيس صحراويَّة ، أهازيج القمر ، فوانيس شاحبة ، بين حيرتين .. غابات أسئلة ، عواصف خاسرة ، الشتاء يحترق وجدا ً، الضفة الأخرى من الوهم ، شذا الأيَّام ، حقائب الدهشة ، مدائن الحنين ، مرافئ السحر ، ليلة البهر ، أسفار الجحيم ، أبجديّة الوجع و طوفان الضياء ) ، و تناولتْ مواضيع شتى بتقنيات  سرديَّة  متنوعة ، و بلغة شعريَّة تؤكد على نظرة القاصّ تجاه اللغة في القصة الحديثة ، و هو ما جعل من الدكتور منذر عياشي الناقد و المترجم المعروف يتساءل لدى تقديمه للمجموعة عن البعد الفاصل  بين القصة عند القاصّ و القصيدة الحديثة .

قدَّمَ للمجموعة د. منذر عياشي تحت عنوان " قراءة ٌ في خبْءِ المكتوب و حساسيّة السّطور " و تناول بشكل موجز بعض القصص ، و التي يؤكد فيها على بعض سمات السمت الذي اتبعه القاص لنفسه ، و ملتقطا ً بعض جماليات القصّ عند صاحب " أسفار الجحيم " . و نقتطف من هذا التقديم ما قاله الدكتور منذر عياشي لدى توقفه عند قصة " فوانيس شاحبة " حيث يقول : " القصة الثالثة هي بعنوان " فوانيس شاحبة " . لو تركتُ موضوعها و مضمونها ، و مصير بطلها الذي تتغيّر أقداره ، فماذا يبقى من هذه القصة ؟ هل يبقى شيءٌ منها ؟

ليس سؤالا ً إعجازيا ً و لا تعجيزيّا ً . فأنا بالفعل ، متأثر بفكرة القصة ، و لكني أكثر تأثرا ً بالفن الذي جعل من هذه الفكرة قصة . و إذا كان صحيحا ً أن مصائر الناس تعنيني و تعني كل إنسان ، فإنه لا مجال أمام الفن و في رحابه أن نخوض غمار مزاودات شعارية على غرار ما يفعل بعض " المتحزبين " هنا و هناك ، و أنا في الواقع أسميهم

" المتخربين " .

القصة هنا حديث عن موقف . فهل هي قصة إيديولوجيا النضال ، نضال المظلوم ضد الظالم ؟

ربما تكون كذلك . و لكن أعود إلى سؤالي المركزي . إذا تركت هذا الموضوع و ابتعدت عن هذا المضمون ، هل يبقى شيء في القصة ؟

إن الفن الحقيقي حيز يستطيع القارئ أن يقف فيه على مُتع ٍ ألوانها مختلفات . و من تلك المتع ، أو على رأس تلك المتع تقف اللغة و جمالياتها .

صحيح ، إنه ليس مطلوبا ً في كاتب القصة أن يكون بلاغيا ً ، و لكنه إذا كان أنيق العبارة أولا ً ، و عرف كيف يجدل العلاقة بين عباراته الأنيقة و المضامين التي تحملها تعبيرا ً عن موضوعه ، فتلك غاية لا يبلغها إلاّ من علا كعبه و نهضت قامته في الفن الذي يمارسه . و لقد نستطيع أن ندلّ على ذلك ببعض العبارات الأنيقة المبثوثة هنا و هناك ، و التي تشكل هي وحدها متعة القصة إذا تساءلنا ماذا يبقى إذا وضعنا مضمون القصة و موضوعها جانبا ً .

و من هذه العبارات ما يلي :

" ها أنت ذا تتسوَّل حلا ً ناجعا ً " ، و " وجهك الملوّث حزنا ً " ، " ما فتئ أرقا ً " ، " قد أصبحت قبلة ً للأوجاع التي تأتيك من كل جرح ٍ عميق " ، " ينتحر صوتك " ، " الحرائق تستعر فيك " ، " فهل أضحى قدرك سامريا ً ، أن تقول لا مساس " ، " تستحيل الدنيا كلها في نظرك إلى مخبأ أسلحة " ، " حزنك الأنيق يرفض تلويث ثيابه الأنيقة في وحل الصراخ " ، " الذكريات عنكبوت تلفك " ، " يرنو إليك العنوان ، تشيح بوجهك عنه ، لكن بعدما فتح فيك شوارع ذكريات أليمة لن توقفها إشارات ضوئية " ، " تصهل فيك خيول العمر " ، " تدوس على أيامك اليابسة " ، " كنت حقلا ً غريبا ً في ظلمة دامسة ، و الآن حقل فرح ٍ يورق جذلا ً " .

  إنّ هذا الرصيد من العبارات الأنيقة ، على اختلاف نسيجها الأسلوبي و الاستعاري و المجازي ، لتعطي المكتوب نكهة الخصوصيّة . و القارئ لشدة ما يلتذ بافتراع المكتوب قراءة ً ، يحسبُ أنّ هذا النص ما كتب إلاّ له . و من هنا ، فإنّ لغة ً كهذه لتجعل النصّ بكرا ًمع كل قراءة ، و مولودا ً جديدا ً مع كل قارئ . "

وو في ختام تقديمه يراهنُ د. منذر عياشي على القاصّ عند قوله :

" في الخاتمة

لم يعد في هذه المقدمة المجال مفتوحا ً للمزيد ، و لكننا نراهن أن أيمن جعفر محمد يوسف قد سلك في كتابة القصة القصيرة طريقا ً تظهر فيه براعته ، و فرادته ، و تميزه ، كما نراهن أن هذا الكاتب ما عاد بإمكانه أن يتوقف ، و هذا بالطبع رهان يقوم في عالم الغيب ، و لكن الكتابة التي سجلتها القصص هنا تكشف نوعيا ً عن امتزاج الكائن الشخصي للكاتب بالكائن النصي للقصة . و إن مثل هذا الامتزاج ليشبه الزواج الأبدي الذي لا ينفك منه إلاّ بالموت . و من هنا فإننا نطلّ بنظرنا على المستقبل حيث نرى الكاتب أيمن و قد رفد المكتبة العربية بنفائس قصصية قيّمة ، تجعل منه علامة بارزة في عالم السرد . "

  جديرٌ بالذكر القول إنَّ القاصّ افتتح قصصه بعبارة " هَذِهِ أسفارُنا فاقرَأوْها مُكتشِفِيْنْ " دعوة ً منه إلى قراءة  أكثر عمقا ً ، بما ينطوي عليه الاكتشاف من متعة  و عمق  في الفعل القرائيّ .

   تصدير القاصّ لعنوان قصة " أسفار الجحيم " يحمل دلالات كثيرة ، و مشكلات ستستوقف القارئ و الناقد بداية ً بالعنوان ، و منذ أول كلمة  فيه " أسفار " ، مرورا ً بالتقنية ، و ليس انتهاءً عند الموضوع و الرؤية و اللغة . و هذا التصدير أو عنونة المجموعة بعنوان هذه القصة يحمل في ثناياه الكثير من الأمور الفنيّة و الموضوعية و النقدية .

و إذا عدنا إلى القصة فإننا نجد القاصّ قد صدّرها بقوله : " نَحنُ الذِيْنَ أَحَلنا تاريْخنا مِنْ أسفارِ نَعِيم ٍ إلَى أسْفارِ جَحِيم ٍ مَا فتِئنا فِيْ ُأوَارِهَا نحْترِقُ !!".

الناشر اختار المقطع الآتي من قصة " ليلة البُهر " : "  تابعتُ تقدمي ، أبتعد عن مكامن الخطر إلى الأماكن الأقل خطرا ً ، الحجارة تتساقط ، يسقط قلبي في بركان الخوف ، أقشعرُ هلعا ً ، أمدّ يدي إلى الأعلى لأتشبث بشيء ما ، تصطدم بشيء حاد ، تنزف يدي اليسرى ، و تجف رغبتي في الوصول ، أنزلق . عقب تمسكي بغصن قوي توقفت عن الانزلاق . نظرتُ إلى يدي في ضوء القمر فوجدتُ بحر الجرح من بين اصبعي السبابة و الوسطى مرورا ً بما يسمى خط الحياة في كفي . لا أعلم السبب ، غير أن الألم يتناسل . فكرة التراجع تعاودني ، نظرتُ إلى الأسفل . قطعتُ مسافة ً كثيرة ، على أنَّ باقة من العيون تومضُ . أشحتُ عنها ، و تنهدتُ زافرا ً : " الصعود صعب .. جدّ صعب " !!

قلتُ هذا مع أني شخصيا ً أدرك ألاَّ شيء صعب . هل أخبركم لماذا ؟ ". 

و من أجواء المجموعة نقرأ من قصة " طوفان الضياء " : " مِنْ حقكَ الآن التحليقُ في مجرَّاتِ الفرح ، إقامة ُ عَرْش ٍ سماويٍّ مرصَّع ٍ بالغيماتِ المتقنةِ صفاءَ الحليبِ ..من حقكَ تلوينُ لوحة ِ القلبِ بألوان البهجة ِ المائيَّة ِ ، الغرقُ الآمنُ في فتنةِ الوقتِ ، كيف لا و هاهي أيامُ حزنكَ تذوبُ سُكرَا ً في كوبِ ذكرياتكَ ، و تتجمَّدُ أوقاتُ معاناتكَ في ثلاّجةِ ذاكرتكَ ؟؟!!

كيف لا ، و أخيرا ً أخيرا ً ، سَتفتحُ ستارةُ حاضركَ ؛ مستقبلة ً قوافلَ الضِّيَاء  ، طاردة ً عبر ما حدثَ اليومَ ، كائناتِ الهواجس المزعجة ، و روائحَ الأسى المقرفة ، المحترفة تشويه روحكَ ببخور الألم الرديء ؟؟!!

مُذ سمعتَ الخبرَ ، و أمطارُ السُّكرِ تهطلُ فيكَ ، البنفسجُ يورقُ في عينيْكَ ، أحاسيسكَ ترتدي ينابيعَ الياسمين ، بكعبةِ الفخرِ تطوفُ ، حافية ً من الندم ِ .

أوَّاهُ .. أحقا ً سيتحققُ ما نزفتَ لأجلهِ انتظارا ً ؟ ليُشنقَ ما جعلَ أحلامكَ مؤجلة ً أو كما دَعَوْتها " ميتة ً حتى إشعار ٍ آخر " ؟ ليُدحرَ ما تسبَّبَ في دخول ابتسامتكَ غرفة العملياتِ المركزة ؟ " .