الحَمَاسَةُ البَصْرِيَّة
أ.د/
جابر قميحةمِنَ الحقائق التي حملها إلينا التاريخ، وسرت مسرى الأمثال، قولهم: "العرب أمة شاعرة". وكذلك قولهم: "الشعر ديوان العرب". ولا مبالغة في ذلك: فالشعر هو الذي حفظ تاريخهم، وأيامهم، ومسيرة حياتهم.
**********
نعيش في هذا المقال مع كتاب من كتب المختارات الشعرية هو (الحماسةُ البصْرية) لصدرِ الدين علي بنِ أبي الفرج بن الحسن البصري. المتوفى سنة (656) ست وخمسين وستمائة هجرية.
وفي تصدير الحماسة البصرية أعلن صدر الدين الدوافع التي جعلته يقومُ بهذا العمل العظيم. فمنه إيمانه "بأن المجاميع الشعرية صِقالُ الأذهان، ولأنْواع المعاني كالترجُمان"، وكذلك ليقدمهُ لخزانةِ الملكِ الناصر صلاحِ الدين أبي المظفر صاحبِ حلب، ثم الشام الذي كان "لهجًا بأشعارِ العرب التي هي ديوان الأدب".
ويعلن البصريُّ أنه في مختاراته تفادَى العيوبَ التي وقع فيها بعض أصحاب المختارات قبله. كما عرَّف الأغراض الشعرية التي اندرجت تحتها مختاراته:
فالحماسةُ والبسالةُ تعني وصفَ الإنسانِ بالشجاعةِ والشدة في الحرب، والصبرِ في مواطنها.
والمدح والتقريظ والفخر: ما وُصِفَ به الإنسانُ من حَسَبٍ، وكرمٍ، وطيب أصل.
والرثاء والتأبين: هو ما كان مدحًا وثناءً على الميت.
والأدب: ما وصفت به الأخلاقُ المحمودة من حياءٍ وعفةٍ وإغضاءٍ عن الفحشاء، ومسامحة زلات الأخلاء.
والغزل والنسيب: هو وصف النساءِ، بالجمالِ والحسنِ والتعبير عن الغرام بهن.
والقِرَى والضيافةُ والكرم، ما يوصف به الإنسان من إيقاد النيران، وكثرة نباح كلابه.
والهجاءُ: هو ما وصف به الشخص من بخلٍ وجبنٍ وسوء خلقٍ ونميمة.
والنعت أو الوصف والمُلحَ: ما وصفتْ به الأشياء على اختلاف أجناسها وأنواعها.
والزهد والعِظة: ما ذكر من الإنابة إلى الله، ورفض الدنيا.
**********
وبعد هذه التعريفات التي صدر بها البصريُّ حماسته يقدم مختاراته جاعلا لباب الحماسة الحظ الأوفى. وقد آن لنا أن نعيش مع قطوفٍ من هذه المختارات في باب الحماسةِ نلتقي بالشاعرِ الجاهليِ عَبيدِ بن الأبرصِ في الأبيات التالية:
يـا ذا الـمخوفنا إنـا إذا عـض الـثقا نـحمي حقيقتنا وبعـ هلا سألت جموع كسـ أيـام نـضرب هامهم نـحن الألى فاجمع جم | بقتـلِ أبـيـه إذلالاً ف برأس صعدتنا لوينا ض القومِ يسقط بين بينا رة يـوم ولـوا أين أينا بـبـواترٍ حتى انحنينا عـك، ثـم وجههم إلينا | وحَينا
**********
ويفخر عمرو بن الإطنابة الأنصاريُّ بما يتحلى به من صفات الفروسية في صورتها المثلى، فيقول:
أبـت لي عفتي، وأبى بلائي وإقـدامي على المكروه نفسي وقـولي كلما جشأت وجاشت لأكـسـبـها مآثر صالحات بذي شطب كمثل الملح صافٍ | وأخـذي الحمدَ بالثمن وضـربي هامة البطل المشيح مـكانك، تحمدي أو تستريحي وأحمي بعد عن عرض صحيح ونـفـسٍ مـا تقر على القبيح | الربيح
**********
ويفخر بشار بن بردٍ بنفسه وقومه إذا ساروا جهرا إلى جيش جرارٍ قوي، وهزموه هزيمة نكراء، فقتل من قتل، وهرب من هرب يلاحقه العار. يقول بشار:
وجـيـش كمثل الليل يرجف غـدونـا له، والشمسُ في ستراتها بضربٍ يذوق الموت من ذاق طعمه كـان مـثـار النقع فوق رءوسنا | بالقناوبـالـشـوك والخطي، حمر تـطـالـعـنا، والطلُّ لم يجر ذائبهْ وتـدرك مـن نـجى الفرارُ مثالبهْ وأسـيـافـنـا لـيل تهاوى كواكبهْ | ثعالبه
ويفخر صالحُ بن جَناحٍ اللخمي بالصفةِ ونقيضها، وأبياته تذكرنا بقول عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحدٌ علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا
يقول صالحُ بنُ جناح:
لـئـن كنت محتاجًا إلى الحلم إنني ولـي فـرسٌ لـلـحلم بالحلم ملجمٌ فـمـن شـاء تـقويمي فإني مقومٌ وما كنتُ أرضى الجهلَ خدنا ولا أخًا فـإنْ قـال بعض الناس فيه سماحةٌ | إلى الجهلِ في بعض الأحايين ولـي فـرسٌ للجهل بالجهلِ مسرجُ ومـن شـاء تـعويجي فإني معوجُ ولـكـنـني أرضى به حين أحرجُ لـقـد صـدقوا، والذل بالحر أسمجُ | أحوجُ
**********
وتبقى لامية الشاعر الجاهلي السَّمَوْأل بن عاديا من أشهر القصائد في الشعر العربي، وأعمرها بالقيم الإنسانية الأصيلة، ومنها نقتطف الأبيات التالية:
وقـائلةٍ: ما بالُ أسرةُ تـعـيـرنا أنا قليلٌ عديدُنا وما ضرنا أنا قليلٌ وجارنا وما قل من كانتْ بقاياه مثلنا | عادِياتـبارى، وفيهم قلة فـقـلتْ لها: إن الكرام قليلُ عزيزٌ، وجارُ الأكثرين ذليلُ شـبابٌ تسامى للعلا وكهول | وخمول؟
**********
وفي الحماسة البصرية قصائد ومقطوعاتٌ ترتبطُ بمواقف طريفة، قد تثيرُ الابتسامَ أو الضحك: فالشاعر الجاهلي، أوسُ بن حجر تعاتبه صاحبتهُ عتابًا مُرًّا؛ لأنه فرَّ في معركة مع بني عبْس، فبرر الشاعرُ فراره في صدق وأمانة دون كذب وادعاء. فقال:
أجـاعـلـةٌ أمُّ الـحـصينِ لـقـيـتُ أبا شأس، وشأسًا ومالكًا كـأن جـلـود النمر جيبت عليهم أتـونـا فـضـموا جانبينا بصادقٍ ولـمـا دخـلنا تحت فيء رماحهم | خزايةعـليَّ فراري أن لقيتُ بني عبْسِ؟ وقـيـسًا، فجاشت من لقائهمُ نفسي إذا جـعـجعوا بين الإنافة والحبس من الطعن فعل النار بالحطب اليبسِ خبطت بكفي أطلبُ الأرضَ باللمسِ |
ومن أطرف ما جاء في الحماسةِ البصرية ما روي من أنَّ سَلَمَةَ بن مرة الشيباني، الشاعرَ الجاهليَّ أسر امرأ القيس، ثم اطلقهُ مقابل فدية، وكان سلمة قصيرًا جدًّا، فنظرت إليه بنتُ امرئ القيس باحتقار شديد لقصره، فقال على البديهة:
ألا زعمتْ بنتُ امرئ القيس ورب طـويـلٍ قـد نزعت ثيابه وقد علمت خيل امرئ القيس أنني ولـو شـهدتني يوم ألقيتُ كلكلي | أننيقـصـيرٌ، وقد أعيا أباها وعـانقته، والخيل تدمى نحورها كررت، ونارُ الحربِ تغلي قدورها عـلى شيخها، ما كان يبدو نكيرها | قصيرها
**********
وبهذه الأبيات من الحماسة البصرية نختم مقالنا من "ديوان العرب". على وعد وأمل أن نلتقي في حلقةٍ جديدة ، على حب وحق وخير بمشيئة الله