الولايات غير المتحدة اللبنانية

هادي ف. عيد

كاتب وصحفي

مُجاز في علم النفس

[email protected]

كتاب جديد يختلف عن غيره من الكتب، وبحث تاريخي يبزّ سواه من البحوث، ومجموعة وثائقية تفوق ما عداها من مجموعات. إنه كتاب " الولايات غير المتحدة اللبنانية " الذي سطّره المحامي البحّاثة شادي أبو عيسى بأسلوب متجدّد في التأريخ والتوثيق والإخراج، تتلمّس من خلاله الروح الوطنية الضارعة، والحرص الطاغي على تلمّس الحقائق وإبرازها وتدوينها.

ولعله التدوين الأول من نوعه، الذي يستشعر قارئه بالعاطفة اللبنانية الجياشة بين الكلمات والمواضيع، والتحرّق الوطني المتأجّج نحو بلد متجدّد ومثالي، تثبّط من عزائمه وتجرّ به إلى حضيض السفالات أطماع ثلة من ملوك الطوائف أخذت بهم عنجهيتهم، ومعهم أتباعهم المبنّجون، إلى تدمير البنيتين التحتية والفوقيه لهذه الجوهرة الأرضية التي نسميها لبنان.

الكاتب/المحامي يعرض عبر الصفحات المتتالية جميع حيثيات الكيان اللبناني التي وجد الباحثون فيها ولا يزالون مادة دسمة ومعيناً لا ينضب من الآراء المتضاربة والإجتهادات المتناقضة، يعزّ فيها الإجماع على رأي موحّد في " المجموعة اللبنانية " التي ترغب بإصرار أن تكون واحدة وأزلية. بعد انتهاء ما بات يُسمّى بين المجموعة العربية بالحرب الأهلية، والتي كانت في الواقع حرب هذه المجموعة على أرضنا، عاد لبنان مادة بكراً لحقول الإختبارات من اجتماعية ودينية واقتصادية. لكن أية صورة مقبولة لم تتبلور بعد لما يقارب حقيقتها، ويستمر الملف ساخناً وسائغاً للمزيد من الفذلكات.

ونرى عبر الكتاب، أنه قبل أن يتحوّل " لبنان الكبير " إلى " فديرالية الطوائف " التي نعانيها اليوم، دخل في تاريخه الضارب والحديث بتجارب طويلة من القهر والصهر. لكنه كان يخرج دائماً من بوتقة النار دون أن تتماسك طوائفه وإتنياته المتعددة، بل على العكس، تزداد تنافراً وتباعداً. فلبنان ما كان يوماً قدراً تغلي – كما هي الحال في الولايات المتحدة – بل قصعة كبيرة من السلاطة المتنوعة يَبرُز كل عنصر فيها بعد كل خلطة، محتفظاً من جديد بلونه ومذاقه.

هذا المجتمع التعددي المتحصن في الجبال أو المبعثر على السواحل بحثاً عن الخصوصية والإستقلالية، عاش أزماته المتتالية ناهداً في كل مرة لمحاولات التوازن والإنسجام، فلم يخرج بغير صيغة التجزئة والتنوّع. لقد عاش تاريخاً مشتركاً لكنه ما كان يوماً متشابهاً. حاضره المتأزم كان دوماً حصيلة ماضيه المُعقّد، وخياره الوحيد كان على الدوام قبول طوائفه ببعضها ضمن مجتمع يتّسم بما يتيسّر من عدالة وحرية وإنسانية. جرّب مراراَ تغيير خارطته البشرية، وكان مرانه في " القائمقاميتين " مضحكاً ومخزياً في آن، دخل فيها وعلى كلي الجانبين بأكثرية طاغية تتحكم بأقلية محبطة. ومن العبث أن يجرّب ثانية ليوازن بين الجغرافيا الإتنية والإنتشار الطائفي على الأرض.

" فالأمم " والنُحَل التي تكوّنت في الطوائف المختلفة نتيجة الإستقلالات والإنطواءات الذاتية منذ أجيال، ما كان يجمعها سوى الإعتراف المتبادل ببعضها البعض وتعايشها المشترك. وهي تجربة نجحت عندما سادها الإحترام الحقيقي، وتعثّرت لاتسام هذا الإحترام بالباطنية والرياء. لقد جاء في دستورنا وجاهاً أن " لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك ". هكذا قلناها بكل تغطية وخجل، وهكذا رددتها ببغاوياً وثيقة الطائف: لا نريد الإعتراف العلني بأننا مسيحيون ومسلمون، كأنما اعترافنا الديني العلني عيب، وأن انتفاءه مرغوب ومستساغ.

هذا ما شاء شادي أن يعبّر عنه في كتابه، وما يتناوله بالسرد حيناً وبإيراد الوثائق في غالب الأحيان. ويُستَشًف من مجمل شروحاته أن الديمقراطية في لبنان – اليتيمة في العالم العربي – لم يُقيّض لها أي نجاح يذكر منذ استقل لبنان. والسبب في ذلك أنها، في حد ذاتها، ليست " وصفة " جاهزة، بل مراناً علمانياً متكاملاً لا ينهض إلا في المجتمعات المدنية. ومن الإجحاف القول أن العربي خارج لبنان غير ديمقراطي بطبعه وحياته، أو أن تحقيقه لها مستحيل. لكنه نشا في مجتمعات قوامها الدين، وهذه        " القوامة " تستدعي تكوين " رأي الجماعة " كإطار تعددي موحّد يَسم من يختلف عنه بالفرقة والإنشقاق. الديمقراطية ترعرعت في لبنان على أكتاف المسيحيين الذين فرض تواجدهم نشوء المجتمع التعددي والمدني، ولطالما ساعد ويساعد في ذلك أن مسلمي لبنان مختلفون سمتأً وأسلوب حياة عن رصفائهم في العالمين العربي والإسلامي، لكنها كانت ولا تزال مهمة صعبة وطويلة وبطيئة، لأنها في نهاية الأمر تستدعي العلمنة التي تتنافى مع أصول وقواعد الإسلام.

سوى أن النظام الطوائفي اللبناني كان ولا يزال مثالاً يُحتذى من أمثلة الديمقراطية التعددية في العالم العربي. وكما قال الفارابي:  " لا يُعاب الماء الزلال لو شَرِف (غصّ) به أناس فماتوا "، كذلك لا يُعاب النظام يوم تركه اللبنانيون عرضة لرياح الفتنة. لقد جرّبوا الثورة على نظامهم بتغذيات وسموم خارجية لا تمتّ للبنان بصلة. فسقط النظام سقوطاً عظيماً دمّر البلد ومقوماته، وأسقط معه " اللبننة " التي كانت تعني التناغم والانسجام لتصبح مثالاً دولياً للتخويف والترهيب. في محاضرة عن التكامل الإجتماعي، عرض البروفيسور العراقي وليد الخالدي في جامعة جورجتاون الأمريكية سنة 1992، أن العراق يجب أن يلتزم طريقاً تتمتع فيه مختلف طوائفه بالحقوق والواجبات الكاملة، وأضاف: " لا أخفي عليكم أني أؤمن صادقاً بأن ميثاقاً على غرار الميثاق الوطني اللبناني لعام 1943، قد يصلح كإطار عام لتنظيم العلاقات بين المواطنين العراقيين ". هذا ما ينهج به الحكم الحالي في العراق، فهل يصبح ما رذله البناؤون اللبنانيون رأساً للزاوية؟.

وهذا أيضاً ما نستشفه من صرخات شادي عبر كتابه. إنه لا يضع الحلول، لكنه وبكل جدارة يبرز المشكلات. ولكم كنت أود رؤية تعليق له على تعديل المادة 28 من الدستور، يوم شاء حكامنا الأبرار فتح الأبواب مشرعة أمام الفساد والإفساد، وإعادة عهد " البرطيل " العثماني الذي أوقفته لمدة قصيرة مندرجات الدستور الجديد. تعديل هذه المادة أبطل روحية النص في " الفصل التام والناجز بين التشريع والتنفيذ "، وجعل من الدستور مستنداً للناسخ والمنسوخ، كل يفسره على هواه...

أما وثيقة الطائف، التي شرذمت صلاحيات السلطة على المستويات الثلاثة، والتي التقت نصوصها لهدف محدد: دوام التباعد والخصام بين ترويكا الحكم واللجوء المتواصل إلى الوصاية السورية للتصالح والتلاقي، فقد حظيت بالوافر من التعليق في كتاب شادي. والواقع الذي لا غبار عليه بعد عشر سنوات على الطائف، أن هذا الحدث التاريخي الذي أسكت المدفع وفتح باب الوصاية، كان " ثالثة الأثافي " -  بعد إلغاء مجلس الشيوخ وتعديل المادة 28 – الذي شوّه الديمقراطية اللبنانية الأصيلة، ودفع إلى حكم التراضي والتوافق، أو ديمقراطية ترضية الخواطر.

ويتنقل شادي عبر محطات تاريخنا الحديث بفكر وجداني تعززه الدوافع الوطنية الغيورة وتوثّق مراميه عقلية المحامي الثاقبة. وخلال جولاته الحاذقة يتصدى للطائفية على أنها قمة البلاء، ويعرض للعروبة كونها حضارة لا ديانة، ثم يورد الملاحق الوثائقية المضيئة على لبنان الحديث داحضاً المزاعم الخبيثة والتقولات المغرضة، ومقارعاً بالحجج الدامغة والأسانيد النافذة إفتراءات المفترين.

ويُضيف الشاعر والفيلسوف روبير غانم عبر تقديمه للكتاب، نفحة من لاهوت الدنيا المنطلق من لبنان. وهو القائل أن لبنان،      " عدا عن كونه ملكوت الأرض، فإنه المدخل إلى ملكوت السماء ". فيلسوفنا الكبير، ومرشحنا لجائزة نوبل للآداب، لا يعتقد في اللبننة انعزالاً وانكماشاً، بل أمداء كونية متشاسعة وطمّاحة لاختراق المطلق. ومقدمته تنضح بالرؤيوية المنفتحة التي تعكس إلى حد بعيد ما يتوارد في فكر شادي أبو عيسى من أبعاد ومرام منشتلة في أغوار الكونية اللبنانية.

كتاب شادي أبو عيسى مستند لا بد من اقتنائه. أقلّ ما يقال فيه، أنه الكتاب/المرجع سواء للأحداث الأولى التي سبقت وعقبت تأسيس لبنان الكبير الذي شاءه اللبنانيون الغيارى وطناً خالداً خلود أرزه للأبناء والأحفاد، كما لأحداث جمهوريات الموز التي توالت بعد الحرب الأهلية، والتي دمّر ويدمّر ملوك الطوائف الحاليون كل المقوّمات التي تؤمّن انتقال هذا الوطن للأبناء والأحفاد.