البعد الإنساني في الرسالة الإسلامية(6)
البعد الإنساني في الرسالة الإسلامية(6)
|
عدنان سعد الدين |
الفصل
السادسالإنسان بين العبودية والحرية
يدرك أي باحث منصف حجم النقلة أو القفزة الكبرى التي حدثت للإنسان بعد ظهور الإسلام، ويرى الفرق الشاسع والبون الواسع بين ما كان عليه الإنسان قبل نزول الرسالة الإسلامية، وما صار إليه حاله بعدها.
كان الإنسان سلعة تباع وتُشترى وتورَّث، وكان صاحبها يتلفها إذا شاء له ذلك مزاجه، وأحياناً كان السادة يتسلون بإلقاء العبيد إلى الوحوش الكاسرة بعد تجويعها، ليأنسوا بتمزيق جسد العبد أو الرقيق وهو حي، فيرسلون القهقهات، ويعربون عن إعجابهم بقدرة حيواناتهم التي يربونها ويهيئونها لمثل هذه المناسبات، كالذي كان يحدث في روما، ويحتفل به أعيان الدولة وكبار رجالاتها!!!
أرسطو ونظام الرق والمرأة
لم يكن اليونانيون يرون الإنسان معتبراً إذا لم يكن يونانياً، ولقد عبر عن نظرتهم تلك أعمق تعبير كبير فلاسفتهم أرسطو حيث اعتبر الرق نظاماً طبيعياً، وذهب إلى أن مِنَ الناس مَنْ خلقوا أحراراً، وزُودوا بالجسم والعقل معاً، وأن منهم من خلقوا عبيداً، فلم يزودوا إلا بقوة الجسم فقط، أي أن منهم من خلقوا للسيادة ـ ويقصد بهم أحرار اليونان ـ ومنهم من خلق للطاعة والعمل، ويقصد بهم غير اليونانيين من الشعوب الأخرى، وأن كل من كان منهم تحت يد اليوناني فهو عبده، وكان يسميهم أو يطلق عليهم لفظ البربر. ويرى أرسطو كذلك أن هذا التصنيف من صنع الطبيعة التي جعلت العبيد من الأدوات التي لا بد منها لتحقيق سعادة الأسرة اليونانية، فجاءت نظرته إلى الرقيق على أنه آلة الحياة، لأنه يقوم بالأعمال الآلية التي لا ينبغي للمواطن الحر الكريم أن يقوم بها، وكان من رأي أرسطو أن الحرب التي يشنها اليونانيون للحصول على الرقيق حرب مشروعة تتناسب وطبيعة الأشياء، (وهذا ما ورد في كتاب السياسة لأرسطو الذي نقله إلى العربية أحمد لطفي السيد).
ولم تكن المرأة في النظم والفلسفات اليونانية أسعد حظاً من الرقيق، فقد نصت قوانينهم على تجريد المرأة من حقوقها المدنية، ووضعها تحت السيطرة الكلية للرجل، كما أنهم اعتبروها من ممتلكات ولي أمرها ثم زوجها، فلم يكن من حق المرأة أن تتعلم، حرة كانت أم أمة، فقوانين أثينا لا تتيح فرصة التعليم إلا للأحرار الذكور دون الإناث، وقد صاغ أرسطو في كتابه السياسة ما يبرر ذلك، فقرر أن المرأة خلقت، ولم تزودها الطبيعة بأي استعداد عقلي يُعْتَدُّ به، فعليها أن تخضع لإرادة الرجل([1]). وجاء بعد أرسطو كبير فلاسفة العالم في العصور السابقة أفلاطون، ليؤكد على هذه الأفكار ويفلسفها ويقعدها فيجعل من الرقيق جزءاً لا يتجزأ من المجتمع، بل لا يقوم المجتمع ولا يصلح إلا به، وذلك في جمهوريته المثالية التي روج لها جمهور من المفكرين، وفيهم أعداد من مثقفي أمتنا ومفكريها!!
الرق في بلاد فارس
عرفت بلاد فارس الرق بصوره كافة، وبأشكاله المعروفة في العالم القديم، ليس هذا فحسب، بل ومارسته في أقبح صوره، إذ أباحت الديانة الزرادشتية استغلال الإماء للدعارة في معابدها، على أن تعود المبالغ المتحصلة من ذلك على المعابد ومن يقوم على خدمتها، كما أباحت الديانة الزرادشتيه للسيد قتل عبده إذا رغب في ذلك عند تكرار خطئه. إلى جانب أن هذه الديانة لم تفتح باباً واحداً لتشجيع تحرير الرقيق، بل جعلت صفة العبودية لصيقة بالرقيق بشكل دائم وأبدي، واعتبرت ذلك فرضاً دينياً ـ كما ذكر ذلك الدكتور أحمد شفيق في كتابه: الرق في الإسلام ص12.
الرق لدى المسيحيين
كان أول الدعاة في المسيحية الذين نادوا بالإبقاء على نظام الرق (طبقاً للأنظمة التي ورثها المجتمع المسيحي عن الإغريق والرومان) القديس بولس ـ من كتاب المثل السياسية لمؤلفه ديلل بيرنز، ترجمة لويس إسكندر، ومراجعة محمد أنيس ص101 عام 1964 ـ، وتبعه في ذلك على تلك الدعوة سان أوغسطين ـ354 ـ 430م ـ، فأقر ظاهرة الرق على منهج سلفه القديس بولس، واعتبر أوغسطين الرق نظاماً عادلاً، لأنه جاء نتيجة للخطيئة الأولى للإنسانية، وهي التي أدت إلى فساد الطبيعة البشرية وهي: قتل قابيل لأخيه هابيل. وهكذا أقر المسيحيون الرق، ولم يحاولوا تحرير الرقيق، بل جعلوا استمرار الرق، واستعباد الأرقاء أساساً دينياً، وشريعة باقية إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها([2]).
الإسلام ونظام الرق
قبل ظهور الإسلام كان الرق ظاهرة اجتماعية عالمية، لم ينكره أحد، ولم يعترض عليه أتباع الفلاسفة والمصلحين، ولا معتنقو الأديان السماوية من يهود أو مسيحيين، أو من أتباع الديانات الأخرى.
وعندما ظهر الإسلام جاء بمشروع مفصل يرمي إلى تحرير الإنسان من الرق، وتخليصه من العبودية، فجعله على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى: وضعها الإسلام للتو موضع التطبيق، فدخلت حيز التنفيذ دون تأخير أو تأجيل، وكان من أهم بنودها أو فقراتها:
1- تحريم استرقاق الأحرار، واعتبار ذلك إثماً عظيماً وجريمة منكرة، وأن من يفعله أو يقدم عليه مطرود من رحمة الله، يتوعده الخالق بعذاب أليم: (ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة، رجل أعطى بي ثم غدر، ورجل باع حراً فأكل ثمنه، ورجل استأجر أجيراً، فاستوفى منه ولم يعطه أجره) ([3]).
2- أغلق الإسلام جميع أبواب الاستعباد واسترقاق عباد الله باستثناء حالة واحدة، هي حالة الحرب التي كانت من النظام العالمي، والتي تتعامل بها الأمم كلها والحكومات، فلا بد ـ والحالة هذه ـ من اتفاق دولي على إلغاء استرقاق الأسرى في الحروب، وإلا فلا مفر من المعاملة بالمثل ريثما يتم علاج هذا الوضع دولياً، واتفاق الأمم على تحريم استرقاق المحاربين، وهذا ما بلغه المجتمع الدولي فيما بعد في العصر الحديث. فالرق لم يبح في الإسلام على أنه مبدأ من مبادئ الإسلام، ولم يأت نص صريح في القرآن بإباحته، ولم يثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم أنشأ رقاً على حر في حياته، وليس في كتاب الله ولا في سنة رسوله نص يأمر بالاسترقاق، ولكن هناك مئات النصوص التي تدعو إلى العتق كما يقول الفقيه الكبير الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله([4]).
3- اعتبر الإسلام عتق الرقاب وتحرير الرقيق من أعظم أعمال البر، ومن أقرب القربات إلى الله تعالى التي ينال بها المؤمن أجراً عظيماً وثواباً كبيراً: {فلا اقتحم العقبة، وما أدراك ما العقبة، فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيماً ذا مقربة أو مسكيناً ذا متربة}([5])، فعتق الرقاب وإطعام اليتيم والمسكين في الأزمات وانتشار المجاعات يجتاز بصاحبه الصعوبات والعقبات، ويأخذ بيده إلى رحاب الله وعفوه وغفرانه.
4- فتح للرقيق ستة عشر باباً يخرجون منها إلى سوح الحرية ومجتمعات الحياة الإنسانية الكريمة، منها: من حنث بيمينه فعليه عتق رقبة، ومن أفطر يوماً في رمضان عامداً، فعليه عتق رقبة، ومن حرَّم امرأته عليه، وجعلها كأمه لا يقربها إلا إذا أعتق رقبة، ومن لطم عبده فكفارته عتقه، ومن أبدى رغبة في تحرير نفسه من العبودية فعلى سيده أن يعقد معه اتفاقاً يسدد بموجبه العبد المبلغ المتفق عليه مع سيده خلال فترة يعمل فيها على تحصيله: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً}([6])، ومن قتل مؤمناً خطأ فعليه عتق رقبة: {ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة}([7]) والمغزى واضح في هذا الحكم، وكأن الإسلام الذي يحرم قتل النفس يفرض على القاتل أن يعيد الحياة إلى الإنسان الذي حرمه منها، ولما كان ذلك مستحيلاً وغير ممكن، فرض الإسلام على القاتل عملاً موازياً، وألزمه بعتق رقبة وتحرير رقيق ليعيد إليه الحياة الحرة الكريمة عندما أعاد له حريته، وأنقذه من عبوديته، وأخيراً ـ وليس آخراً ـ خصص مبلغاً دائماً في صندوق التأمين الاجتماعي العام ـ الزكاة ـ لتحرير الرقيق كجزء من أسهم الزكاة الثمانية التي فرضها القرآن الكريم، وهي إحدى أهم أركان الإسلام: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل، فريضة من الله، والله عليم حكيم}([8]).
لقد آتت هذه الأحكام والتوجيهات أكلها، إذ التحقت فئة كبيرة من الأرقاء الذين حررهم الإسلام في حلقات الدرس، فبرز منهم فقهاء وعلماء وشعراء ومجتهدون وقضاة كبار، ذكرهم المؤرخون في التاريخ الإسلامي بإعجاب وإكبار.
المرحلة الثانية: وريثما تبلغ البشرية رشدها، وتتفق دول العالم وحكوماته على تحريم الرق، وتحرير الإنسان من ربقته، وضع الإسلام ـ خلال هذه المرحلة الانتقالية ـ تعاليم وأحكاماً يعامل الرقيق بموجبها، تحفظ له آدميته، وتحميه من القسوة والحرمان والاضطهاد. من هذه التعاليم:
1- اعتبار الأرقاء مع سادتهم إخوة في الدين أو في الإنسانية أو في كليهما.
2- لا يكلف الرقيق فوق طاقته، وإذا كلفه سيده بعمل مرهق فعليه أن يعينه عليه.
3- يقدم السيد للرقيق من الطعام والشراب والحاجات الأخرى ما يخص به نفسه.
4- يفسح السيد للعبد المجال في أداء العبادات والقيام بالواجبات الدينية، والالتحاق بحلقات العلم والفقه.
5- عدم الإساءة للرقيق بالشتم أو الضرب أو ما إلى ذلك، وإلا كفَّر عن ذلك بعتقه.
قال المصطفى صلى الله عليه وسلم: إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلِّفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم([9]).
6- حض الإسلام في القرآن الكريم وفي الحديث الشريف على معاملة الأسرى معاملة حسنة، بل وإكرامهم والإحسان إليهم، واعتبر ذلك من فضائل الأعمال.
7- يصان دم الرقيق، كدم الحر سواء بسواء، فإذا قتل السيد عبده قُتل به، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: من قتل عبداً قتلناه به، ومن جدعه جدعناه([10])، والتزاماً بهذه التوجيهات النبوية قولاً وفعلاً (كالذي رواه أنس خادم الرسول صلى الله عليه وسلم عن معاملته له) كان المسلمون الملتزمون بالتعاليم الإسلامية يعاملون الرقيق بحساسية مرهفة كيلا يقعوا في أي خطأ أو مخالفة شرعية مع الرقيق، ذكر المحدثون أن خادم جعفر الصادق كان يصب الماء على يدي سيده، فأصاب رذاذ منه ثوب جعفر، فبدا مستاءً، فقال له خادمه: والكاظمين الغيظ، قال: كظمت غيظي، قال الخادم: والعافين عن الناس، فأجابه سيده: عفوت عنك، فقال الخادم: والله يحب المحسنين، فأجاب جعفر رضي الله عنه: اذهب فأنت حر لوجه الله.
المرحلة الثالثة: بعد أن بلغت المأساة بالشعوب مبلغها، ولا سيما شعوب إفريقيا التي دأب الأمريكيون على اختطاف الملايين منهم والإبحار بهم إلى أمريكا، فكان يموت منهم في أثناء السفر، وفي العمل الشاق في المزارع والمصانع مئات الألوف، فاشتعلت جراء ذلك ثورة أهلية بين شمالي أمريكا وجنوبها لإخراج ملايين الزنوج من محنتهم كما هو معروف، وضجت الأصوات منادية بوضع حد لهذه المأساة البشرية، فصدرت في هذا الشأن دراسات ومباحث وطبعت كتب تدعو إلى إلغاء الرق وتحريمه، فأقدمت دول عديدة على إبرام اتفاقات عديدة ومواثيق دولية، أدت في نهاية المطاف إلى تحريم الرق والعمل على تصفية نظامه وتحرير الرقيق، وسرعان ما استجاب المسلمون، وشاركوا دول العالم في هذا المسعى النبيل، وتضامنوا مع هذه الدعوة العالمية التي كانوا بانتظارها بالتوقيع على الاتفاقيات الخاصة بإلغاء الرق وتحرير الأرقاء في عهد السلطان العثماني عبد الحميد الذي وقع إذ ذاك باسم المسلمين على هذه الاتفاقات، وتبعه بعد ذلك الملك السعودي عبد العزيز، دون أن تجد هذه الخطوة المباركة إلا الموافقة والتأييد من جميع المعاصرين من فقهاء المسلمين.
كيف عامل المسلمون الرقيق
في أثناء المرحلة الثانية التي كان الرق فيها أمراً واقعاً ـ عالمياً ودولياً ـ تعامل المسلمون مع ظاهرة الرقيق بروح إنسانية رفيعة، وبأسلوب ملؤه الرحمة والشفقة والإحسان.
تجادل الصحابي المعروف أبو ذر الغفاري مع أحد الزنوج، فاشتط به الغضب، فقال له: يا ابن السوداء، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الكلمة النابية، فأنكرها أشد الإنكار، وقال لأبي ذر: أعيرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية، كما قال له: طفّ الصاع طفَّ الصاع ـ أي جاوز الأمر كل حد ـ ليس لابن البيضاء على ابن السوداء فضل إلا بالتقوى أو بعمل صالح، وقد ندم أبو ذر على فعلته ـ قولته ـ وأثرت كلمات الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه، فألصق خده بالأرض، وقال للأسود: قم فطأ على خدي ـ إمعاناً منه في الندم ـ وبهذا التعليم الحاسم المبين محا الإسلام من المجتمع المثالي الذي بناه عليه الصلاة والسلام كل ألوان العصبية، وكل نزعة إلى التفرقة العنصرية([11]).
روى المؤرخون أن يحيى بن سعيد قال: بعثني عمر بن عبد العزيز عاملاً على صدقات إفريقيا، فاقتضيتها ـ جبيتها ـ وطلبت الفقراء نعطيهم إياها، فلم نجد فيها فقيراً، ولم نجد من يأخذها، لقد أغنى عمر الناس ـ بعدله وإنصافه ـ فماذا يصنع الوالي بهذه الزكاة المجموعة؟ قال: اشتريت بها عبيداً وأعتقتهم([12]).
معاملة أهل الكتاب
كتب أبو يوسف ـ كبير الفقهاء الأحناف ـ إلى أمير المؤمنين هارون الرشيد، كما ذكر ذلك في كتابه ـ الخراج ـ: وقد ينبغي يا أمير المؤمنين أَبَرَّكَ الله أن تتقدم بالرفق بأهل ذمة نبيك صلى الله عليه وسلم والتفقد لأحوالهم حتى لا يظلموا ولا يؤذوا، ولا يكلفوا فوق طاقتهم، ولا يؤخذ شيء من أموالهم إلا بحق يجب عليهم، فقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من ظلم معاهداً أو كلفه فوق طاقته، فأنا حجيجه يوم القيامة([13])، وكان مما تكلم به عمر عند وفاته: أوصي الخليفة من بعدي بذمة رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُوفي لهم بعهدهم، وأن يقاتل من ورائهم، ولا يكلفهم فوق طاقتهم ـ من كتاب الخراج لأبو يوسف ـ([14]) وقد مر بنا نص العهد الذي أبرمه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع نصارى نجران، والذي نفذه الخلفاء الراشدون الأربعة، كما نفذه من بعدهم الأمويون والعباسيون، وعندما أراد الرشيد أن ينقضه، وقف له الإمام محمد بن الحسن الشيباني الذي كان إذ ذاك قاضي القضاة ومنعه من ذلك([15]).
نماذج باهرة من التسامح
كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم جيران من أهل الكتاب، فكان يتعاهدهم ببره، ويُهديهم الهدايا، ويتقبل منهم هداياهم، ولما جاء وفد نصارى الحبشة إلى المدينة أنزلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد، وقام بنفسه على ضيافتهم وخدمتهم، وكان مما قاله يومئذ: إنهم كانوا لأصحابنا مكرمين، فأحب أن أكرمهم بنفسي، وجاءه ذات مرة وفد نصارى نجران فأنزلهم في المسجد، وسمح لهم بإقامة صلاتهم فيه، فكانوا يصلون في جانب منه، ورسول الله والمسلمون يصلون في جانب آخر، ولما أرادوا مناقشة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدفاع عن دينهم استمع إليهم وجادلهم ـ حاورهم ـ برفق وأدب وسماحة خلق([16]).
وعلى هدي الرسول الكريم في تسامحه الديني ذي النـزعة الإنسانية الرفيعة سار خلفاؤه من بعده، فإذا بنا نجد الخليفة العادل عمر ابن الخطاب عند دخوله بيت المقدس يأبى أن يصلي (وقد حان وقت الصلاة) داخل كنيسة القدس الكبرى ـ كما سبق في هذا الكتاب بيانه ـ كيلا يتخذ المسلمون صلاته ذريعة لاتخاذها مسجداً.
وعندما اشتكت امرأة مسيحية ـ قبطية ـ من مصر إلى عمر ابن الخطاب أن واليه عمرو بن العاص أدخل دارها في المسجد كرهاً عنها، فتحرى الخليفة موضوع الشكوى من واليه فجاءته الإجابة: أن المسلمين كثروا، وأصبح المسجد يضيق بهم، وفي جواره دار هذه المرأة، وقد عرض عليها عمرو بن العاص ثمن دارها، وبالغ في الثمن، فلم ترض بذلك، مما اضطر عمراً إلى هدم دارها وإدخاله في المسجد، ووضع قيمة الدار في بيت المال تأخذه متى شاءت، وبالرغم من أن هذا الإجراء في التملك شائع في عصرنا ومألوف لدى الحكومات كلها، فإن عمر بن الخطاب لم يرض بذلك، وأمر واليه عمرو بن العاص بهدم البناء الجديد من المسجد وإعادة الدار إلى المرأة المسيحية كما كانت قبل ذلك([17]).
وعندما دخل المسلمون دمشق صار قسم من الجامع الأموي مسجداً للمسلمين، وبقي قسم منه كنيسة بيد المسيحيين، فكان أبناء الديانتين يصلون متجاورين، هؤلاء يتجهون إلى القبلة في مكة، وأولئك يتجهون إلى قبلة أخرى في بيت المقدس، فكان مظهراً عجيباً وفريداً في التاريخ له مغزى في الدلالة على التسامح الديني الذي بلغته حضارة المسلمين.
وفي العهدين الأموي والعباسي كان الأطباء محل الرعاية لدى الخلفاء، وكان لهم الإشراف على مدارس الطب في بغداد ودمشق زمناً طويلاً، فكان ابن أثال طبيب معاوية الخاص، وكان سرجون كاتبه، وقد عين مروان اثناسيوس والطبيب إسحق في بعض مناصب الدولة في مصر، ثم بلغ اثناسيوس مرتبة الرئاسة في دواوين الدولة، وكان عظيم الثراء، واسع الجاه، بلغ من شهرته ان أوكل إليه عبد الملك بن مروان تعليم أخيه الصغير عبد العزيز الذي أصبح والياً على مصر فيما بعد ـ وهو والد الخليفة عمر بن عبد العزيز ـ، ومن أشهر الأطباء الذين كانت لهم حظـوة عند الخلفاء جرجيس بن بختيشوع، وكان مقرباً من الخليفة المنصور، واسع الحظوة([18]) عنده. وكان سلمويه بن بنان النصراني طبيب المعتصم، كما كان بختيشوع بن جبرائيل طبيب المتوكل، وصاحب المكانة لديه، حتى إنه كان يضاهي الخليفة في اللباس وحسن الحال وكثرة المال وكمال المروءة، والكل يعلم مكانة الأخطل في العهد الأموي، وكان إبراهيم بن هلال الصابئي ـ من الصابئة ـ قد بلغ أرفع مناصب الدولة، في تَقَلُّدِ الأعمال الجليلة وفي تقدمه على الشعراء، وكانت بينه وبين زعماء الأدب والعلم من المسلمين صلات حسنة وصداقات وشيجة حتى إنه لما توفي رثاه الشريف الرضي شيخ الهاشميين العلويين ونقيبهم بقصائد خالدة، كما مر معنا فيما سبق من هذا الكتاب ومن الغريب أن مثل هذه المظاهر من الود والبر ظلت مستمرة إبان الحروب الصليبية، وشن الحملات المدمرة على بلاد المسلمين في مصر والشام والعراق باسم الصليب دون أن تنال من حرية ومكانة الموادعين وأهل العهد من المواطنين المسيحيين وعلاقاتهم الحميمة بالمسلمين من العلماء ومن المسؤولين([19]).
شهادة الغربيين على تسامح المسلمين
وربما كان من المفيد أن يختم هذا الفصل بشهادات كبار المفكرين والعلماء الغربيين من أمريكيين وأوربيين عن تسامح المسلمين مع غير المسلمين لدرجة غير مسبوقة في تاريخ الحضارات الإنسانية، حتى في الوقت الراهن.
يقول المستر داربر الأمريكي الشهير: إن المسلمين الأولين في زمن الخلفاء لم يقتصروا في معاملة أهل العلم من النصارى النسطوريين واليهود على مجرد الاحترام، بل فوضوا إليهم كثيراً من الأعمال الجسام ورقوهم إلى مناصب الدولة، حتى إن هارون الرشيد وضع جميع المدارس تحت مراقبة حنا بن ماسويه، ولم يكن ينظر إلى البلد الذي نشأ فيه العالم، ولا إلى الدين الذي ولد فيه، بل لم يكن ينظر إلا إلى مكانته من العلم والمعرفة.
ويقول المؤرخ الشهير ـ ولز ـ في صدر بحثه عن تعاليم الإسلام: إنها أسست في العالم تقاليد عظيمة للتعامل العادل الكريم، وإنها لتنفخ في الناس روح الكرم والسماحة، كما أنها إنسانية السمة، إلى أن يقول عن الإسلام: إنه مليء بروح الرفق والسماحة والأخوة.
ويقول السير ـ مارك سايس ـ في وصف الإمبراطورية الإسلامية في عهد الرشيد: كان المسيحيون والوثنيون واليهود والمسلمون يعملون في خدمة الحكومة، ويقول ليفي بروتستال في كتابه إسبانيا الإسلامية في القرن العاشر: إن كاتب الذمم كثيراً ما كان نصرانياً أو يهودياً، وقد كانوا ـ أي اليهود والنصارى ـ يتصرفون للدولة في الأعمال الإدارية والحربية، ومن اليهود من كانوا ينوبون عن الخليفة بالسفارات إلى دول أوربا الغربية، ويقول توماس أرنولد: كان المسلمون على خلاف غيرهم، إذ يظهر لنا أنهم لم يألوا جهداً في أن يعاملوا كل رعاياهم من المسيحيين بالعدل والقسطاس كما مر معنا آنفاً([20]).
وأخيراً، فقد تعهد الإسلام أهل الذمة في كل شيء، في احترام شعائرهم وعقائدهم ومعابدهم، فأين ما تفعله الأمم ـ المتحضرة!!!ـ في العصر الحديث وفي الوقت الراهن من هذا الذي ذكرناه؟ إن الدول القوية تبطش بالشعوب الضعيفة من المسلمين ومن الأقليات الإسلامية في الغرب، وتسوم أبناءها سوء العذاب، وتخضعها إلى قوانين جائرة مذلة مهينة تتنافى مع أبسط حقوق الإنسان، وكثيراً ما تعمل هذه الدول المعتدية على إبادة الشعب الذي تستعمره وتسيطر عليه، كالذي فعله الأوربيون مع الهنود الحمر وغيرهم من سكان أمريكا الأصليين، ومع سكان أستراليا ونيوزيلندا، فقد أبادهم المهاجرون الأوربيون الذين أتوا بلادهم فاحتلوها وأبادوا سكانها، فلم يبق منهم إلا النـزر اليسير. ولنتذكر ما يلاقيه المسلمون في الفلبين والشيشان وتايلاند وأفغانستان وفلسطين، والعراق والبوسنة والهرسك وكوسوفو وكثير من بلاد المسلمين، وما تعانيه الأقليات المسلمة في أوربا وأمريكا وأستراليا وبعض الدول الأفريقية من عنت واضطهاد وتمييز عنصري، والفرق واضح لكل ذي عينين بين ما تفرزه حضارة الغرب اليوم، وبين عطاء الحضارة العربية الإسلامية بالأمس.
الهوامش:
([1]) حقوق الإنسان وحرياته الأساسية في النظام الإسلامي والنظم المعاصرة للدكتور عبد الوهاب عبد العزيز الشيشاني ص191 طبعة 1980.
([2]) المرجع السابق ص215،214،206.
([3]) رواه البخاري (2227) و(2270).
([4]) العلاقات الدولية في الإسلام ص37.
([5]) سورة البلد، الآيات 11ـ16.
([6]) سورة النور الآية 33.
([7]) سورة النساء الآية 92.
([8]) سورة التوبة الآية 60.
([9]) رواه البخاري (30)، ومسلم (1661).
([10]) رواه أبو داود (4515)، والنسائي (4737)، وابن ماجه (2663)، والترمذي (1414) وقال: هذا حديث حسن غريب.
([11]) المرجع السابق ص11، وقد سبق أن وردت هذه الرواية بصيغة أخرى.
([12]) للأستاذ محمد الغزالي ص225 الطبعة الأولى عام 1963.
([13]) حديث حسن، رواه أبو داود (3052).
([14]) العلاقات الدولية لأبو زهرة ص66.
([15]) المرجع السباق ص67.
([16]) من روائع حضارتنا للشيخ السباعي رحمه الله ص84.
([17]) المرجع السابق ص86.
([18]) المرجع السابق ص87.
([19]) المرجع السابق ص89،88.
([20]) المرجع السابق ص92،91.