مارد في صدري

مارد في صدري

رواية: نعماء محمد المجذوب

عرض: غرناطة الطنطاوي

مارد في صدري، من يقرأ هذا العنوان يظن صاحبته امرأة متمردة ثائرة، تريد أن تنفجر بمن حولها، وهي على النقيض من ذلك، فهي سيدة مثال الرقة والأدب والحنو والشفافية، عندما تتحدث تظن نفسك تسمع إيقاعات موسيقية هادئة، ولكنها تحتدّ أحياناً، إذا رأت عوجاً، لأنها بطبعها تحب الاستقامة في كل الأمور، وحديثها العذب يصاحبه حركات يديها، وتمايل رأسها، كأنها تحلّق في الفضاء الرحب، فهي تريد إيصال المعنى الذي تريد بطريقة ناعمة محببة إلى كل من يراها.

وكنت أنتظر انتهاء روايتها هذه على أحرّ من الجمر، لأنني كنت أنتظر شعراً في قالب النثر، وكان كما اعتقدت، فهي تتحدث عن البؤس في الوطن العربي المقهور بُعيدَ الاحتلال، مجسداً في "سناء" الفتاة المسكينة التي طُلِّقت والدتها، وسافرت بعيداً، وتركتها لزوجة أبيها تنهشها، دون رادع يردعها.

ووالدها منهمك في عمله، لا يلوي على ابنته، حسبه أنها تعيش معه تأكل وتنام كالأنعام، حتى لا يُغضب زوجته الجديدة، وخاصة بعد أن تنازل لها عن البيت والدكان، حتى ترضى، وأنّى لها أن ترضى، وهي ترى ابنة ضرتها فتاة يانعة ذكية لبقة تشبه أمها في كل شيء، فتأكل الغيرة قلبها، وتفرغ هذه الشحنات السالبة في "سناء"، وسناء صابرة محتسبة، تقرأ في كتب إخوتها ليلاً، لأن زوجة أبيها حرمتها من المدرسة، وتحفظ القرآن متى سنحت لها الفرصة، حتى حفظته ووعته وصارت حديث المجالس.

وقد ظهر حب الكاتبة لمن حولها على لسان سناء، فهي تحب إخوتها حباً جمّاً، فقد قالت:

"دخلت سناء غرف إخوتها تقلّب أشياءهم بيديها وتضمها إلى صدرها، وتشمّ رائحتهم."

كما استشففنا من روايتها هذه حبها للمسامحة وكرم أخلاقها حين قالت:

"علينا بالمسامحة، فالمسامحة من شيم المؤمنين، وتمنحك الهدوء النفسي، والله سبحانه غفور رحيم."

وهي رغم تسامحها تثور ضدّ التقاليد البالية، التي تتحكم في المرأة العربية، فتقول على لسان سناء:

"أنا بنت، والبنت تتحكم بها الأعراف والتقاليد، التي تكبل الأيدي والعقول معاً."

وقد أبدت رؤيتها الفلسفية للواقع المعيش في أكثر من عبارة، فعلى سبيل المثال تتحدث على لسان سناء:

"الحياة لا تخلو من المتاعب، نقهرها بالأحلام، فالحلم جنين الواقع، وثورة على المعاناة، نسعى به للوصول إلى غايتنا."

وهذه الفلسفة أوصلتها إلى التعمق في الدين أكثر، وجعلتها أكثر مرحاً وتقبّلاً لتقلبات الحياة المُفاجئة، فتقول على لسان سناء:

"من رماد الكارثة يكون النجاح، والفضل لكتاب الله، معانيه نبهت مشاعر اليقظة والتقوى في أعماقي، سأظل قريبة منه، أهتدي يهديه وأستضيء بنوره."

ولم تنس الكاتبة نفسية الأنثى وما يتنازعها من آمال وشهوات، ولكنها كانت مثالاً للأدب والرقة وهي تضرب على هذا الوتر، لا كما يفعل غيرها من كاتبات ينزلقن إلى تصوير البنات تصويراً شهوانياً بحتاً، بحجة الحرية المطلقة، وحجة سبر غور المرأة من امرأة مثلها، تفهمها أكثر مما يفهمها الرجل، فتسطر كلمات يندى لها الجبين.

وهذا الحياء من شيمها، لم تمحه السنون، بل زادته تألقاً وتوهجاً.

وكانت عباراتها رقيقة رشيقة، فيها من عناصر التشويق ما يشدّك إليها، ولا تترك لك مجالاً لأن تترك روايتها حتى تُنهيها.

ولكن حبذا لو أنها عند الانتقال من مشهد إلى مشهد أن تضع شارات تنبهنا إلى هذا الانتقال، لأنك حين تقرأ عباراتها تجعلك تسرح بعيداً، تتخيل نفسك معها بين الأزهار والرياحين، أو على شاطئ البحر الجميل، ثم لا تلبث أن تنتقل بك إلى مشهد آخر، وأنت ما زلت تعيش في المشهد السابق، فيحصل لَبْسٌ وغموض، فتضطر إلى أن تقرأ المشهد مرة أخرى حتى تتبين ما تريد الكاتبة.

تقع هذه الرواية في 238 صفحة من القطع الكبير.

وكم أتمنى من بناتنا أن يقرأن هذه الرواية حتى يتعلمن منها أن الصبر مفتاح الفرج، لأن بنات هذه الأيام يتعجلن في كل أمورهن، والتأفف صار من عادات بعضهن.

كما أرجو من أديبتنا المبدعة المزيد من هذا العطاء الطيب ليسدّ ما في صرح الأدب الإسلامي عامة، والروائيّ خاصة، من ثغرات.. نريدها أن تسهم في هذا، إلى جانب أخواتها الروائيات المبدعات، وإخوانها الروائيين الملتزمين، في هذا الوقت الذي كثر فيه الغثّ في عملية القصّ، وفي الأهداف القريبة والبعيدة لأولئك الروائيين والروائيات، المنحرفين والمنحرفات عما ينبغي أن يكون عليه الأدب بعامة، والروائيّ بخاصة.