ذرية بعضها من بعض للكاتب : عبد الله الطنطاوي
ذرية بعضها من بعض
للكاتب عبد الله الطنطاوي
عرض: عبير الطنطاوي
في بعض الأحيان تجد في نفسك حنيناً إلى كتب كنت قد قرأتها منذ زمن بعيد، ونالت مكانة كبيرة في نفسك، وعلى الرغم من تكاثر غبار الزمن عليها، وعلى الرغم من تكدّس الكتب الحديثة الأخرى في مكتبتك التي تحتاج إلى فراغك، إلا أن قلبك يتغلب على أوامر عقلك ويحرّك يدك لتتناول كتاباً قديماً مضى على طباعته أكثر من ربع قرن (1977) وهذا ما حصل معي تماماً حين جلت بناظري بين أكداس الكتب التي لم أقرأها بعد، بينما كانت عيون قلبي (وللقلب عيون) تتطلع إلى مجموعة قصصية للكاتب المتنوّع الأستاذ عبد الله الطنطاوي هذا الكاتب الذي عرفنا من كتبه القيّمة الكثير الكثير.. فقد عودنا على تنوعه وعدم اختصاصه أو إيثاره جنساً أدبياً دون جنس، فهو يكتب للصغار كما يكتب للكبار، ولأنصاف المتعلمين كما للمثقفين، كتب القصة القصيرة والطويلة والرواية، والنقد، والبحث، كتب في الحياة بكل أشكالها الاجتماعية والدّينية والسياسية والإنسانية، وما مجموعته القصصية التي نحن بصدد الحديث عنها: (ذرية بعضها من بعض) إلا دليل قاطع على تحرر الكاتب من قيود الاختصاص الممل.. حتى إن أسلوبه ليس فيه تلك الرتابة التي نجدها عند الكثير من الكتّاب الذين لا نكاد نميز بين قصة وقصة في مجموعتهم لشدة التشابه في الأسلوب والاستخدام المتكرر للعبارات والألفاظ. أما أديبنا، فإنك تجد أن كل قصة في هذه المجموعة لها لون وطابع خاص بها لا يشبهه لون القصة التي تليها أو طابعها. وأول قصة تطالعك في هذه المجموعة التي طبعت مرتين (1977 و 1982) تتكوّن من إحدى عشرة قصة هي: (كأس شاي) وقد أبدع الكاتب في عرض إحدى ذكريات طفولته التي تبدو لنا حافلة بالنشاط والشقاوة والذكاء والفطنة، وقد وصف لنا أستاذه (الشيخ نايف) وصفاً دقيقاً حيث الجدية والاتزان والحب لطلابه ويقابله حبّ طلابه له. وخرجنا من تلك القصة التي تجمع الجد بالفكاهة بحكمة حكيمة وهي أن الراحة لا تأتي إلا بعد التعب، أما في قصة (الشيخ خضر) فإننا نلمس تحيز الكاتب إلى جانب حقوق المرأة الشرعية التي يحرمها منها الكثير من المنتسبين إلى الإسلام. صوّر لنا الشيخ (خضر) يقطع مسافات بعيدة لينصح بطل القصة بعدم تفضيل ابنه الذكر على ابنته الأنثى، لأنهما ولداك، ولأنك لا تدري في أيهما الخير، وصوّر لنا الكاتب منظر البيت العائلي الدافئ في ليالي الشتاء القارص تصويراً محبباً إلى القلوب الدافئة.. وانتقل الكاتب ليعرض لنا في قصة (الضياع) صورة للإنسان الفقير المضطهد في مجتمعنا الذي قد يحرم من هيبته لا لسبب إلا لفقره، ونجده كذلك يلامس واقع المرأة في مجتمعنا التي تباع كسلعة لمن يدفع المهر الأعلى، والتي ربما تقتل لا لشيء إلا لأنها أحبت خطيبها الفقير. ثم يعرج بنا إلى الناحية الدينية التي تبدو متأصلة في نفسية الكاتب ففي قصة (طريق الشيطان) شجع المنحرفين مهما اشتدّ انحرافهم إلى العودة إلى الله لأن طريق الله مفتوح للتأبين. ونجد الفكاهة الأدبية والسخرية من المتشدقين الذين يحاولون الالتصاق بالمدنية الزائفة وقشورها المزيفة وذلك في قصة (أصول الإتيكيت) حيث يسخر الكاتب من ضابط حاول الاعتداء على بطل القصة اعتداءً عصرياً عندما ترك طعامه لينصح الضابط/ بطل القصة - وليس بينهما سابق معرفة- يعلمه إتيكيت الطعام مما يثير حفيظة بطلنا فيسخر منه بتعليمه أصولاً غير صحيحة للإتيكيت السويدي على حسب زعمه، ونتابع أفكار الكاتب المتنوعة حتى نصل إلى قصة رمزية لوصول بعض الجهلة، الذين هم لا في العير ولا في النفير، أعلى المناصب، وعلى غفلة، ثم ما يلبث الكاتب أن يوضح لنا ذلك في قصة (عفريت) وهو طريق بيع الشرف والكرامة لمن يركض الناس حولهم لمسح جوخهم، كل على طريقته، وفي قصة (بنت أكابر) يظهر لنا الوجه القبيح للطبقة الأرستقراطية المستغربة حيث الانفلات والقمار والزنى والخمور وغير ذلك من الموبقات.. سمات تميزها من غيرها من طبقات المجتمع الأخرى.. هذا الأرستقراط الذي يبدو لنا في التقليد الأعمى الذي يشبه تقليد القردة للإنسان ولغيره من الحيوانات، وفي قصة (قدر) نجد الحكمة التي تقول بشكل واضح (تعددت الأسباب والموت واحد) وإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون، ولا يقول: إن القدر يسخر من الناس، فالقدر لا يسخر.. قصة (قدر) تمنح الفرد المسلم إيماناً.
وفي (ذريّة بعضها من بعض) التي اختار الكاتب اسمها عنواناً لمجموعته نجد ذلك الإقدام عند بعض المقاتلين الذين ما كانت شجاعتهم إلا قطرة من بحر شجاعة وقوة إيمان والديهم، ويختم الكاتب مجموعته بقصة (الأفعى) التي تظهر لنا تلاعب بعض المحامين بالقانون واستخدامهم لزوجاتهم وبيعهم لأعراضهم في سبيل كسب قضاياهم.
ولا ننسى أن ننوّه إلى ذلك الاقتباس الرائع الذي وضع في موضعه من القرآن الكريم مثل (ذرية بعضها من بعض) المقتبسة من آية كريمة في سورة (آل عمران) ومثل اقتباس الكاتب في قصة (طريق الشيطان) عبارة (قاب قوسين أو أدنى) المأخوذة من قوله تعالى في سورة النجم الآية (9) وغير ذلك من المقتبسات التي تدل على عمق تعلق الكاتب بسيد الكتب كتاب الله تعالى، فضلاً عن استخدامه لأحاديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم) في كثير من المواضع كما في قصة (ضياع) حيث ذكر الحديث الشريف (إن أعظم النكاح بركة أيسره مؤونة) وفي قصة (طريق الشيطان) ذكر الحديث الشريف (كل بني آدم خطّاء وخير الخطائين التوابون) وضمّن أقاصيصه شيئاً من مقولات بعض أعلام الإسلام كما في قصة (كأس شاي) فقد اختار مقولة رائعة للحسن البصري (ابن آدم، إنما أنت أيام إذا ذهب يوم ذهب بعضك).. ومثل هذه الاقتباسات والتضمينات تثري لغة القارئ وتعمق صلته الروحية بدينه الحنيف، وقد أبدع المؤلف في وصف بعض الشخصيات بشكل يجعلك تتخيّل البطل أمامك وكذلك في وصف بعض المواقف الأمر الذي أعطى قصصه قوة وصلابة فهو يبني أمامنا ملحمة كاملة ولكن في بضعة أسطر فقط..
وكان للكاتب مقدرة عجيبة على إدارة الحوار بين أبطاله فكان حواراً مقتضباً في بضع كلمات لكنه جامع للمعنى ملم به. وأخيراً لا ننسى أن ننوّه إلى المقدمة التي وضعها الكاتب الأستاذ (محمد الحسناوي) فقد عرّف فيها كاتب المجموعة، على شخصه، وعلى أدبه.. تلك المقدمة التي تعطي صورة واضحة عنه، في حياته مع أصدقائه وإخوانه، وعن حياته الأدبية، وما سوى ذلك.