قصة سقوط بغداد ـ أحمد منصور

لندن/ "خدمة التقارير والأبحاث" قصة سقوط بغداد - كتاب جديد

الثلاثاء 14 تشرين أول (أكتوبر) 2003 (35 : 10 ت غ)

"قصة سقوط بغداد" .. كما يرويها أحمد منصور

صدام لم يستعد لمعركة بغداد.. والأمريكيون نقلوا قادة كبار سراً

تخبط قرارات قصي أنهك الجنود.. وقادة كبار اختاروا العودة إلى المنازل

بغداد سقطت سريعاً إثر الفراغ القيادي في الجيش واستخدام الأمريكيين أسلحة غامضة

المقاتلون غير النظاميين هم الذين أعاقوا زحف الغزاة في الجنوب والوسط وليس الجيش

لندن - خدمة قدس برس

(وحدة الدراسات والبحوث)

لم يكن سقوط بغداد على يد القوات الأمريكية في التاسع من نيسان (إبريل) عام 2003 حدثاً عادياً في المنطقة، كما لا يمكن عزله عن سياقه التاريخي، بالنسبة للمدينة، التي سبق وأن ارتبط سقوطها، قبل سبعة قرون ونصف القرن في الوعي العربي والإسلامي بالفظائع والفواجع، التي اقترفها المغول.

وإذا كان السقوط الأخير لبغداد قد جاء سريعاً، بالمقارنة مع ما كان يتوقعه المراقبون؛ فإنّ تطورات الموقف العراقي ومفاجآته المتلاحقة، لم تكن تسمح بوقفة تأمل لملابسات الاحتلال الجديد في العراق، في الحرب التي لم تتجاوز الأسابيع الثلاثة.

إلاّ أنّ كتاب "قصة سقوط بغداد" للإعلامي العربي البارز أحمد منصور، الذي سيصدر قريباً وأتيح لوكالة "قدس برس" الاطلاع على مادته؛ يمثِّل معالجة لافتة للانتباه للقضية الساخنة، التي تشدّ أنظار العالم إليها بتطوراتها اليومية، وبخلفياتها وملابساتها ومآلاتها.

"قصة سقوط بغداد" الذي يتوقع الناشرون له أن يتصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعاً في الأسابيع والأشهر المقبلة، خاصة وقد سطّر فيه الإعلامي البارز أحمد منصور قراءته للحدث العراقي، في مرحلة التحول الأدق، التي يجتازها؛ يأتي بمثابة أكثر من شهادة على المرحلة، طالما أنه ينطلق في معالجته للملف الملتهب من رؤية ميدانية، استجمعها داخل العراق، ومن متابعة أوسع أتيحت له خارجه، بما يمنح العمل الجديد؛ "قصة سقوط بغداد"؛ أهمية خاصة.

 

بغداد.. قبيل السقوط

"مشيت في شوارع بغداد القديمة، قبيل الحرب، أطالع وجوه العراقيين المتعبة، والقلقة والمترقبة للحرب"، هكذا يستعرض الكاتب والإعلامي أحمد منصور الحالة، التي بدت فيها بغداد قبيل احتلالها بأيام.

فالحياة "تبدو شبه عادية، كما كنت أراها في مرات زياراتي السابقة لبغداد، خلال السنوات الماضية، غير أنّ المتاريس وأكياس الرمال والخنادق، منتشرة هذه المرة في شوارع المدينة بشكل كبير، والكل يترقب الحرب في أي لحظة، كما قال لي أحد المسؤولين العراقيين (...)".

وبعد أن يتطرق منصور لحالة التدافع الإعلامي، باتجاه العاصمة العراقية، يمضي إلى القول "أسوأ شيء في الحياة؛ أن تنتظر مجهولاً تعرف أنه سيئ، بل ربما يكون أسوأ شيء في الحياة، لكنك لا تستطيع أن تحدد حجم أو مقدار ما يحمله من سوء ودمار، وهل هناك أسوأ من الحرب؟!"، كما يسطر الإعلامي الذي قام بتغطية ثلاثة حروب سابقة، وعرف الأهوال التي يعيش فيها الناس، قبل الحرب وأثناءها وبعدها، خاصة وأنّ "الحرب لا تحمل أي فأل حسن، حتى لو كانت نتيجتها، كما يُدعى نظاماً ديمقراطياً، سيكون نموذجاً لدول المنطقة، لأنّ ما هو آت سيكون أسوأ مما هو قائم (...)".

ويقف أحمد منصور على استعدادات المواطنين العراقيين للحرب، بما في ذلك لهجة التحدي للولايات المتحدة، وتأمين الغذاء والمياه والدواء، راصداً ما تركته الحرب من انعكاسات على حياتهم اليومية، ونظراتهم إلى المستقبل.

وبعين الإعلامي لاحظ الكاتب أنّ "الكل كان يتوقع أنّ معركة بغداد إذا وقعت لن تكون سهلة، لأنّ بغداد من المدن المنبسطة، ذات الامتداد الأفقي، والمباني المرتفعة فيها نادرة وقليلة، ومن ثم فهي مترامية الأطراف، وخلاف القصور الجمهورية، فالمدنيون في كل أرجاء المدينة، وكل مبنى غير القصور، يمكن أن يكون هدفاً سوف يؤدى إلى عدد هائل من الضحايا المدنيين".

وأضاف "كنت وأنا أتأمل المباني الحكومية، وأرى مواقعها من الأماكن السكنية، نظرت بتأمل إلى مبنى وزارة الإعلام، حيث أصبح مقراً لكل وسائل الإعلام العالمية، وقلت في نفسي يمكن أن يكون هذا المبنى هو أأمن مكان في بغداد، إذا نشبت الحرب، لأنّ الأمريكيين سوف يترددون كثيراً في قصفه، ثم ضحكت من تفكيري وقلت: شرّ البلية ما يضحك، لكنى كنت واهماً على ما يبدو، فحينما رجعت إلى فندق الرشيد، حيث كنت أقيم، وجدت الصحفيين الغربيين في حالة رعب وخوف وهلع شديدة، بعدما جاءهم تحذير بإخلاء مواقعهم من مبنى وزارة الإعلام، لأنه سيكون أحد الأهداف الأمريكية المباشرة في القصف، وقد كان بالفعل".

 

قصة سقوط بغداد

ويقول أحمد منصور "مثلي مثل كثير من المتابعين للأحداث، فوجئت بالسقوط السريع للعاصمة العراقية بغداد، بعد ثلاثة أسابيع من المقاومة في المدن والمناطق الجنوبية من العراق. ورغم أنّ معظم المحللين العسكريين الذين كانوا يتابعون المعركة كانوا يسيرون في اتجاه أثبتت النتائج النهائية للحرب أنه كان معاكساً لما كان يحدث، على أرض الواقع؛ إلا أنّ الحقائق تتكشف يوماً بعد الآخر، مؤكدة على أنّ ما حدث كانت فيه خفايا وأسرار كثيرة، ربما لن يُكشَف الكثير منها على المدى القريب"، كما جاء في كتابه.

ويوضح الكاتب أنه بعد سقوط بغداد؛ حاول، وعلى مدى عدة أسابيع، فهم ما حدث، من خلال التقارير والمقابلات الشخصية مع متابعين قريبين أو مراسلين حربيين، ممن كانوا في مناطق خطرة، كذلك من مسؤولين سابقين في النظام العراقي، أو زعماء في المعارضة، كانت لهم صلات قوية في الداخل، قبل انتهاء معركة بغداد وبعدها، أو من اتصالات وجلسات استماع ونقاش مع مهتمين ومتابعين ومختصين في الشأن العراقي، وغير ذلك من المصادر.

وإذا كان الأمر يتعلق بسقوط سريع ومفاجئ للعاصمة العراقية، وليس أم قصر، البوابة الحدودية؛ فإنه من المنطقي أن يذهب المؤلف للبحث عن أولئك، الذين حملوا مسؤولية الدفاع عن العراق. ففي تحليله يسجل أحمد منصور أنه "من الواضح أنّ الولاء الشخصي والأمية والجهل كانت هي المؤهلات الأساسية، التي كان صدام يجعلها معايير تضع الناس في صفوف قيادة جيش يدافع عن دولة مثل العراق. ولأنّ القهر والقتل كان الأسلوب الطبيعي، الذي يستخدمه صدام ضد من يعارضونه؛ فقد كان القادة العسكريون لا يعرفون ولا ينفذون إلا ما يقوله الزعيم الملهم، وقادة أركانه الأميين والجهلة، وهذا ما أكده كثير من الضباط الذين تحدثوا بعد سقوط بغداد، ووقوع العراق تحت الاحتلال الأمريكي (...)"، على حد تعبيره.

أما نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة فقد كان قصي صدام حسين، الذي كان حديث عهد بالخبرة العسكرية، فقد امتازت قراراته، أثناء الحرب، بالتخبط الشديد، وإرهاق القوات في التنقل هنا وهناك، مما جعل القوات العراقية هدفاً سهلاً للغزاة الأمريكيين، كما أخبر منصور بذلك بعض ضباط الحرس الجمهوري، الذين التقاهم في العراق، بعد سقوط بغداد، ونقل عن أحدهم قوله بأسى "لم نكن نستقر في موقع ونتمترس فيه إلا وتأتينا الأوامر بالتحرك لموقع آخر، مما جعلنا هدفاً سهلاً للقوات الأمريكية. وأذكر أنني في لحظة واحدة فقدت أربعة وعشرين دبابة، من أفضل الدبابات عندي مع أطقمها، بسبب إصرار القائد الأعلى على أن أتحرك بقواتي وأجعلها هدفاً مكشوفاً للقوات الأمريكية، فوقفت أبكي مثل الأطفال من هول ما رأيت، كما أنّ كل اتصالاتنا انقطعت مع قيادتنا، ولم نكن نعرف أي هدف نضرب، أو إلى أي مكان نتجه"، كما نقل عنه.

 

إنهاك وفوضى في الجيش المرابط حول بغداد

يتتبع منصور في كتابه "قصة سقوط بغداد"، الذي اطلعت عليه وكالة "قدس برس"؛ مؤشرات الإنهاك والتوتر الشديد، الذي بدا على الجنود العراقيين في الأيام الأخيرة للحرب، نظراً لعدم توقفهم عن الانتقال من مكان إلى آخر، وفقدانهم القدرة على النوم، بينما ثمة من يشير إلى أنّ كل وسائل الاتصال بين المقاتلين في الجبهات وقيادة الأركان العليا قد توقفت عن العمل كلياً، قبل أسبوع من سقوط بغداد.

ويبدو أنّ قصيّ، الذي تم تعيينه على رأس الجيش، اتخذ بالفعل "قرارات مصيرية" بإرسال الحرس الجمهوري بعيداً عن العاصمة، إلى مناطق قرب كربلاء وغرب الفرات، ظناً منه أنّ القوات الأمريكية ستأتي من هناك، وعندما اكتشف خطأه، أمر الجنود بالعودة إلى بغداد، فكان الوقت متأخراً جداً، حسب ما ينقل عن شهادات أدلت بها قيادات عسكرية عراقية رفيعة المستوى أورد أسماءها في الكتاب.

وفي هذا السياق تقول الرواية إنّ صدام وقصي أمرا قيادة الأركان في الثالث من نيسان (إبريل نيسان)، أي قبل سقوط بغداد بستة أيام، بإبلاغ الجنود العراقيين أنّ الأمريكيين نقلوا رسالة إلى العراقيين، مفادها أنّهم سوف يضربون بغداد بالأسلحة النووية. وحسب ما يفيد قيادي عسكري عراقي بارز، فإنّ القادة العسكريين رفضوا في البداية الامتثال لهذا الأمر، وحاولوا إقناع صدام وابنه بأنّ مثل هذا الإعلان سوف يحبط معنويات الجنود، لكن قصي الذي ظل طوال الوقت بملابسه المدنية مرتدياً البدلة وربطة العنق، أصرّ على إصدار بيان بهذا الخصوص، مما أثار حنق العسكريين.

وفي مسعى تبيان الهوة الشاسعة، التي لاحظ أحمد منصور أنها تفصل بين كيفية تفكير الرئيس العراقي ونجله قصي من جانب؛ والقادة العسكريين في جيشه من جانب آخر؛ يتابع منصور نقلاً عن المصادر ذاتها أنّ قصي أدرك أنّ العسكريين غير راضين عن قراراته، فدعا لاجتماع موسع لتنفيس ذلك الغضب، وصب اللوم في الهزيمة خلاله على العسكريين، وفى الاجتماع، المفترض، انهار أحد كبار القادة العسكريين وراح يبكى قائلاً بأنّ خيرة جنوده قتلوا، بينما ساد شعور بالغثيان بين الحاضرين من تصرفات صدام ونجله. وكان ذلك على ما يبدو مدعاة للعسكريين للبدء بالتهامس سراً بأنّ من يرغب في مواصلة القتال فليفعل ذلك على عاتقه الشخصي، وبهذا قرّر جميع القادة العسكريين الانصراف إلى بيوتهم، معلنين أنهم مستعدون للقتال من أجل مستقبل أبنائهم ووطنهم، ولكن ليس من أجل صدام وعدى.

وحسب الرواية؛ فقد حدث هذا قبل ستة أيام من سقوط بغداد، بينما كان القتال لا يزال مستعراً بعيداً عنها، وكان هذا آخر اجتماع للقيادة العسكرية، التي تفرّق شملها بالفعل، مساء الرابع من نيسان (إبريل)، وفى الخامس منه شنت الدبابات الأمريكية هجمات سريعة ومتكررة على بعض أحياء بغداد، بينما كان وزير الإعلام العراقي الصحاف يعلن عبر مؤتمراته الصحفية بأنّ القوات العراقية سوف تسحق "العلوج"، في الوقت الذي كان فيه القادة قد يئسوا وتفرقوا حسب أقوالهم إلى بيوتهم.

 

فرضية خيانة كبار القادة

في السابع من نيسان (إبريل) تم احتلال القصر الجمهوري. وفى اليوم الثامن وصلت دبابتان أمريكيتان إلى جسر الجمهورية، ووقعت "مذبحة الصحافة"، وذلك، حسب أحمد منصور، "من أجل التغطية على جانب خطير من القصة، وهو تهريب الخونة، الذين باعوا بغداد والعراق"، كما يورد في كتابه الجديد.

وهنا يميل منصور إلى الرواية، التي قالت بأنّ صدام حسين تعرّض للخيانة من ابن عمه ماهر سفيان التكريتي، الذي كان معاوناً لنجله قصي في قيادة الحرس الجمهوري، مشيراً إلى أنّ ماهر سفيان أمر قواته بعدم الدفاع عن بغداد، إثر اتفاق عقده مع الأمريكيين. وقد أعلنت القوات الأمريكية، في الثامن من نيسان (إبريل) عشية سقوط بغداد، وبعد الاستيلاء على مطارها؛ موت ماهر سفيان التكريتي.

وكانت مصادر صحفية فرنسية قد ذكرت في حينه أنّ ماهر سفيان التكريتى قد عقد "اتفاقاً" مع الأمريكيين، قبل عام من ذلك، يقضى بعدم اشتراك مائة ألف عسكري من الحرس الجمهوري في القتال، وأنه اقتيد مع عائلته سرّاً في الثامن من نيسان (إبريل) على متن طائرة "سي 130" إلى قاعدة عسكرية أمريكية، وبالتالي فإنّ نبأ موته ليس صحيحاً.

وقد رشحت أنباء عن خروق أخرى قام بها مسؤولون عراقيون، بينهم قريب آخر لصدام حسين هو عبد الرشيد التكريتي، الذي كان، بناء عليها، يُطلع الأمريكيين على تحركات الجيش العراقى وتحركات قائد قوات "فدائيى صدام"، بينما سلّم ضابط آخر في الحرس الجمهوري الأمريكيين معلومات عن مكان وجود صدام حسين ليلة 19 إلى 20 آذار (مارس) تاريخ اندلاع الحرب على العراق، و7 نيسان (إبريل) في حي المنصور، وقد قام الأمريكيون في التاريخين المذكورين بقصف المكانين المحدّدين، إلا أنّ الرئيس العراقي نجا من الموت.

وينقل الكاتب رواية مفادها أنّ صدام حسين "كان يشكّ في بعض من حوله، فاختبرهم واحداً تلو الآخر، حتى أخبر هذا بأنه سوف يذهب إلى حي المنصور، الذي قُصف بعد خروج صدام منه، وأنّ صدام قد قام بتصفيته على الفور، وبعدها فقد الأمريكيون أثر صدام"، وثمة روايات مشابهة أخرى تعزِّز هذه الفرضية يشير إليها الكتاب.

 

فراغ في القيادة وفوضى ما قبل السقوط

وفي ظل المعلومات التي تقول بالتحاق عشرات، بل مئات، القيادات العسكرية العراقية بالجانب الأمريكي، الذي نقلهم سراً إلى جهة غير معلومة، وهي المسألة التي يرجِّحها أحمد منصور في كتابه؛ أوتي لمظاهر الفراغ القيادي أن تترك انعكاساتها على القوات العراقية.

فجنود الحرس الجمهوري أخذوا قبل أيام عدة من سقوط بغداد يهربون في موجات متلاحقة، بأوامر من قادتهم، أو بسماح منهم، بينما تحولت دباباتهم إلى هياكل محروقة، جراء القذائف الأمريكية، وسط قناعة من تبقى من القادة الميدانيين بانعدام فرص النصر. ثم كانت شكاوى بعض القيادات تتعالى من عدم حصول مجموعاتهم المكلفة بالتصدي للغزو الأمريكي سوى على أسلحة فردية وبمعزل عن الدفاعات الجوية.

وبينما هرب كثير من كبار القادة، ما بدا أمراً مزعجاً لزملائهم ومرؤوسيهم؛ اتضحت عدم رغبة الحرس الجمهوري في القتال، وبعد مشاورات عدد من تبقى من القادة مع قواتهم تم التوافق على خيار العودة إلى المنازل، وسط مشاعر "العار والمهانة" التي سادت الموقف.

ويستنتج أحمد منصور خلاصة دقيقة، عبر حكم يصدره بالقول إنّ "صدام يتحمل المسؤولية الأساسية عن صناعة جيش كرتوني في النهاية، ووضع رجال أميين وجهلة، الذين كانوا يدينون له بالولاء الشخصي، والذين خانوه في النهاية على رأس جيش العراق"، على حد تعبيره.

كما يذهب الكاتب إلى حد التأكيد بأنه لم تكن هناك خطة محددة للدفاع عن بغداد أو العراق بشكل عام، ويفيد بأنه شاهد بأمِّ عينيه أنه باستثناء بعض الخنادق التي حفرت في المدينة لم تكن هناك أي مظاهر تدلّ على أنّ المدينة تترقب المعركة، سوى تسريب إشاعات بأن هناك "سبعة ملايين مسلح سوف يأكلون الأمريكيين ويسحقونهم"، حينما يقتربون من أبواب المدينة، وليس هناك أي حشد إعلامي، مثل الذي سبق "أم المعارك" في سنة 1991.

وعبر عدد من صفحات "قصة سقوط بغداد" يتنقل الكاتب بين من يلقي اللوم على ارتخاء القيادات العسكرية العراقية، لأنّ شعوراً ساد في أوساطهم بأنّ بغداد عصية على الاحتلال، ولن يستطيع الجيش الأمريكي دخولها؛ والآخرون الذين يرون أنّ العراقيين تأخروا في الاستعداد للحرب، وهو ما يعني عدم تنفيذ خطط دفاعية محكمة، وحتى عدم قدرة الجيش على استخدام بعض الإمدادات القتالية الجديدة.

ومن الثابت علاوة على ذلك، أنّ الجبهة الداخلية للعراق كانت "ممزَّقة للغاية، ولا يمكن لأي قائد أن يخوض معركة خارجية وجبهته الداخلية ممزقة وكارهة له ولنظامه، وهذا ما لم يدركه صدام، فقد بلغت كراهية شعبه له مبلغاً لا يوصف، تمثل في التاسع من نيسان (إبريل) حينما أُسقط التمثال الأول في ساحة الفردوس، فقد تبعه تدمير شامل لكل تماثيله، بل وتصفية لرجال نظامه بلغت أشكالا دموية شنيعة، بسبب ما ارتكبه بحق شعبه".

ومع ذلك يقر الكاتب بأننا "لا نستطيع أن نقول بأنّ القوات العراقية لم تقاتل في معركة بغداد بشكل نهائي، ولكن جانباً منها قاتل دون شك، ولكنه قتال المنهزم، لأنّ القيادات العراقية بدت منهزمة من البداية (...)".

وأوضح منصور أنّ المناطق الجنوبية في العراق، التي صمدت أكثر من أسبوعين؛ لم تكن قد فعلت "بفضل صمود القوات العراقية (النظامية)، ولكن بفضل صمود الفدائيين والمتطوعين من عراقيين وعرب"، بما في ذلك البصرة.

فالفرقة 51 التي كانت مكلفة بالدفاع عن البصرة انسحبت من المدينة في اليوم الرابع للقتال، ومباشرة بعدما ظهر قائد الفرقة اللواء خالد الهاشمي على شاشة قناة "الجزيرة"، ليعلن نبأ عدم استسلام قواته. فقد كان قد أصدر أوامره لقواته بالانسحاب، في الوقت نفسه الذي كان البريطانيون يتفاوضون فيه مع زعماء العشائر وقادة باقي القوات غير النظامية، حتى أخليت لهم المدينة تماماً، ودخلها البريطانيون دون مقاومة، إلا من متطوعين عرب، خاضوا معهم معركة دامية قرب جامعة البصرة.

وينقل الكاتب وقائع تصب في الدلالة ذاتها من مدينة الناصرية، التي خاضت قتالاً عنيفاً، وأعاقت تقدم القوات الأمريكية طيلة أسبوعين. فالأمر فيها يعود "لكتيبة من المقاتلين العرب قوامها مائتا مقاتل، هي التي أخّرت تقدم القوات الأمريكية طيلة يومين، بل إنها نجحت في تراجع القوات الأمريكية وتقهقرها، بعدما سيطرت على المطار في المرة الأولى، وقد قُضي على هؤلاء، وأسر بعضهم، وانسحب آخرون إلى بغداد، يحملون بعض شهدائهم"، كما يرد في الكتاب.

 

بغداد تسقط في أيدي الأمريكيين وأسلحتهم الغامضة

فرّ كثير من جنود الحرس الجمهوري العراقي، بعدما وجدوا أنفسهم هدفاً سهلاً للقوات الأمريكية. كانت الفرق الأربع المتحصنة حول بغداد، والتي يفترض أن تضم كل منها عشرة آلاف جندي، وهى بغداد والمدينة وحمورابي ونبوخذ نصر، قد شكلت خطين دفاعيين جنوبي العاصمة، على شكل نصف قوس، كان الخط الأول (الخارجي) متحصناً بشكل جيد من كربلاء إلى الكوت، ولمسافة طولها 160 كيلواً متراً، أما الخط الخلفي (الداخلي) فطوله تقريبا 48 كيلومتراً، ويمتد من اليوسفية وحتى الصويرة، غير أنّ عدد القوات المنتشرة في هذه المناطق كان غير معروف.

وبحسب الاستخبارات الأمريكية؛ فقد تم تقويض كافة هذه القوات، التي تقدر مصادر عسكرية أمريكية وخبراء متابعون عددها بما يتراوح بين 16 ألفاً و24 ألف جندي. وفي معظم الوقت كانت القوات الأمريكية تضرب هذه القوات من الجو، واستهدفت نصف الغارات الجوية، التي تقدر بحوالي 28 ألف غارة الحرس الجمهوري.

في هذه الأثناء كانت القيادة الأمريكية قد قرّرت إنهاء معركة بغداد بأي ثمن، بعدما أصبحت صورتها سيئة أمام جنودها، وأمام الرأي العام الأمريكي والعالمي. فمن الناحية العسكرية قرّرت استخدام أسلحة جديدة، غير مسبوقة، في تدمير كافة أماكن تواجد القوات العراقية حول بغداد، منها قنابل صوتية لا تدمر، ولكنها تحدث صوتاً عالياً، اتضح من خلال بعض التقارير أنها قنابل جديدة كهرومغناطيسية، تصيب دائرة قطرية صغيرة وتسبب تعطيل الحواس الخمس وكافة أشكال الحياة، ومن ثم الوفاة السريعة لكل الموجودين في دائرتها.

ويورد أحمد منصور شهادات طبية ميدانية عن كثير من القتلى العراقيين، الذين شوهدوا وقد تحوّلت أجسادهم إلى اللون الأزرق، ونزلت الدماء من أنوفهم وعيونهم وآذانهم، ولعل هذه هي آثار استخدام صواريخ "هل فاير"، التي اعترف وزير الدفاع الأمريكي دونالد رمسفيلد في جلسة عقدها الكونغرس الأمريكي في 14 أيار (مايو) 2003 باستخدامها في الحرب ضد العراق.

وقد ضمّن منصور كتابه إفادات لقيادات عسكرية عربية، منها ما يؤكد استخدام الأمريكيين لقنابل محرمة دولياً، لها خاصية القنابل النووية، غير أنّ تأثيرها يمتد إلى دائرة صغيرة قطرها لا يزيد عن كيلومتر واحد.

بينما أشارت مصادر أخرى إلى أنّ بعض القنابل التي ألقيت على قطاعات عسكرية، كانت تؤدى إلى تسييل أجساد الجنود، بحيث لا يبقى إلا الهياكل العظمية، وثمة إشارات في الكتاب إلى قنابل أخرى، كانت تؤدى إلى تحجر أجساد الجنود، أو الذين يتواجدون في دائرتها، وقد تعززت هذه الروايات بشهادات طبية.

ويمضي الكاتب إلى القول "إذا كانت التقارير لازالت تتحدث حتى الآن عن اكتشافات جديدة لنوعيات من الأسلحة المحرمة دولياً، والتي استخدمها الأمريكيون في حرب كوريا، بداية الخمسينيات، وفى حرب فيتنام في الستينيات والسبعينيات؛ فما بالنا بحرب العراق، التي لم تنته من الناحية العملية، رغم إعلان (الرئيس الأمريكي جورج) بوش عن نهاية العمليات في أول أيار (مايو) 2003؟".

في هذه الأثناء كان الأمريكيون قد "رتبوا آخر أوراق التفاوض مع الخونة، وكان القادة الجهلة قد فرُّوا هم الآخرون، وتركوا الضباط والجنود المخلصين لبلدهم يواجهون الحرب وحدهم"، إذ "دخل الأمريكيون إلى بغداد دون مقاومة وبثمن بخس"، حسب وصف الكاتب.

وقد شوهدت قيادات عراقية كبيرة، وهي تخبر وحدات مقاومة الطائرات بعدم استخدام أسلحتها ضد طائرات الأمريكية، "وهذا يؤكد أنّ الخيانة لم تكن عند حد ماهر سفيان التكريتي وحده، وإنما من آخرين أيضاً"، كما يرد في الكتاب.

ولعل ما يراه أحمد منصور بمثابة خلاصة لقصة سقوط بغداد، هي أنها "ليست سوى قصة حاكم ظالم مستبد، جمع حوله مجموعة من الجهلة والخونة، حكم بهم شعبه بالحديد والنار"، ولكنها ليست الخلاصة الوحيدة التي يخرج بها الكتاب.