روائع الإحياء
نموذج رفيع في التعامل مع التراث
علاء الدين آل رشي/ كاتب سوري
تعود ذكريات تواصلي المعرفي مع كتاب "الإحياء" إلى مدينتي دمشق وتحديداً مسجدها العريق "الأموي" حيث كنت في أوائل التسعينيات فجر كل يوم جمعة أستمع إلى محاضرة يلقيها مفتي مدينة دمشق الأستاذ العالم "عبد الرزاق الحلبي" وأدركت حينئذ أن الكتاب مليء بالمعارف المتنوعة فهو ضميمة من الرقائـق والمواعـظ والسلـوك
الرفيع واللفتات التربوية والإشارات اللطيفة والاستنباطات النادرة، وكنت كثيراً ما أعلق على هامش نسختي، ولكن إلى جانب هذا كان الكتاب يحمل بين دفتيه الكثير من الأخبار الموضوعة والضعيفة والتزيدات الممجوجة وغير المقبولة، وأيقنت نبل موقف المرحوم الأستاذ محمد الغزالي (1917 - 1996م) من الإحياء وصاحبه عندما قال في كتابه: علل وأدوية "جهد الغزالي في الإحياء مشوب، وقد وقع في أخطاء شتى بيد أن الكتاب من أخصب المؤلفات في شرح آفات النفوس، وتقويم الطباع البشرية، واقتياد البشر إلى ربهم تبارك اسمه".
كان من دواعي هذا الكلام ما نشرته الأستاذة عبير غندور في جريدة "الوطن" من بروز إنتاج جديد فني بعنوان "روائع الإحياء" وهو مختارات تقع في عشرين شريطاً مسموعاً تتقاسمها مجموعتان، لفت انتباهي أن هذا المشروع قد تضافرت جهود متنوعة لإخراجه وكان العمود الفقري لإعداد النصوص الأديب سليم عبد القادر وكم كانت مفاجأة لي أن يحمل هذا المنتج اسم هذا الأديب فقد عهدناه في البلاد العربية أنه شاعر يرعى إنسانية الطفولة وينمّي وجدانها وأفكارها عبر كلماته التي تسابقت قنوات فضائية على بثها يومياً، فأصبحت أناشيده غنوة حلوة تسيل على ألسنة البراعم الناشئة.
وهذا العمل الجديد الذي أطل به علينا الشاعر سليم عبد القادر هو عمل إذاعي أنتجته الشركة المتميزة "سنا" وأدّاه فريق من المذيعين بمشاهد أدائية تعبيرية تصويرية تضع المستمع في جو الموضوع وحرارته أو برودته، والملحوظ أن هذا المنتج اتّخذ موقفاً إيجابياً من موسوعة "إحياء علوم الدين" بحيث تجاوز السيد سليم كل ما يتعارض مع العقل والنقل وقدّم الإسلام التربوي برؤية عصرية.
إن القيمة العلمية الفنية لا شك أنه سيقدرها أهل العلم والفن ولكن عندي ملاحظات على هذه التجربة الرائدة:
أ - الاعتدال في التعامل مع الموروث الثقافي هو ظاهرة علمية تتأكد في عصرنا الحاضر، وهو نهج قال به السلف وتبعه العلماء العقلاء وكنت قد قرأت في الفتاوى لشيخ الإسلام ابن تيمية كلاماً رائعاً في تعامله مع موروث الصوفية وتبعه على ذلك الإمام جمال الدين الأدنوي والإمام الشاطبي وأوجز ابن القيم الموقف العلمي الفارق فقال:
"كان التصوف حرقة فصار حرفة، كان في بواطن القلوب فصارفي ظواهر الثياب".
تفرقة دقيقة بين الدخلاء والأصلاء.
قدّم هذا العمل أنموذجاً رفيعاً في التعامل مع التراث حيث نجد أن الكثيرين من الذين يتعاملون مع الثقافة المتوارثة ينامون في أحضانها بل ربما يستجرّون مشاكلها لتدويخ وتنويم عقول الكثيرين ورميها خارج الزمان والمكان، وقد استطاع السيد سليم أن يتجاوز الإشكاليات التاريخية ليقدّم نافعاً في الراهن وتحولاته.
التعامل مع التراث الصوفي يحتاج إلى نفس علمي منضبط حيث دخل من طريق المتصوفة البدع ولذلك لا بد من (سلفية) للتصوف ترجعه إلى أصوله المعتبرة، وبذلك نزاوج بين صوفية القلب وسلفية الفكر ونخرج بعملة تحمل تصويف السلفية وسلفية الصوفية وهذا أمر جليل تصدى له الإمام ابن القيم عندما شرح مدارج السالكين لمؤلفه الذي يعد من أعمدة الصوفية فهذّب ونقد كلامه ولم يأخذ موقفاً شمولياً واحداً.
وفي الختام أشكر جريدة الوطن لفسحها المجال للتعليق على خبر الأستاذة عبير غندور ونأمل من شركة سنا أن تزيد من إصدار السلاسل المسموعة التي هي بمثابة الحزن في زمن لظى أيامه لا تطفئها فنون زائفة..