من بليموث إلى جيكور... حق التضحية بالآخر
من بليموث إلى جيكور... حق التضحية بالآخر
عرض: يوسف يوسف
في كتابه الذي بين أيدينا (حق التضحية بالآخر- أمريكا والإبادات الجماعية) يضيء الكاتب منير العكش المسكوت عنه من الثوابت التي رافقت التاريخ الأمريكي في كل محطاته من مستعمرة بليموث إلى جيكور السيّاب، وهي: المعنى الإسرائيلي لأمريكا، عقيدة الاختيار الإلهي والتفوق العرقي والثقافي، الدور الخلاصي للعالم، قدرية التوسع اللانهائي وحقّ التضحية بالآخر، وذلك في سبعـة فصول، نطل من خلالها على الحجر الأساس الذي قامت عليه فكرة أمريكا، التي يتناولها توماس مورثان أيضاً، وإن بطريقة مختلفة، في كتابه (كنعان الجديدة الإنجليزية). وهو الكتاب- الشهادة التاريخية على ما حدث لأصدقاء مورتون الهنود الحمر. ولولا هذا الكتاب لدخل مورتون عالم النسيان، ولخسرنا الكثير مما يجب أن نعرفه عن المجازر التي ارتكبها "البيورتيان" الأوائل في قارة المجاهل- أمريكا.
كانت جريمة مورتون الأساسية هي "ممارسة العادات الشريرة في إسرائيل". وإسرائيل هو الاسم الذي أطلقه "الحجاج" الإنجليز على مستعمراتهم الأمريكية. أما عملياً فهي بيع السلاح للهنود، أو استبداله بالفراء، وتفضيله العيش بينهم. وهذا يعني بتعبير الحاكم وليم برادفورد (أنه علّمهم استعمال السلاح). وكان رأي مورتون: لماذا يُحرّم على جنس من البشر ما يحل لجنس آخر؟ وهكذا فقد تحول الاعتراف بإنسانية الهنود وتزويدهم ببعض السلاح إلى جريمة أقضت مضاجع أولئك "الحجاج" الذين وضعوا الحجر الأساس لفكرة أمريكا.
في الفصل الأول - الوباء البديع - يضعنا العكش في مكان القاضي الذي عليه أن يحاكم الجلاد المقدس، بدون خوف أو وجل. وإلى هذا فإنه يحفر في ذاكرة التاريخ، ليرينا الإمبراطور عارياً تطارده أشباح (112) مليون آدم وحواء ينتمون إلى أكثر من أربعمائة شعب كانوا يملأون مجاهل العالم الجديد بضحكة الحياة، وتلوح لعينيه مشاهد (93) حرباً جرثومية شاملة، أتت على حياة الملايين من هذه الشعوب، تلك كانت حرب الإبادة الجماعية الأعظم والأطول في تاريخ الإنسانية، والتي حاول التاريخ المنتصر محو ذكراها من وجه الأرض. فالأرقام السابقة، وسواها مما يؤرق ذاكرة التاريخ، تعرّي أسطورة "الأرض العذراء" أو "الأرض الفارغة" التي نسجت من خيوطها كل أكاذيب التاريخ الأمريكي. ولم يكن "عامل الأمراض" بأقل لؤماً من لؤم البنادق التي استخدمها الغزاة في حربهم. لقد حاول التاريخ المنتصر الحديث عن حرب الإبادة بالجراثيم فقال عنها: "إنها مأساة غير مقصودة حدثت برغم الرغبة الجادة والأكيدة لدى الأوروبيين في الحفاظ على حياة الهنود، وأن السبب الأول لموت الهنود هو الأوبئة التي لم يكن لديهم مناعة ضدها. فالطبيعة، وليس الأذى المتعمد، هي السبب في هذا الدمار".
وعبارة "العامل الطبيعي" التي يتكئ عليها محتكرو الهولوكست لتبرير انتصار الموت، ليست في الواقع إلا الترجمة الحديثة لعبارة "العناية الإلهية" التي ترى "أن هذه الأوبئة نعمة أرسلها الله لتطهير الأرض التي أعطاها لشعبه".
وإلى هذا فقد أشار هوارد سيمبسون في مقدمة كتابه عن دور الأمراض في التاريخ الأمريكي قائلاً: إن المستعمرين الإنجليز لم يجتاحوا أمريكا بفضل عبقريتهم العسكرية، أو دوافعهم الدينية، أو طموحاتهم، أو وحشيتهم، بل بسبب حربهم الجرثومية التي لم يعرف لها تاريخ الإنسانية مثيلاً.
إن "ثورة الأمم" التي أعطت السلطة السياسية لأصحاب مناجم الذهب والمزارع الأسطورية، سرعان ما شرعت استعباد الهنود كسلاح غير مباشر لإبادتهم. في أوائل عام 1850 وفي أول جلسة تشريعية بكاليفورنيا، سنَّت الولاية قانون "حماية الهنود" الذي أضفى الشرعية على خطفهم واستعبادهم. واقتضت "حماية" الهنود إجبار أكثر من عشرة آلاف هندي على أعمال السخرة. ولأن معظم الذين هربوا بأرواحهم وفرارهم إلى الغابات والجبال الوعرة صاروا يعيشون في ما أصبح يسمى بأملاك الولايات المتحدة، فقد تحولوا بموجب قوانين الذين سرقوا بلادهم إلى "لصوص معتدين على أملاك الغير". ولم تمض سنة على صدور قانون "حماية الهنود" حتى ضاق حاكم الولاية بيتز بيرنت ذرعاً بحمايتهم، وعبر عن الحاجة إلى إبادة هذا "الجنس اللعين"، الذي يتحدث المؤلف عنه في الفصل الثاني من الكتاب.
أما الادعاء بأن إبادة (112) مليون إنسان كان مجرد "مأساة مشؤومة غير متعمدة" و"أضرار هامشية تواكب انتشار الحضارة" وأن هؤلاء الذين نسبوا هذه الإبادة الجماعية الأكبر والأطول في تاريخ الإنسانية إلى العناية الإلهية أو العامل الطبيعي هم أتقياء أبرياء، لم تكن لديهم المعرفة العلمية الكافية، فهو ادعاء يفتقر إلى البراءة، ويتنكر أول ما يتنكر للمعرفة العلمية. بهذا يمكن القول، إن العكش في بحثه يضعنا أمام أربعة قرون، لم تتوقف فيها الجريمة الطقسية يوماً عن التضحية بالآخر.
في الفصل الثالث- من المتوحش، يضعنا المؤلف أمام تاريخ الاجتياح الإنجليزي لأيرلندا، وأمامه لأمريكا، ويكشف عن براعة الإنجليز في دوزنة فظاعتهم ومذابحهم وفقاً لتصنيفاتهم العرقية. إنه يرينا بالدليل القاطع، صحة ما يذهب إليه كلاوس كنور في كتابه (نظريات الاستعمار الإنجليزية) من أن الإنجليز يعتبرون أكثر القوى الاستعمارية الأوروبية ممارسةً وتعمداً للإبادة، وأن هدفهم النهائي في العالم الجديد كما في أستراليا ونيوزلندا وكثير من المناطق التي يحتاجونها هو إفراغ الأرض من أهلها وتملكها ووضع اليد على ثرواتها.
في هذا الفصل يضعنا المؤلف أمام عشرات الشهادات، لأولئك الذين أبادوا الهنود، ولأقرانهم ممن اشتركوا في إبادة اليابانيين والفيتناميين وغيرهم. ومما يلفت الانتباه، أن الرجل الأبيض هو الذي خلق عادة السلخ- سلح فروة الرأس- في العالم الجديد، وإن أكثر جرائمها من صنع يديه. لقد كان على سبيل المثال، بإمكان أي مستوطن عجوز، أن يصطاد طفلين وثلاث نساء هنديات سنوياً، ويتنعم بما لم يتنعم به جلالة الملك جيمس. هذا ما جعل صيد الرؤوس الهندية أسرع طريقة لبناء الثروة، وسرعان ما وجدت "ثروة الأمم" المعادلة الاقتصادية المناسبة لاستثمار بوفانزا الأرواح تجارياً، لقد اكتشف شعب الله الإنجلو سكسوني نفطه في عروق الهنود.
إن صورة الجرائم الطقسية التي رافقت مرحلة "الزنابير" من مستعمرة "بليموث" إلى "ماي لاي"، ومن قرى البيكو إلى قرى أفغانستان، هي العقد الذي ينتظم كل تاريخ أمريكا، وهي تفسيرها وعلتها وسبب وجودها. إذ بدون هذه الجرائم الطقسية تفقد فكرة أمريكا معناها من وجود هذه الجرائم الطقسية، وعدمها من عدمها. إن تكرار هذه الصورة كما يقول العكش، في كل بقعة غزاها الزنابير ليست مصادفات عبثية. وإن تسمية كثير من الأسلحة والطلعات الجوية بأسماء هندية مثل: "توماهوك" و "كريزي هورس" و"رولينغ ثندر" و"هيكوري" ليست إلا تأكيداً على ميتافيزياء كراهية الهنود -الكنعانيين التي صاغت فكرة أمريكا ورافقت نار حروبها على مدى أربعة قرون.
في حرب الخليج الثانية على سبيل المثال، كانت الفرقة الجوية القتالية السابعة والسبعون قد وزعت كتاب أناشيد تصف فيه ما ستفعله في الخليج، وتنذر العراقيين بالإبادة فيما ينتهي أحد هذه الأناشيد بخاتمة تقول: "الله يخلق أما نحن فنحرق الجثث". والكتاب كما يصفه كريستوفر فرهيتشنس خليط من السادية والفحش، ومعظمه تشنيع وتشهير وشتائم بذيئة للعرب والمسلمين باعتبار أنهم "المراق منحطة" و"حشرات" و"جرذان" و"أفاع". وهي كما يشير العكش بذاءات مقتبسة من كتب "حياة محمد" لجورج بوش (الجد الأكبر 1796 - 1859) الذي يضم أشنع ما كتب عن العرب والمسلمين والنبي محمد في الولايات المتحدة.
قبل أن يبني جورج واشنطن عاصمته فوق ما أسماه بالسباخ، التي تبين لاحقاً أنها جزء من مدينة هندية عامرة، أمضى حياته في الاستيلاء على أراضي الهنود، والمضاربة بها وبناء ثروة هائلة وضعته على قمة هرم أغنياء العالم الجديد. لقد طور أعظم آباء أمريكا هذه التجربة الشخصية الناجحة، في مشروع قرار يسمح للدولة الفيدرالية الفتية، بأن تستولي على أراضي الهنود بسهولة أكبر وكلفة أقل. وفي عام 1728 وافق الكونغرس على مشروع واشنطن، الذي يتلخص بخردقة الأراضي الهندية بالمستوطنين واستدراجهم باستمرار إلى كمين الموت.
وفي ضوء التقليد الإنجليزي العريق الذي يقول ما لا يفعل ويعد بما لا يفي، اقترح واشنطن عقد سلسلة من الاتفاقيات مع الهنود، بهدف الاستيلاء على الأراضي الغنية، والمناطق الاستراتيجية اللازمة لأمن المستوطنين في مقابل وعود، بعدم المساس بما تبقى لهم من الأرض. وهكذا في فصل - كمائن الاتفاقيات، يبين العكش كيف تمت عملية اصطياد الهنود، وكيف تمت عملية الاستيلاء على قارتهم. ثم إنه في الفصل الخامس، يوضح الأساليب الاستعمارية لمحو التاريخ الهندي، من الوجود، وإحلال تاريخ آخر مكانه، هو التاريخ الإنجلو -سكسوني لقارة أمريكا.
في الفصل السادس - المعنى الإسرائيلي لأمريكا، نتذكر ما قاله جيمس بولدين - النائب في الكونغرس -عام 1834: قدر الهندي الذي يواجه الإنجلوسكسوني مثل قدر الكنعاني الذي يواجه الإسرائيلي: إنه الموت. ذلك أن أمريكا ليست إلا الفهم الإنجليزي التطبيقي لفكرة إسرائيل التاريخية، وإن كل تفصيل من تفاصيل تاريخ الاستعمار الإنجليزي لشمال أمريكا، حاول أن يجد جذوره في أدبيات تلك الإسرائيل، ويتقمص وقائعها وأبطالها وأبعادها الدينية والاجتماعية والسياسية، ويتبنى عقائدها في "الاختيار الإلهي" وعبادة الذات وحق تملك أرض وحياة الغير.
ولطالما كانت فكرة "الاختيار الإلهي" محركاً لولبياً في التاريخ الأمريكي والأساس الميتافيزيقي لمعظم الممارسات العنصرية في التاريخ القديم والحديث... وكان وضع الدستور الأمريكي قد شجع على تعميق المعنى الإسرائيلي لأمريكا، كما كتب رئيس جامعة هارفرد صموئيل لانغدون في رائعته (جمهورية الإسرائيليين: نبراس للولايات المتحدة).
والواقع -كما يقول العكش- إنّ هذه الرائعة شرح واستطراد وتعليق وقياسات تمثيلية بين شريعة موسى والدستور الأمريكي، وبين الإسرائيليين والأمة الأمريكية. وكانت عقيدة "القدر المتجلي" التي سادت منذ أربعينيات القرن التاسع عشر، قد أدت إلى بعض الجراحة التجميلية للمعنى الإسرائيلي لأمريكا. ومن أبرز مبررات هذه العقيدة ما يسمى بنظرية "الجغرافيا الحيوية" التي تزعم بأن المكان الجغرافي للدولة المتفوقة كائن حي ينمو باستمرار (ولا يموت طبعاً ). ومنذ أن أطلق جون أوسوليفان هذا الاصطلاح في مقالة له بعنوان (التملك الحق) تحوّل (القدر المتجلي) إلى عقيدة سياسية مفادها أن هذا العالم كله "مجاهل" وأن قدر أمريكا (الإنجلوسكسونية) الذي لا ينازعها فيه أحد، أن تتملك منه ما تشاء من أرض لأن ذلك حقها الطبيعي، ولأن إله الطبيعة والأمم هو الذي أورثها هذه الأرض، وجعلها مثلما جعل ألمانيا النازية بعدها كائناً حياً لا يتوقف عن النمو كما يقول (واتكن).
لقد كان دخول أمريكا الحربين العالميتين، أوسع معبر إلى قدرها المتجلي، لكن وراء البحار في هذه المرة، لدمغ ظهور البشرية بدمغة الإنجلوسكسون الحضارية، أو ما صار يسمى في الاصطلاح الأمريكي بنظام العالم الجديد. كانت تلك المشاركة، إشارة أمريكية، إلى ظهور مجاهل جديدة، ووحوش جدد، وإلى أن الولايات المتحدة إنما تريد الدفاع عن الحضارة ضدّ الهمجية، وإلى أنها تريد أن تبرهن بالقوة، صحة "طريقة الحياة الأمريكية". بتعبير آخر، فقد بدأت الحديث عن "دورها الخلاصي" لإنقاذ العالم.
هذا هو باراباس اليانكي الذي يختم منير العكش الحديث عنه في الفصل الأخير من الكتاب. صحيح أنّ القوة الأولى لما يسمى بالحضارة "المسيحية اليهودية" فصلت دين المسيح عن سياسة دولتها، لكنها أبداً لم تفصل أمريكا عن معناها الإسرائيلي المكابي الذي جعله باراباس اليانكي تعبيراً عن "ربّ الجنود" وروح الغابة.
أما ميزة العكش، وهو صاحب (أسئلة الشعر) ومجلة (جسور) والعديد من الدراسات الثقا- سياسية. أنه يكتب برومانسية الشعر، بحيث يمكن القول إنه يصوغ عبارات تتسامى بشعريتها، وتحوّل ما هو جاف إلى غصن طري أخضر يسر النظر. وإلى هذا على سبيل المثال نقرأ التالي، بمتعة ما تثيره اللغة من لذّة، لا تأتي على حساب ما هو جواني وعميق:
"في البدء، كان باراباس الصخرة التي بنت عليها مافيا كولومبوس كنيستها.
وكان باراباس أوّل يانكي يعيش على دم المسيح وعذاباته وإكليل شوكه.
لقد نزل وأعطى المسيح إكليل الشوك لكي يلبس هو تاج وندسور ويجثو أمامه ويستهزئ به ثم يمضي لاكتشاف الهند في سفينة العهد القديم المحملة بكل العتاد الأخلاقي اللازم لنشر الحضارة في المجاهل.
أبداً لم يعبد هذا اليانكي إلا "ربّ الجنود" ولم يفهم دين المسيح إلا من خلال "لكسيكون" عبادة إسرائيل وأخلاق "ربّ الجنود".
أبداً لم تكن عودة المسيح ومملكة الله أكثر من استعراض تلفزيوني وصفقة يتبرع بشيء من أرباحها لتعجيل نهاية الزمان وقتل ما يمكن قتله في مجاهل بابل وكنعان."
بعد قراءة كتاب (أمريكا والإبادات الجماعية) يمكن للمرء أن يتساءل:
هل بقي شيء من الأسرار?
إنّ جهد منير العكش، يضعنا أمام أمريكا من جديد، على الرغم من كثرة الكتب التي تناولت مسيرتها الطويلة، ولكن إذا كان لا بدّ من مضي قرنين لاكتشاف حقيقة (خطبة الهندي الأحمر) للزعيم الهندي (سياتل)، فإنه علينا لكي نكتشف حقيقة هذه الأمريكا، أن نظل نبحث ونبحث، لكن بروح القاضي الذي لا يطمع بدولارات الغواية، التي يبدو أن العكش يحملها في أعماقه بدون خوف، وهو يقف إلى جانب الضحية ضدّ جلادها الذي يحاول أن يفرض قدسيته.
كتاب: حق التضحية بالآخر - أمريكا والإبادات الجماعية
المؤلف: منير العكش
الناشر: رياض الريس للكتاب والنشر 2002.