"حالات السيد صابر فقعتوني" !!

كتاب في مقال

"حالات السيد صابر فقعتوني" !!

(تأليف الأستاذ شريف الراس)

عرض: عبد الكريم حمودي

يظن الكثير من الناس أن مهمة الأدب الساخر تتلخص في اسقاطات فنية على الواقع الذي يعيشه الإنسان بأسلوب ساخر تؤدي به إلى الضحك لفترة قصيرة من الزمن, لكن سرعان ما تتبدد ويعود الإنسان إلى حالتــه 

المأساوية التي يعيشها. ولكن الذي أريد قوله هنا إن الأدب الساخر له رسالة أعمق بكثير مما يخيل للبعض أنه للنكتة والفكاهة, وذلك عندما يجيء هذا الأدب ملتزماً بقضاياً الأمة وما تعانيه. فرسالته وحدها تركز في النفس قناعة التغيير, وذلك بمعالجته للقضايا الملحة بل والعالمية الضاغطة وما يعانيه الإنسان من ظلم.

وعن تأثير هذا النوع من الأدب يقول الأستاذ شريف الراس مؤلف هذا الكتاب:

"لو أن ظروف النشر والتعبير كانت طبيعية في وطننا العربي لنبغ عدد كبير من الكتاب الساخرين, لكن الأنظمة لا تحتمل المزاح: يدها والضرب, لذلك ترى الساخرين يكتبون لأنفسهم لا للناس.. شأن من يغني لنفسه في الحمام".

يعق الكتاب في ثمانين صفحة من القطع المتوسط ويتضمن ثمانية عشر مشهداً فنياً ساخراً تعالج  في مجملها القضية الأساسية والملحة على الإنسان العربي التي تلاحقه في كل حين, ألا وهي قضية الحرية.

يبدأ الأستاذ شريف الراس أول مشاهده في الكتاب بذكر حالة السيد "صابر فقعتوني" (وهو اسم البطل الذي اختاره ليكون محور هذا العمل الفني) الذي يعمل حلاقاً, فقد أفرج عنه بعد سنة من الاعتقال الخطأ, بعد أن اعتقل مع الصحفيين, لكن فرحته بنعمة الحرية لم تدم طويلاً فسرعان ما رن جرس الهاتف في بيته وكان على الهاتف ضابط طلب من السيد صابر أن يراجع مكتب الأمن في صباح اليوم التالي, إلا أن الضابط لم يذكر اسم المكتب ولا عنوانه..

وهكذا تبدأ رحلة السيد "صابر" بين مراكز الأمن المختلفة بادئاً رحلته من مكتب الأمن الداخلي, إلى مكتب الأمن الخارجي. مروراً بمكتب الأمن البحري, وانتهاء بمكتب الأمن الغذائي وهم يؤكدون له في كل مكتب من هذه المكاتب أنهم لا يطلبون أحداً بهذا الأسلوب. وأنهم لو احتاجوه لداهموا بيته, وانهوا موضوعه على الفور, وتتخلل هذه المشاهد لقطات ساخرة من بقاع عدة من وطننا الكبير تقف على الحالة المأساوية التي وصل إليها الإنسان الذي لا يهزه حدث, ولا يؤثر فيه خطب مهما عظم. فالمهاجرون في وطننا كثر نتيجة لفقدان الحرية, مما دفع بالكثير من المثقفين على وجه الخصوص للبحث عنها وراء البحار.

وعندما تصيب الوطنية أحدهم ويفكر بالعودة من أجل خدمة أمته, لا يطول به المقام إذ سرعان ما تتبدد آماله وتضيع أحلامه منذ لحظة وصوله إلى الحدود, كما حصل لصاحبنا العائد من أوروبا والمتزوج من أجنبية.  فأساليب الابتزاز والنهب والحواجز الكثيرة التي اعترضته دفعت به إلى الضجر فقفل راجعاً من حيث آتى.

لكن ربما تكون الصورة أشد تأثيراً في الضمير الإنساني عندما يتعلق الأمر بالأطفال والطفولة كهذه الصورة المؤثرة التي يعرضها الكاتب في أحد مشاهده الحية: "طفلان حافيان وثيابهما وسخه ومهللة, إنهما في غاية الفقر والجوع وقد استأجرتهما سيدة كبيرة (...) مشاركة في مؤتمر الطفولة ليحملا لها لافتة كتب عليها (المؤتمر الحادي والعشرون للطفولة السعيدة). بل أن الأمر يبدو أكثر صعوبة, والصورة أشد قتامة عندما يبلغ الأمر بالظالمين المتاجرة بدماء الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن الأمة وكرامتها كما في هذه اللقطة (طفلة صغيرة.. والدها شهيد.. تسكن المقابر مع جدتها.. لماذا?! يسألها صحفي ذكي تبدو عليه النباهة:

هل تلعبين بين القبور? فتجيبه وهل هنالك ملاعب?

ويصل بنا الكاتب إلى هذه الصورة كشاهد على الديمقراطية بمفهوم الحكام من خلال السيد صابر الذي ما يزال يتنقل بين مكاتب الأمن يسأل عن ذاك الضابط الذي هاتفه.. وإليكم الصورة:

الزعيم بعد أن نادى على وزرائه قال بغضب:

- لماذا يحقد عليّ الشعب هذا الحقد الرهيب?

الجميع يظلون صامتين..

- قولوا.. وإلا.. فأنتم تعرفون المصير..

مولاي: الشعب يريد الحرية..

قال الزعيم وقد شعر بالبهجة:

بسيطة.. لا مانع عندي.. إنني قررت أن امنح شعبي الحرية, اكتبوها في كل مكان, في الشوارع وعلى الجدران.

ويبلغ اليأس ذروته عندما يقابل وزير السجون أستاذه شكري (مدرس الجغرافيا) وهو معتقل, فيسلم عليه ويرحب به ثم يعتذر إليه بلطف ويقول:

- اطلب يا أستاذ شكري ما تشاء, لكن لا تحرجني بطلب الإفراج عنك, فأنا كما تعلم وزير للسجون ولست وزيراً للافراجات.

أجل لقد قدر الأستاذ شكري الأمر وقال وهو يشير بيده إلى خريطة الوطن العربي الكبير خارج الزنزانة: أرأيت إلى هذا الوطن ما أطوله? وما أعرضه? إنه كما تتعلم أكبر من قارة أوروبا كلها.. كل ما أريده وأرجوه هو أن تعطوني من أرض هذا الوطن الواسع جداً ستين سنتمتراً فقط.

تساءل وزير السجون: ولماذا ستون سنتمتراً فقط يا أستاذ شكري?

أجابه الأستاذ شكري: لأن هذا عرض كتفي.. وكل مناي أن أستطيع النوم مستلقياً على ظهري?!!

ولكن يا أستاذ شكري أنت ترى فالمكان مزدحم.!!

وفي الختام انتهى الأمر بالسيد صابر فقعتوني إلى السجن مرة أخرى ولكن ليس بتهمة الصحافة هذه المرة بل لقد قبض عليه الأمن اللغوي بتهمة الخيانة لأنه كتب على دكانه كلمة (كوافير) بدل كلمة حلاق وهذه اللفظة أجنبية.

ربما كان هذا العرض مجديّاً في التعرف إلى الكاتب وأسلوبه الساخر, ولكنه لا يغني أبداً عن قراءة هذا الكتاب الرائع الذي يسهم في إطلاق شراره التفكير بضرورة القيام بفعل التغيير..