الحكيم ...
روفيسور فدوى عبد الرحمن علي طه عرض لكتاب دكتور أحمد الصافي: الحكيم، من أجل أطباء أعمق فهماً لمهنتهم ولثقافات مجتمعاتهم وأكثر وعياً ببيئتهم وأحوال أهلهم. بقلم: بروفيسور فدوى عبد الرحمن علي طه صدر كتاب "الحكيم" عام 2013 عن شركة مطابع السودان للعملة المحدودة، في 594 صفحة. ويأخذك الكتاب الذي استغرق إعداده أكثر من أربعة عقود من الزمان في سياحة تاريخية شيقة ومثيرة ، فقد توافرت للمؤلف خصال الصبر والأناة، صفات يتوجب توافرها في الباحث الأكاديمي المدقق. قدم للكتاب بروفيسور عبد الله علي إبراهيم بتقديم عنونه "المرض علاجاً وثقافة". يشمل الكتاب التصدير، ومقدمة وتسعة فصول: 1- صحة السودان عبر القرون 2- العقد بين الطبيب والمريض والمجتمع 3- مفاهيم الصحة والمرض 4- أسباب المرض والإصابة 5- وسائل تشخيص المرض والإصابة 6- المعالجون وطرق العلاج والوقاية 7- العلاجات والممارسات الشعبية 8- حصاد السنين 9- الأفعال الطبية الضارة والطبابة الرشيدة، وجاء في خلاصة الكتاب سرداً لما يحتويه. وذيل الكتاب بملاحق حوت أسماء الشهور السودانية، العامية الطبية وما يقابلها بالإنجليزية، معجم أهم النباتات المستعملة في الطب الشعبي، بعض الأدوية الحديثة ذات الأصول النباتية، بعض الأطباء الأجانب الذين خدموا في السودان، أهم القوانين الصحية السارية في السودان.
بدأ المؤلف في تصدير الكتاب بحديث شيق ممتع عن نفسه، رابطاً ذلك الحديث بما جرب فيه من عادات وتقاليد وطب شعبي خلال طفولته وشبابه. وتحدث في المقدمة عن أنواع ونماذج الطب، نماذج الطب البيولوجي والطب الشمولي والطب الشعبي. وأفرد الفصل الأول لصحة السودان عبر القرون اعتمد فيه على ما ورد في كتب الرحالة والجغرافيين والمستكشفين الأوائل، وفي كتب السيرة وكتابات بعض علماء الدين والمؤرخين وأطباء ومنسوبي جيوش الاحتلال التركي المصري والإنجليزي المصري وعلماء الأجناس وما جاء في كتب ومخطوطات الطب الشعبي المحلية. وقدم نماذج لكتابات الرحالة والعلماء تحديداً ما ذكروه عن الطب والصحة، مثل جون لويس بوركهارت الذي وصف صحة السودان وأمراضه، وجورج هوسكنز عالم الآثار الإنجليزي الذي زار السودان عام 1833م. وأورد المؤلف مقتطفات من الكتب التاريخية مثل كتاب نعوم شقير "جغرافية وتاريخ السودان" الذي يصفه الكاتب بأنه مصدر لا غنى عنه للباحثين في شئون صحة السودان في القرن التاسع عشر. وبهذا يورد أهمية أخرى لهذا الكتاب أغفلتُ الإشارة إليها في تعدادي لمواطن أهمية هذا الكتاب في تقديمي للطبعة التي صدرت عن دار عزة للنشر عام 2006.
أفُرد فصل للعقد بين الطبيب والمريض والمجتمع تحدث فيه المؤلف ضمن ما تحدث عنه عن أخلاقيات المهنة، وأن الأخلاقيات الطبية علم عملي وفرع من فروع فلسفة الأخلاق وفرع من فروع علم الطب وجزء أصيل من الممارسة الطبية الجيدة. وأن مهنة الطب هي المهنة الوحيدة التي كان لها منذ فجر التاريخ وبداية حضارة الإنسان آداب للممارسة تبلورت في إطار قسم يلتزم المعالجون بأدائه قبل أن يسمح لهم بالاقتراب من المرضى هو قسم أبقراط. وأمن فيه على ضرورة تواضع الطبيب والبعد عن حب الظهور.
تناول الفصل الثالث مفاهيم الصحة والمرض وتعرض للطب في ذهن العامة وفي اللغة ومفهوم المرض في الذهن الشعبي والطقوس، والرموز التي على الطبيب أن يكون ملماً بها وكيف أن الطقوس تحتل حيزاً هاماً في نسيج أي مجتمع.
بيِّن الفصل الرابع أسباب المرض والإصابة وارتباط ذلك بعوامل البيئة الطبيعة وظواهرها وعادات الناس. وتحدث عن مغزى كسوف الشمس عند الناس، وعن قوى ما بعد الطبيعة والجن والشياطين والزار وأصله والسحر والعين الحارة.
خصص الفصل الخامس لوسائل تشخيص المرض والإصابة وأوضح الفرق بين تشخيص الطبيب الحديث للمرض الذي يعتمد فيه على طرق مبنية ومستندة على البراهين العلمية، وعند عامة الناس الذين استندوا في تشخيص المرض في أغلب الأحيان على استجداء قوى الغيب وطلب عونها. ولم يترك المؤلف في هذا الفصل شيئاً لم يذكره مثلا:
خت الودع وخط الرمل والرؤى الصادقة والمكاشفة والاستخارة وتفسير الأحلام والتنيم.
أشار الفصل السادس: المعالجون وطرق العلاج والوقاية إلى أن قائمة المعالجين الذين يعنون بصحة الناس طويلة وأن لكل جماعة عرقية في السودان طبيبها أو حكيمها، وأن السودانيين عرفوا عدداً كبيراً من المعالجين الشعبيين الماهرين واستنجدوا بهم مثل الفقرا والفكيا والشيوخ والأوليا. وأعطى أمثلة لأنواع العلاج مثل الرقية والبخرة والمحاية.
ولم يفت على المؤلف في هذا الفصل أن يذكر دور ربة البيت كمعاونة صحية واجتماعية ترعى أغلب شئون الأسرة بكفاءة واقتدار، وكيف أن أدوار المرأة كمعاون اجتماعي في الأسرة عديدة.
تحدث الفصل السابع: العلاجات والممارسات الشعبية عن الجراحة الشعبية ومخاطرها وختان الإناث بأنواعه والحجامة والوشم والفصد والأطراف الصناعية الشعبية وعن علي ود قيامة الذي كان طبيباً بلدياً بشرياً وبيطرياً ومنجماً، وعلاج الجروح والتخدير والحمل والولادة والأدوية الشعبية والصيدلية الشعبية التي حوت وصفات مختلفة استخدمها الناس في علاج الأمراض. والطعام والاعتقادات الخاطئة التي أثرت على صحة الناس خصوصاً الأطفال. يتحدث المؤلف في الفصل الثامن الذي عنونه، حصاد السنين، عن مسيرة السودانيين في رعاية صحتهم خلال النصف الثاني من القرن العشرين ويرسم صورة قاتمة مبيناً فشل السودان منذ الاستقلال في إنجاز خطة تنمية شاملة ومستدامة تحقق النهضة والتقدم وتلبي حاجات الإنسان الأساسية والمادية وغير المادية، وتواصل الارتقاء بصحة البلاد. ويبين الفصل أن ازدياد عدد الأطباء والكوادر الطبية المساعدة لم يفد كثيراً لأن معدلات هجرتهم خارج البلاد كانت كبيرة ومن تبقى في الداخل هاجر للقطاع الخاص.
وانتقد سياسة الإنفاق على الصحة من قبل الدولة والتي تضع الصحة في ذيل أولوياتها وأمن على ضرورة رفعها إلى أعلى القائمة إن كان الإنسان هو ما تستثمر فيه.
تحدث الفصل الثامن أيضاً عن شح الأدبيات الطبية التي يمكن أن يرجع إليها الباحث في تاريخ الطب وتراث السودان، وأن العلماء السودانيين عموماً والأطباء خصوصاً عازفون عن توثيق أعمالهم ومحجمون عن توثيق تاريخ الطب في السودان، مما نتج عن ذلك من قلة في الدراسات الطبية التاريخية والاجتماعية. لاحظ أيضاً أن التدريس في أغلب كليات الطب ما زال منبتاً لا يربط ممارسة الطب بتاريخ السودان الممتد عبر القرون ولا بموروثاته الطبية. وأن واحداً من أسباب هذا القصور هو قلة المادة الموثقة التي تعين المدرس والتلميذ. وينبه المؤلف بذلك إلى ضعف الحس الوثائقي السائد عندنا في السودان، وإهمال أوعية حفظ المعلومات الذي ضرب له المؤلف مثلاً بتآكل مكتبة المعمل القومي الصحي ومكتبة معامل استاك وتبعثر كتبها ومجلاتها التي بدأ جمعها في 1902 وهدم المتحف التصويري في 1963 – 1964 الذي افتتح عام 1944. وأبان المؤلف ضرورة حفظ سجلات المهنة وتوثيق تراثها.
يتناول الفصل التاسع الأفعال الطبية الضارة والطبابة الرشيدة شرح المؤلف فيه أنواع الأفعال الطبية الضارة وما هو الفعل الطبي الضار واحتمال حدوث الفعل الطبي الضار، وأن الأفعال الطبية الضارة من علامات وأعراض مرض النظام الصحي، ومؤشر لعيوب وثغرات في النظام الصحي بأكمله، وأن إصلاح النظام الصحي يحتاج ضمن ما ذكره المؤلف لجهد متكامل مترابط ولقيادات مقنعة ومؤهلة في كل مستوى ولوعي وثقافة جديدة. أن السودان في تقدير المؤلف لن يستطيع أن يجعل حدوث الفعل الطبي الضار أقرب للمستحيل إلا بتبني واتباع نهج الطبابة الرشيدة التي شرح المؤلف معناها وبرنامجها الذي يتكون من ثلاثة محاور.
يؤكد الكتاب ما توصل إليه العالم عن ترابط العلوم الإنسانية مع العلوم التطبيقية فهو مقدم لكل مقدمي الخدمات الطبية ولطلاب العلوم الإنسانية لا سيما والاجتماع والفولكلور ، ويشير إلى ما نبه إليه عالِمنا التيجاني الماحي لأهمية دراسة تاريخ الطب، وتأكيده أن للعلوم الإنسانية دور مهم في دراسة الصحة والمرض. فالمعارف التي تقدمها العلوم الإنسانية تربط الطبيب بمريضه وتربط ممارسته للطب بتاريخ السودان الاجتماعي الممتد عبر القرون وبموروثاته الطبية والصحية، وتربط الطب البيولوجي عامة وعلومه بجذورها وتياراتها التاريخية.
المؤلف لا يريد للتدريس في كليات الطب أن يستمر منبتاً لا يربط ممارسة الطب بتاريخ السودان الممتد عبر القرون ولا بموروثاته الطبية والصحية، ولا يربط علومه بجذورها وتياراتها التاريخية والاجتماعية.
مساهمة أحمد لا تقتصر فقط على تأليف هذا الكتاب الذي أتى من تجربة، فقد بادر وأسهم في دراسات الطب الشعبي فقام معهد أبحاث الطب الشعبي بالمجلس القومي للبحوث في العام 1982 بمبادرة منه، وذلك بغرض دراسة التراث الطبي بطريقة منهجية منظمة. وتقديرا وتثميناً لهذا الجهد وافقت منظمة الصحة العالمية على تخصيصه مركزا متعاونا معها في العام 1984 تحت اسم (مركز منظمة الصحة العالمية المتعاون في أبحاث الطب الشعبي). كما أسس في العام 2004 (المؤسسة السودانية للتراث الطبي) كمنظمة أهلية تعنى بأبحاث نظم الطب وتاريخ الطب والمحافظة على التراث الصحي ورصد تطور الخدمات الطبية في السودان. وينبع اهتمامه من حقيقة أكدها في مؤلفه هي أن الطب الشعبي واسع الانتشار في الدول النامية ومنها السودان بسبب ارتفاع فاتورة العلاج في المستشفيات، ولابد من تنظيم عمل الممارسون الشعبيون. ويتواصل هم واهتمامه أحمد بطرحه في 2005 مشروعاً توثيقياً أسماه ثلاثية الصحة في السودان يشتمل على ثلاثة أجزاء: تاريخ الطب وسير الرواد في السودان، موسوعة الأطباء السودانيين، ببلوغرافيا الدراسات الطبية السودانية في القرن العشرين.
ومما يلفت النظر في هذا الكتاب غزارة المادة التي اعتمد عليها الكتاب، فقد زار أحمد خلال العقود الأربعة الماضية التي استغرقها تأليف الكتاب أغلب مراكز العلاج الشعبي في السودان، وراجع كل ما يمكن مراجعته من الأدبيات المتاحة مسموعة أو مكتوبة أو مرئية. ورُصدتْ 35 صفحة للمصادر والمراجع التي اعتمد عليها الكتاب. ولم يترك المؤلف معلومة دون توثيقها عند ذكرها.
تسمية الكتاب "الحكيم" اختيرت بعناية فائقة، فالكلمة التي يذكر المؤلف أنها في أغلب الظن جاءت إلينا من المصريين في عهد الحكم التركي المصري جاذبة جدا. فالمصطلح لم يطلق فقط على الطبيب الخريج بل على معظم من يداوي. يأخذني المؤلف بهذا الاسم بعيداً إلى ذكريات الطفولة و "حسن الحكيم" كما كان يعرف المساعد الطبي "حسن" الذي جاء لمداواة الناس من أقصى الشمال في ناوا إلى أربجي في الجزيرة.
وأناشيد لعب الطفولة "أنا حكيم بداوي الناس من الحمى ووجع الراس". ويضرب الكتاب على وتر حساس هو العافية "ومن حلف بالعافية ما خلى شي)، ولأهميتها فقد حاول الناس كل ما هو ممكن للطبابة وهو ما يفصل فيه الكتاب.
كتاب "الحكيم" الذي يصفه المؤلف في تواضع جم بأنه مقدمة في التاريخ الاجتماعي للطب والصحة في السودان، موسوعي وشمولي التناول، ويأتي عصارة لجهد متعاظم وشائك. هنيئا للدكتور أحمد الصافي بهذا الإنجاز الضخم الفخم الذي رفد المكتبة السودانية بسفر مرجعي أكاديمي رصين كانت تفتقده وتتعطش إليه.
بلاشك فان الدكتور احمد الصافى سلسيل ذاك المجد التليد من اهلنا الذين لهم ارث واسع فى ظل المعرفة الاكاديمية والثقافية فهو احد ابناء الكلاكلة صنقعت الذين نفخر بهم دمت بخير اخي دكتور احمد الصافي ..
وسوم: العدد 643