مسلسل الدالى ..  وتشويه الرجال

مسلسل الدالى ..  وتشويه الرجال!

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

يحكى عثمان أحمد عثمان ، فى مذكراته التى نشرها المكتب المصرى الحديث عام 1981م تحت عنوان : " صفحات من تجربتى " ، هذه الحكاية :

" اتصل بى ذات يوم فى التليفون الأستاذ أحمد رجب – الصحفى المعروف ، يطلب منى تعيين رجل يعرفه .. وأخفى عنى أن هذا الرجل من ( أصحاب السوابق ) ، وإنه كان متخصصا فى ارتكاب جرائم النشل ، وله تسع وثلاثون سابقة .

وأصدرت قرار تعيينه .. وعندما التقيت بالرجل حكى لى عن كل جوانب حياته .. بما لها وما عليها .. وأحسنت معاملته عندما عرفت ظروفه .. وتاب إلى الله .. وأدى فريضة الحج .. ولم يصبح موظفاً عادياً فى الشركة ، ولكن أصبح يعمل فى قسم خزائن " المقاولون العرب " يمسك بيده عشرات الآلاف من الجنيهات ..

وكان أن اتصل بى أحمد رجب بعد فترة ، لكى يطمئن على الرجل الذى أخفى ظروفه ، وينبهنى إلى ماله من سوابق .. فوجئ بأننى عرفت كل تفاصيل حياته ، وأنه كان يرتكب جرائم النشل .. ولكن المفاجأة الكبرى كانت لأحمد رجب عندما عرف أن هذا النشال أصبح أحد الأمناء على خزائن "  المقاولون العرب " ..

ويُضيف عثمان معلقاً على هذه الحكاية : " هذا هو الإنسان المصرى الأصيل .. رغم انحرافه لأسباب اجتماعية خارجة عن إرادته ، عندما وجد من يتفهم ظروفه ، ويفتح له قلبه ، كشف عن طيب معدنه " ص 555

هذه واحدة من الحكايات الكثيرة التى تضمنها كتاب عثمان أحمد عثمان ، أشهر مقاول فى العالم العربى ، على امتداد النصف الثانى من القرن العشرين . ومن خلال هذه الحكاية وبقية الحكايات يكشف الرجل عن أسلوبه فى مواجهة ما يعترضه من ظواهر تبدو معوقة لحركته ، مصادمة لنشاطه ، بعيدة عن الاستقامة والسلوك ، سواء كانت الظاهرة فردية أو رسمية .

وقد أثار المسلسل الذى تعرضه القنوات الفضائية باسم " الدالى " عاصفة من الغبار والتشويه حول الرجل الذى لا أعرفه ، وخدم بلاده أكثر من أربعين سنة خدمات جليلة ، فى الحياة المدنية أو المجال العسكرى ، وكانت قصة حياته نموذجاً للعصامية والكفاح الشريف والتربية الإسلامية المضيئة .

الفكرة الأساسية ، صعود الرجل من صاحب ملاليم إلى صاحب ملايين ، وبدلاً من تقديمها فى صورتها الحقيقية التى تكشف كيف تربى الرجل وتعلم ونجح وصار نائباً لرئيس الوزراء فى مصر ، ونقيباً للمهندسين ، وأشهر رئيس للنادى الإسماعيلى ، فضلاً عن كونه أشهر مقاول ، وصاحب أو مؤسس أكبر شركة مقاولات فى العالم العربى اسمها " المقاولون العرب " تضم خمسة وخمسين ألف عامل يملكون الخبرة والإرادة والإيمان ، فضلا عن عشرات الشركات الأخرى صناعية وزراعية وتجارية .. قدموا لنا رجلاً آخر أقرب إلى زعماء العصابات ، يعتمد على البلطجة والمكر والخداع والرشوة .

وبدلاً من عرض مواقفه السياسية الحقيقية فى العهدين الناصرى والساداتى ، قلبوا المواقف وجعلوها بالمعكوس ، وأضافوا إليها ماليس منها ، لدرجة أننا شاهدنا مسلسلاً بوليسياً ، بدلاً من مسلسل اجتماعى تربوى ، يُقدم نموذجاً واقعيا ، يقتدى به أبناؤنا ، ويُقلّدونه فى شحذ العزيمة والهمة والإرادة ومواجهة الصعاب والعقبات .

ومع أن تجار المسلسل نفوا أن يكون الدالى هو " عثمان أحمد عثمان " ، فكلامهم غير صحيح ، ولا أساس له فى حقيقة الأمر ، فلا يوجد مقاول ذهب مع الرئيس السادات إلى القدس غير عثمان ، ولا يوجد مقاول قاد عملية بناء السد العالى ودشم الصواريخ ، وحظائر الطيران ، ومدن القناة المدمرة ، ومدن القناة الجديدة : فيصل وزايد والصباح ، وقبل ذلك فى أوائل الخمسينيات " كفر عبده " ، فضلاً عن المدارس والمصانع والشركات والمساجد والمستشفيات والكبارى العلوية .. غير عثمان ..

وكان الأولى بتجار المسلسل أن يعرضوا التجربة الحقيقية من خلال كتاب عثمان الذى شوّهوه وفبركوا على أساسه عملاً أقرب على المسلسلات الأمريكانى منه إلى الواقع المصرى الطيب .

إن قصة الرجل كما رواها تحمل كثيراً من المواقف الدرامية الإنسانية التى تشدّ الناس أكثر من تلك المواقف المفتعلة التى تقوم على الحشو والتقليد ..

إن الرجل يحكى ببساطة قصة صبى يتيم عمل ( صبى ميكانيكى ) ، وحرّر شهادة " فقر " ليُعفى من مصروفات كلية الهندسة ، وصنع دراجة بستين قرشاً لينتقل بها طوال دراسته الجامعية من باب الخلق إلى الجيزة ، وتلقى تربيته من أم بسيطة متدينة رفضت الزواج بعد وفاة أبيه لتقوم على شأنه وشأن إخوته ، وعرف دينه على يد الإمام حسن البنا ، الذى درّس له فى مدرسة الإسماعيلية الابتدائية ، وزوج شقيقته العالم الجليل الشيخ على حسب الله .. ثم شق طريقه بعد التخرج من خلال عمل المقاولات ، معتمداً على الله ، ثم الصدق والأمانة والجدية واليقظة مع الفجر ، وسبق العمال إلى مواقع العمل ، والمشاركة بيده والاستماع إلى آراء من يعملون معه ، ولو كانوا عمالاً بسطاء ، وكانت ذراعه اليمنى فى مسيرته شخصية مسيحية هى " رياض أسعد " الذى كان نعم الصديق الوفى ، وتحمّل معه متاعب العمل وصدماته بصبر وقناعة .. داخل البلاد وخارجها ..

ويبدو أن تجار المسلسل ، وهم يسطون  على كتاب عثمان وحياته ، ويشوهونهما ، كانوا يطمحون إلى غايتين : الأولى تحقيق المزيد من المكاسب المادية على حساب الرجل الذى لا يستطيع دفاعاً عن نفسه بعد رحيله ، والأخرى تجريده من علاقته بالإسلام ، فلم نره يصلى مرة واحدة ولا يقرأ القرآن الكريم ، ولا يسير وفقاً لمنهج القرآن فى تعاملاته وأعماله ، ولا يحتضن مئات من الإخوان المسلمين الذين حملوا معه عبء البناء والتعمير انطلاقاً من الضمير والأمانة والعفة والشرف .

ليت الحكومة تقدم قصة حياة عثمان بعد اختزالها لطلاب المدارس ، وليت منتجين أصحاب رسالة حقيقية يقدمون مسلسلاً آخر يقوم على أساس هذه القصة ، ليرى أبناؤنا نموذجاً يُحفزهم على العمل والتمسك بالدين والقيم والأخلاق والتسامح .. وغفر الله لتجار مسلسل " الدالى " !