صُنّاع الحياة

"صُنّاع الحياة" إذ يبيعون السُبَح

أشرف إحسان فقيه

 موسم الحج هذه السنة بالذات كان مختلفاً. التفرّد هنا لا تحمل مسؤوليته مؤسسات الطوافة إذ تُحمّل أوزار البنايات المنهارة والأمتعة المتساقطة عن المتعجلين في الرمي. الجديد في حج 1426 مثلته لنا نقلة في بث وقائع الحج من داخل المخيمات وعلى الهواء مباشرة عبر قناة منسوبة لمجموعة (صُنّاع الحياة).
منذ عرفنا الحج ونحن نردد الآية "ليشهدوا منافع لهم" مبررين لذواتنا بها كل التكالب على عروض الدنيا التي ما فتئ الموسم يسوقها لنا سوقاً. وهي الحالة ذاتها التي صاغتها القريحة الشعبية في مَثَل يُجل "الحج وبيع السُبح". لكن (عمرو خالد).. ذلك المحاسب المصري الذي تفرد قبل سنوات كأحد أبرز وجوه (الدعوة-كليب) كما سماها المتصادمون مع موجة الدعاة الجدد.. نجح (عمرو خالد) هذه السنة وخلال أيام موسم حج واحد في أن يقدم لنا أجواء المناسك ونحن قابعون في بيوتنا على نحو لم تفعله قناة أرضية أو فضائية في تاريخ تلفزيون الحج.. ليكسر الصورة النمطية التي طالما اختزلت نقل الحدث في مشاهد الحجيج وهم ينفرون من مشعر إلى آخر.. وفي أصوات المذيعين المتهدجة إذ يكررون إرسال التحايا لذويهم على امتداد دول الجامعة العربية.
فوق ذلك.. فقد قدم لنا (عمرو خالد) هو وفريق الشباب والشابات المتحمسون معه صورة جديدة لمفهوم "بيع السبح" والاشتغال بالشأن الدنيوي في الحج على نحو كان -للمفارقة- غير بعيد بتاتاً عن روح الركن الخامس ذاتها التي طالما تغنت مواضيع التعبير والخطب بها وبمعاني العظمة المخبوءة بين مناسكها.. بدون أن يكون لاولئك الذين لم يقفوا على عين المشهد.. فضلاً عن كثير ممن فعلوا.. سبيل لاستشعارها فعلياً.
الذي فعله (عمرو خالد) وفريق (صناع الحياة) كان إعادة توجيه النمط الإعلامي السائد بكافة أدبياته ومصطلحاته التي نصب عليها نحن حراس الفضيلة اللعنات.. وحسب. (صناع الحياة) خطوا خطوة إضافية وسخّروا (تلفزيون الواقع) و (التصويت عبر الرسائل القصيرة) وكل ترسانة المفاهيم التي انحصرت في لاوعينا بمسابقات الرقص والغناء.. استغل شباب (عمرو خالد) هذه الأفكار كلها ليرتقوا بها ويقدموا شيئاً نافعاً للأمة.. وجديداً في المقام الأول.
ما حصل أن هؤلاء الشباب والفتيات نجحوا خلال ثلاثة أسابيع فقط، بالتعاون مع قناة (إقرأ) في تجهيز استوديوهات متكاملة نقلت للمشاهدين على مدى أيام الحج وعلى مدار 24 ساعة كامل أحداث ذلك المخيم المميز على نحو أدخل المتفرجين.. المتعطشين لثمة نمط من البث التلفازي كما يثبت واقع السوق.. أدخلهم في أجواء روحانية جديدة إذ يشاركون الحجيج في دعائهم وابتهالاتهم وفي برنامجهم اليومي بكل تفاصيله البسيطة على نحو اكتملت به معايشتهم لوقائع الحج التي كانت مقتصرة حتى ذلك الحين على ما تجود به كاميرا (القناة الأولى) العتيدة إذ تجول ناقلة اللقطات المتفرقة من المشاعر.
ذلك كان جزء "الحج" في عرض (صناع الحياة). "بيع السبح" بالمقابل مثلته ديناميكية الفريق الذي استغل فرصة الموسم بذكاء لافت ليروج لبرنامجه النهضوي، وليعرف العالم بجهود أفراده، وليثبت في وعي المتلقي صورة بصرية يقترن فيها العمل التطوعي التنموي برداء الإحرام وبالتلبية.
في ليالي أيام التشريق، كانت خيمة (صناع الحياة) معرضاً للترويج للمشاريع الصغيرة التي نهضت بها مجموعة من الشباب موزعون بين قارات العالم قدّم لهم البرنامج فرصة ليقفوا -بإحراماتهم- وليعرضوا إنجازاتهم أمام فئة مختارة من ذوي الخبرة ومن رجال الأعمال الذين تقدم من راقت له أي من تلك الأفكار، مدفوعين بنتائج تصويت على الهواء يذهب ريعها للعمل الخيري، تقدم بدعمها مادياً لتبصر النور على أرض الواقع. هكذا كانت أيام الحج بالذات فرصتنا للتعرف على أفكار لتطوير برنامج للبحث في المحتوى العربي للإنترنت. أو مشروع إنشاء مدرسة لتسويق الورد والنعناع بالمدينة المنورة. أو مشروع برمجيات وعتاد متكامل لدعم المعلمين دعمته وزارة التربية والتعليم، أو مشروع حفر الآبار وتزويد القرى الصغيرة بريف مصر بالماء. وسواها من الأفكار الشابة النيرة التي تلخص أحلام الشباب ورغبته في أن يفيد ويستفيد.. والتي وفّر لها (صناع الحياة) وسطاً خصباً لتنشأ وقدّمها للعالم لتنمو مدفوعة بالحماس الداخلي لأصحابها ولرعاتها.
(
صناع الحياة) التي مثلت رد (عمرو خالد) على كل من اتهمه بتضليل وتنويم الشباب عبر حكايا مزخرفة و (حواديت).. انكشف الغطاء عنها في موسم الحج بالذات لتبدو كتلة ديناميكية من الأفكار والخطط والمشاريع العملية ذاتية الدفع الهدف من ورائها ذكره الرجل نفسه في دعائه الذي يختتم به جلساته على الهواء مباشرة حين ابتهل إلى الله تعالى بأن "يصلح بنا الأرض". والصورة التي يقدمها والشباب العاملون معه وجاءت بالذات خلال الأيام الحرم كان لها أثر عميق في تقديم صورة مغايرة لشعيرة أساسية في ديننا كشفت لنا فرصاً لا نهائية في لقاء الحج كان من المحرج أن نتنبه إلى أننا لم نستغلها سابقاً.. لكنها غلّفت لنا كل النصوص المحفوظة التي صُبت في آذاننا صباً من فوق علياء المنابر على مر السنين، وقدمتها لنا في صورة منجز قابل للتكرار وللتطبيق مرة أخرى. هي تحركت بتقاليد (الإسلاموية) العتيدة من خانة التنظير المطلق إلى خانة العمل الميداني لتربط بينها وبين مفهوم (النهضة) وليكون ذلك كله في موسم الحج المفعم بالمعاني والدلالات.
(
عمرو خالد) الذي تدور الأقاويل حول طبيعة قدرته على ممارسة العمل الدعوي في بلاده، والذي اختارته مجلة أمريكية قبل أشهر كإحدى الشخصيات المحركة لمستقبل العالم العربي.. يحسب له فوق ذلك كله أنه استطاع أن يقدم بديلاً هادفاً حقيقياً لفئة عريضة من الشباب.. ويقدم صورة ناصعة لـ (التجمعات) الشبابية التي غالباً ما ينظر لها بعين الريبة.. وينتقل بـ (صناعة الحياة) من عنوان فاره في أدبيات الحركة الإسلامية إلى فعل حقيقي دافق بالحيوية وبروح الشباب.. وكانت مفاجأته الأخيرة في آخر أيام الحج إعلانه عن تأسيس (اتحاد صناع الحياة) كهيئة دولية غير حكومية ليقيم بناء جديداً في معمار العمل الإسلامي التطوعي.. إنما على نحو غير مسبوق، عفوي غير مؤدلج.. يؤكد على أهمية دور الشاب والفتاة على قدم المساواة.. ويضم في فريقه حتى غير المسلمين.. وهو ما يُنتظر منه أن يبث حياة جديدة في جسد هذا النشاط الحركي ككل.