وقفة عند أوبريت :
وقفة عند أوبريت :
قوافل أتعبها الرمل
د. قصي الشيخ عسكر
"قوافل أتعبها الرمل"
العنوان أعلاه يعني الأرض والعطش والحركة ثلاثة معان تتبادر إلى الذهن وفق مدلولات موروثة ثم فجأوة تتركز مثل عدسة لامة لتنتشر بعدئذ في مدى أبعد.
لن أتوقف عند مشاهد الأوبريت كلها بل أقتصر الحديث عن المشهد الأول لكي أترك للقاري حرية إبداء الرأي بعد أن أقدم له مفاتيح النقد وهي طريقة تعني المشاركة النقدية بين المتلقي والناقد حول مشروع الشاعر أو الكاتب .
حينما ننتقل من العنوان مباشرة نجد أن الشاعر يبدأ لغته بالخطاب عبر لازمة ضرورية ليلفت نظر القاريء الذي ارتسمت في ذهنه ثلاثة مفاهيم تتعلق بالعنوان:
كن هكذا يامطر
أسقط على مفاصل الخطر
لاتبق من أحلامهم أثر
المطر رمز الخصب يؤدي دور الماحق الذي هو الجدب المتمثل بالشر فالمحق هنا خير محض بالضبط مثل كلمة الإرهاب مشتقة من رهب وكلمة " راهب " مشتقة أيضا من رهب فالأول إرهاب يقتل الخير وهو مرفوض والثاني راهب يرهب الشيطان ويرهب الشر وهو محبوب ومقدس ، وهكذا هو المحق من قبل المطر يمحق الشر مثلما يمحق الراهب الشيطان ، ولايعود الشاعر إلى الأرض بعد المطر بل ينتقل من علو إلى علو آخر :
صوت أول : هذا قرار النجمة العالية
يتحول الكلام من خطاب إلى غياب من أنت " المطر " المخاطب إلى هو أو هي وتغير الحديث من خطاب إلى غياب يعني تغيرا في الدرجة والمنزلة لتحقيق التوازن بين السماء نفسها وبين الشاعر وذاته . إن المخاطب قريب وهو المطر ثم بدا بعيدا فهو النجم الذي لابد أن نتحدث عنه بالغياب لدوافع نفسية وزمنية وروحية أيسرها وضوحا أننا نتكلم بالغياب عن معنى أو أمر من باب الرهبة أو القدسية وهنا أجد إشارة خفية من الشاعر إلى الموروث الفكري العربي، فالفرد العربي الذي يعيش في الصحراء ويسري مع القوافل والرمل كان يجعل من النجوم سببا للخصب والمطر هناك قول مشهور هو " مطرنا بالنوء أو النجم أو بنوء كذا " أي أنه - الشاعر - يتحرك باتجاه السبب الأصل منتقلا في الأبريت من المباشر إلى السرد وهو موضوع يخص المشاهد والعين الباصرة أكثر مما يخص القاريء فالشاعر يزاوج في نصه هذا بين القراءة والتمثيل .
بالمقابل نجد الشاعر يرسم في الأوبريت مشهدا أرضيا تتشكل أطرافه من صغير جدا وكبير جدا هما البحر والساقية. إن التوازن مطلوب من أجل خلق مطاطية زمنية تجعلنا نبحر في التاريخ، نهاجر إلى زمن عنترة الذي يعادل فعله في قتل الشر وإراقة الدماء المطر، فعنتر لم يقتل طوال حياته أي محب للخير وقد جعل المطر يسيل من سيفه ليغسل الشر عن وجه الأرض . إن أهم شيء في أوبريت الدكتور الأسدي هذه النقلة الجوهرية في التركيز على المطر من خلال عدة عدسات: النجم والمطر ، والقوافل والرمل، والقوافل وحركتها ، والزمن وحركته عبر التاريخ :
عنترة يخرج من حفرته القديمة يحمل ذاك سيفه والموت شد عمره والكلمات جرحت حزامه الجلدي فقال " هكذا تلعبين أيها الأقدار "
الواقع إن في المشهد الأول الذي توزع على عشرة أسطر تداخلا في الكلمات، فأية واحدة منها يمكن أن تحتل مكان غيرها: المطر، الدم ، الخصب، الأحلام، القسوة، الهلاك الجريمة، الساقية، البحر ، النجم، السلاسل ، القيود ..
والقوافل التي أتعبها الرمل يمكن أن نبقي على كل شيء من حولها ونبدل الرمل بالعطش أو الجدب أو الرحلة القاسية أو الإرهاق لكننا لانقدر أن نغير كلمة القوافل أو التعب.
عنترة هو السياب أيضا، عنترة الذي استدرج المطر عبر الدم مثل الراهب الذي تقمص الإرهاب لقتل الشر مثله السياب الشاعر الرقيق المريض الذي هو جزء من قافلة تعبر الرمال إلى حيث المطر أو إلى حيث عنترة الذي سبقنا بقرون، فالصورة كما تصورها العدسة تمر من قافلة إلى مطر ثم السماء حيث النجم وتمر على عنترة وتستقر عند السياب:
يامطرا ياحلبي
عبر بنات الجلبي
هذا الأوبريت الغني بمعناه ومبناه يزاوج بين الحاضر والماضي نسيجه متقن وأود لو تبناه ملحن قدير ليقدمه للجمهور. إن الشاعر كتبه بأسلوب ذكي يصلح للقراءة والتمثيل وقد قرأناه وأعجنا به وننتظر أن نشاهده يوما ما على المسرح أو شاشة التلفاز وقد جهدت في سطوري السابقة أن أتناول المشهد الأول أو المقطع الأول منه فقط تاركا للقاريء الكريم حرية الكشف عن ملامحه الجمالية في المقاطع الأخرى وغرضي من ذلك التواصل كما أشرت إليه في بدء حديثي التواصل بين الناقد والقاريء لأن القاريء متواصل أساسا مع الشاعر سواء بوجود الناقد أم من دونه.