موتُ مسرحيّ جوّال أرثر ميلر
موتُ مسرحيّ جوّال
أرثر ميلر [1915 – 2005]
جورج كعدي
المسرحي الجوال في النفس البشرية وأزماتها الوجودية المأسوية، مات امس مثلما مات بائعه الجوال قبل نصف قرن ونيف، بطلا تراجيديا متخبطا في أوهامه واخفاقاته وعلاقاته العائلية المأزومة [قدمت مسرحيته الاشهر هذه "موت بائع جوّال" للمرة الاولى عام 1949]. فهذا الكاتب الدراماتورجي الاوسع شهرة عالمياً، مع مواطنه العبقري الآخر تينيسي ويليامس، حمل معه الى حافة التسعين [غاب عن تسعة وثمانين عاما] طفولة الشقاء والعوز في بروكلين حيث ولد عام 1915، وسرعان ما تعرض والده الخياط النسائي للافلاس خلال الازمة الاقتصادية الكبرى في الولايات المتحدة، فوعى أرثر مشقة الحياة منذ يفاعه مما اضطره الى مزاولة العديد من المهن الوضيعة، كسائق شاحنة وسوى ذلك، من غير ان يتخلى عن طموحه الى اكمال دراسته، فالتحق بجامعة ميشيغن حيث شرع في محاولاته المسرحية الاولى، منضما الى "فدرال ثياتر ـروجكت" في نيويورك اثر تخرجه، ونصه المسرحي الاول الذي قدم على خشبة برودواي كان تحت عنوان "الرجل الذي امتلك كل الحظ" [1944]، تلاه "كل ابنائي" الذي نال جائزة النقاد، فيما نالت مسرحيته الذائعة الشهرة في العالم "موت بائع جوال" جائزة البوليتزر. ومن أبرز اعماله الغزيرة المتوالية، التي اقتبس عدد منها للسينما ايضا، أو أعدها بنفسه للشاشة الكبيرة، "قصة جي آي جو" و"فوكوس" و"البوتقة" (ذي كروسيبل) و"منظر من الجسر" و"غير المتوافقين" ("ذي ميسيفيتس"، 1961، للمخرج الكبيير جون هيوستن مع مارلين مونرو وكلارك غيبل ومونتغمري كليفت)... الى أعماله الاخيرة، مثل "انبعاث البلوز" العمل المسرحي الذي وضعه عام 2002 وكان في السادسة والثمانين ، ولم يتوقف في أي حال عن الكتابة، بين مسرح وسينما وبحث ودراسة، كذلك المؤلَف "اللئيم" الذي أنهاه في الفترة نفسها مع مسرحيته الاخيرة حول السياسيين وفن التمثيل، استنادا الى محاضرة ألقاها عن "السياسيين كممثلين، أيا تكن مسارحهم، ان كانوا يملكون مثلها". ولم يخف أرثر ميلر يوما نزعته اليسارية، وكان شيوعيا ذات فترة من حياته،ـ ومن أوائل الذين طالتهم الحملة الماكارثية، بيد انه رفض الوشاية ضد رفاقه، على عكس ما ألصق بايليا كازان الذي بقي حتى النهاية صديقا حميما لميلر وشريكا سينمائيا، وعندما حاز كازان في 1999 أوسكارا تكريميا لمجمل أعماله وتعرض لأشد الانتقادات والاتهامات بالتعاون مع الماكارثية والوشاية ضد رفاقه، كان ميلر أول المدافعين عنه قائلا انه يستحق هذين الشرف والتكريم.
سَبَر أرثر ميلر النواحي المظلمة من "الحلم الاميركي" (الازمة الاقتصادية الكبرى في الثلاثينات، والحملة الماكارثية في الخمسينات)، من دون أن يهمل التسديد نحو هدفه الاكبر الذي يدعوه هو نفسه "مأساة الانسان العادي" الذي يؤلمه طموحه ومثاليته وعجزه عن تجاوز التحديات الذاتية والخارجية، لذا مسّ مسرح ميلر الانسان الكوني. كاتب مسرحي أخلاقي، اقتدى بنية المسرحين اليوناني (سوفوكل) والانكليزي (شكسبير)، ولبث طوال حياته مؤمنا بأن المسرح قادر على تغيير العالم، وبأنه الشكل الفني الاقل خضوعا للرقابة، غير كاتم خشيته في الوقت نفسه من ان تجعل الضغوط التجارية والانتاجية المسرح الطليعي والتجريبي أقل قيمة للمنتجين وأدنى جاذبية للممثلين والكتّاب الذين يهجرون المسرح الى السينما.
أرثر ميلر القائل انه كان يتدبر أموره الحياتية في صعوبة، كسائر البشر، متحصنا في سنيه الاخيرة بعزلته في منزله في كونيكتيكوت حيث كان يعيش مع زوجته الثالثة إينغه موراث، زارعا البندورة وصانعا قطع الاثاث والحلى من خشب في محترفه، اقترنت شهرته المسرحية الاسطورية بشهرة ثانية لا تقل اثارة، هي زواجه المشهور من مارلين مونرو عام 1956 وطلاقهما عام 1961، ولعلها كانت حب حياته الاكبر وان ليس الاعذب [ويتردد عنها حبها الكبير ايضا له كأكثر المتفهمين لشخصيتها الانجراحية والغامضة والمركبة]، وكان تزوج قبل مارلين ماري غريس سلاتري، وليست له سوى ابنة واحدة، بربارة، من زوجته الثالثة التي رافقته حتى غيابه.