السينما السورية بين الرقص والثقافة

السينما السورية بين الرقص والثقافة

حسين العودات

النور احتج أحد الوزراء أثناء دراسة مشروع موازنة الدولة لعام 1972 على (ضخامة) مخصصات مؤسسة السينما مبرراً احتجاجه بأن أولوياتنا تقع في الصحة والتعليم وليس في الرقص والغناء (أي السينما). فأجابه وزير آخر: لولا السينما المصرية لتعذر علينا فهم اللهجة المصرية بمثل هذه السهولة، ولما عرفنا شيئاً جدياً عن مصر وصعيدها مؤكداً أن السينما (في ذلك الحين) من أهم وسائل نشر الثقافة وتشكيل الوعي.

ولعل هذين الرأيين يلخصان الموقف من السينما ليس في سورية وحدها بل في البلدان العربية كلها. م
سرعان ما تستجيب الحكومات لمطالب مؤسسات الإعلام، بينما تتثاقل في الاستجابة لمخصصات مؤسسات الثقافة خاصة السينما، سواء لأنها لم تدرك بعد أهمية الثقافة في تشكيل الهوية الوطنية وصقلها، أم لأنها تجهل دور الثقافة في إنجاح التنمية برمتها. وفي الحالات كلها كانت مؤسسات الثقافة (وعلى رأسها السينما) من ضحايا الجهل أو التجاهل أو قصر النظر، أو مهملة لأنها لاتقوم بدور إيديولوجي ودعائي مباشر للنظام السياسي، ومهما كانت الأسباب فإن النتائج واضحة : تراجع المؤسسات الثقافية وتوظيفها المباشر لصالح سياسات الحكومات والأنظمة وصولاً إلى موتها أو شبه موتها في معظم البلدان العربية، وعلى رأسها مصر أمّ السينما العربية وذات اليد الطولى في إنتاج الأفلام في البلدان النامية، إذ كانت تأتي بعد الهند مباشرة قبل أربعين عاماً. م
نهضت السينما السورية في نهاية الستينيات وأوائل السبعينيات من القرن الماضي، نهوضاً استثنائياً، وترافق ذلك مع تراجع السينما المصرية في أوائل عهد الرئيس السادات وخصخصة القطاع العام. واستبشر السينمائيون العرب عندئذٍخيراً بالسينما السورية وأعتقدوا أنها ستكون بديلاً حقيقياً للسينما المصرية المنهارة. وبالفعل دخلت الأفلام السورية المنتجة في تلك الفترة دخولاً كثيفاً وجاداً في تاريخ السينما العربية، سواء منها الأفلام الوطنية أم الاجتماعية. ولعبت دوراً هاماً لا مراء فيه في تشكيل الوعي الوطني والاجتماعي، ثم تعرضت (كما مؤسسات ثقافية أخرى) للي العنق والتوظيف السياسي وتضاؤل حجم الإبداع وشح المخصصات، فضلاً عن الترهل الإداري في مؤسسة السينما وهيمنة البيروقراطية، وأخيراً - وبالضرورة - إلى شح الإنتاج وربما ندرته، إلى أن وصل الحال إلى ما هو عليه الآن لا يسر صديقاً ولا عدواً. م
تعاضدت عوامل عديدة سلبية أوصلتنا إلى هذه النتائج، وهي جميعها نتيجة تراكم تاريخي يعود للشروط الموضوعية وليس لشروط ذاتية تعود لهذه الإدارة أو تلك، وتشترك جهات عديدة في ارتكاب الإثم طوال عشرات السنين، منها سياسات الحكومات المتتابعة، وعدم وجود استراتيجيات أو سياسات ثقافية محددة وشاملة، وفقدان البرامج، وقلة المخصصات المالية والتقانية، وتفجر وسائل الاتصال الأخرى، والثورة المعلوماتية، فضلاً عن الهدر والترهل والبيروقراطية التي طالت جميع مؤسسات الدولة وأصبحت ظاهرة واضحة للعيان يخطىء من يتجاهلها، كما تخطيء أية إدارة لمؤسسة السينما إن اعتقدت أنها ستحل المشكلة وحدها وبمعزل عن هذا كله. فالأمر لا يعود لقرار الإدارة بل للشرط الموضوعي و السياسات الحكومية والاعتراف بالحرية في تناول الموضوعات الثقافية والاجتماعية، بل واعتراف النظام السياسي للمؤسسة بأنها وسيلة ثقافية هامة لاغنى عنها. م
ربما كانت هناك محاباة في اختيار المواضيع الصالحة للأفلام وفي اختيار المخرجين، وطموحات كبيرة لدى الإدارة والمخرجين هي أكبر من إمكانات المؤسسة وإمكاناتهم، فالمؤسسة تطمح لأن تضع قدمها بين المنتجين السينمائيين العرب الرئيسيين دون أن تمتلك الشروط التي تحقق هذا الطموح. والمخرجون يطمحون لمناطحة المخرجين العالميين الرئيسيين بغض النظر عن مواضيع أفلامهم إن كانت تستجيب لحاجة مجتمعنا أم لا، ولذلك تراهم أحياناً يذهبون للتجريد والتطرف وربما (المزايدة)، وعيونهم غالباً ليست هنا وإنما هناك، في الوقت الذي يتناسون فيه أن قدرات المؤسسة لا تتيح إنتاجاً كافياً لمثل هذه المطامح، وأن هموم مجتمعنا هي هموم أخرى ولا حاجة لنا بمناقشة هموم افتراضية. وهكذا يزيد الجميع الطين بلة والبعد عن الواقع بعداً، ويتيحون لمن لا يؤمنون بأهمية السينما ودورها الثقافي والاجتماعي والتنموي فرصة لدق مسمار جديد في نعشها. م
لا يستطيع أحد الآن أن يزعم أن إنتاجنا السينمائي بخير، أو أن نشاطنا السينمائي كما يجب، ولكننا جميعاً نتبادل غالباً جانباً واحداً من المشكلة حسب هوى النفس، دون أن نضعها في إطارها الصحيح الذي أراه كما يلي: م
ينبغي على حكوماتنا (وربما نظامنا السياسي) الاعتراف بدور السينما وسيلةً ثقافية هامة، ووضع سياسات واضحة وبرامج مفصلة للنهوض بها، ورصد الإمكانات اللازمة وإطلاق حرية المبدعين في مجال السينما، وتناسي توظيفها الإيديولوجي والدعائي.كما ينبغي بعد ذلك على إدارات مؤسسة السينما وضع خططها الواضحة، والعمل على الخلاص من البيروقراطية المتراكمة، التي تمسك بخناق المؤسسة، والترهل الذي يلفها، والتعامل بالعدل والمساواة بين المبدعين، وإعادة النظر بالأولويات، ولعل إدارتها الحالية تدرك ذلك كله ولا تحتاج إلى نصائح واحد مثلي من خارج المهنة. م
لعل الذكرى الأربعين لقيام مؤسسة السينما تكون حافزاً جدياً وجديداً للجميع لدراسة واقع وسيلة الثقافة هذه دراسة وافية، وتأمين احتياجاتها المادية والمعنوية اللازمة تمهيداً لانطلاقة جديدة لمؤسسة ثقافية لم يقتنع كثيرون بدورها بعد، ويحاول كثيرون الخلاص منها.