حول فيلم " ناصر 56 " أيهما ناصر: 56 أم 67 ؟

 حول فيلم " ناصر 56 "

 أيهما ناصر: 56 أم 67 ؟

نجدت لاطة

عندما عُرض فيلم " ناصر56 " في صالات السينما لاقى ترحيباً واسعاً من قبل وسائل الإعلام, وكتب عنه الكثيرون, ونال أبطاله وكاتبه ومخرجه جوائز عدة. فأردت ـ وقتها ـ أن أكتب مقالاً عن عبد الناصر سميته " ناصر67 ", أُبيّن فيه حجم الهزيمة العسكرية والمعنوية التي أصابت الأمة في عام 1967، وكيف أن الـهزيـمة ألقت بظلالها السوداء على الأجيال كلها منذ عام 67 إلى يومنا الحاضر, بل إلى أيامنا المقبلة. لأنه ليس مقبولاً أن نظهر عبد الناصر في انتصار صغير محدود حققه في عام 1956، ونخفي عبد الناصر في هزيمة كبرى مُني بها في عام 1967، فهذا ضَحِكٌ على الأجيال الجديدة التي لا تعرف شيئاً عن عبد الناصر.

وقبل أن أنتهي من ذلك المقال فوجئت بأن الكاتب محفوظ عبد الرحمن الذي كتب قصة فيلم " ناصر56 " يكتب مسودة فيلم آخر عن عبد الناصر اسمه " ناصر 67 " فتوقفتُ عن كتابة المقال ريثما أرى الفيلم الموعود " ناصر67 "، فلعل الكاتب سيكتب عمّا سأكتبه في مقالي عن حجم هزيمة 67. وانتظرت سنوات ولكن بدون جدوى, فلم يخرج فيلم " ناصر67 " إلى الوجود، وبحسب سوء ظني فإنهم أغلقوا الموضوع كله, ولم يستحسنوا أن يشوهوا صورة عبد الناصر. وأنا حمدت الله تعالى على أنهم أغلقوا الموضوع من أصله, لأنهم لو أخرجوه لكان المؤلف سيجعل من عبد الناصر بطلاً في حرب 1967، وأن الهزيمة لم تؤثر فيه, ولم تؤثر في أجيالنا, أو أن الهزيمة جعلت عبد الناصر يعيد التكتيك لينطلق مرة أخرى بحرب الاستنزاف فيمهد لمصر نصر 1973. هكذا سيكون سيناريو فيلم " ناصر67 " لو ظهر إلى الوجود، لأن الناصريين الذين منهم الكاتب محفوظ عبد الرحمن ينظرون إلى حرب 73 على أنها الثمرة التي زرع بذرتها الرئيس جمال عبد الناصر, وأن أنور السادات ما هو إلا اليد التي امتدت لتحصد الثمرة.

وعدتُ ـ بعد طول الانتظار ـ إلى مقالي مع تغيير بسيط في عنوانه لا يبدل شيئاً في المضمون.  

وحين عُرض فيلم " ناصر56 " سمعتُ أحد المثقفين يقول عن الفيلم بأنه أعاد لنا ذكريات الأمجاد والبطولات, فشعرت ـ حينها ـ بالأسى, وقلت في نفسي: ألم يدرك الناس بعد ـ لا سيما المثقفين ـ ما فعله عبد الناصر بأمتنا ؟ ألم يدركوا أن كل ما نعانيه اليوم من هزيمة على كافة الأصعدة ـ السياسية والاقتصادية والثقافية ـ كان بسبب عبد الناصر الذي كان يقود الجماهير العربية التي كانت تتطلع إليه على أنه المنقذ؟ وهل كان عبد الناصر بطلاً حقاً؟         

لنبدأ بعبد الناصر وهو في عام 1956، فماذا فعل في هذا العام كما ظهر في الفيلم وكما هو في التاريخ؟ إن عبد الناصر قام بتأميم قناة السويس, وتأميم قناة السويس يعني طرد الكوادر الأجنبية (البريطانية والفرنسية) التي تقوم بتشغيل القناة, واستبدالها بالكوادر المصرية, وكذلك إلغاء حصة بريطانيا وفرنسا من الأسهم التي لهما في القناة. وهذا قرار جريء يُحسب لعبد الناصر, ولكن اتخاذ هذا القرار ليس شيئاً عظيماً بحيث يضع صاحبه بجانب عمر المختار أو عبد القادر الجزائري أو أي بطلاٍ آخر…لأنه ما من رئيس عربي إلا وفعل شيئاً مثل الذي فعله عبد الناصر في تأميم القناة, فعلى سبيل المثال قامت الحكومة العراقية في السبعينيات بتأميم النفط العراقي الذي كان لبريطانيا أسهم فيه, ومثال آخر: طرد الملك حسين الجنرال البريطاني " كلوب" الذي كان رئيساً لهيئة الأركان في الجيش الأردني وجعل الجيش الأردني أردنياً خالصاً دون أن يكون لبريطانيا نفوذ عليه. وهكذا لو فتشنا في كل دولة عربية لوجدنا لكل رئيس عملاً وطنياً قام به خدمة لبلاده. فقرار التأميم لا يضع عبد الناصر في مصاف العظماء, ولا يستحق كل هذا التهويل.

ثم أنتقل إلى حرب 1956 التي كانت نتيجة لقرار التأميم.. فكيف كانت هذه الحرب؟ وما هو حجم هذه الحرب؟ وحتى لا يكون وصف الحرب من خيالي ومما أعرفه عنها رجعت إلى كتب التاريخ فوجدت الآتي: هجوم بعض القطع البحرية الإنجليزية والفرنسية على مصر في شواطىء السويس وبور سعيد, وهجوم بعض الوحدات العسكرية والألوية المدرعة التابعة للجيش الإسرائيلي في الجانب البري الشرقي (شرق القناة). ولا ننس أن اسرائيل  كانت آنذاك غير متفوقة عسكرياً على مصر, لأنها كانت في بداية قيام دولتها المزعومة. وهذا الهجوم كان محاولة من الدول الثلاث لإرجاع عبد الناصر عن قرار التأميم, وقد باء الهجوم بالفشل الذريع لما أبداه الجيش المصري من بسالة في الدفاع عن بلده, وعندما لم تحقق القوات الأجنبية أهدافها انسحبت من حيث أتت.

فهذه الحرب تعتبر صغيرة إذا ما قورنت بالحربين:67 و73، ومع ذلك فهي تُحسب لعبد الناصر وتوضع في ميزان حسناته, ولا يجوز أن نبخس الناس أشياءهم. ولكن إذا ما جئنا إلى حرب 1967 ونظرنا إلى حجم الهزيمة وآثارها التي وقعت على رؤوسنا جميعاً, وأعني العرب جميعهم, فإنه لا ينبغي علينا ولا يليق بنا أن ننظر إلى أي حسنة فعلها عبد الناصر تجاه أمتنا, بمعنى آخر أن تأميم القناة وحرب 56 لم يكونا الحدث الأهم الذي شكل شخصية عبد الناصر, وإنما الذي شكل هذه الشخصية هو حرب 67 . فعبد الناصر هو حرب 67، وينبغي علينا أن نقدمه لأجيالنا من خلال هذه الحرب فقط. أما ما تفعله السينما العربية من إبراز حسنات عبد الناصر الصغيرة وتخفي سيئاته الضخمة فهذا ضحك على الأجيال الجديدة, لأن حرب 67 كشفت الزيف الذي كان يخفيه عبد الناصر تحت خطاباته الرنانة, وصدمت الشعوب العربية التي كانت تتأمل فيه الشيء الكثير. ويمكن القول بأن حرب 67 قتلت كل الآمال لهذه الشعوب, وأن جيل ما قبل حرب 67 اختلف تماماً بعدها. قبل الحرب كان الجيل مليئاً بالآمال والطموحات والأحلام, وكان واثقاً بأنه سيفعل شيئاً يرفع رأس أمته. لأن هذا الجيل هو نفسه الذي واجه الاستعمار في شتى الدول العربية وحقق لها الاستقلال الواحدة تلو الأخرى. ولكن بعد حرب 67 تحطم الجيل معنوياً بعدما تحطم عسكرياً على جبهات القتال.

ولا زلت أذكر أيام تلك الهزيمة, فقد كنت طفلاً أهرب من الطائرات الإسرائيلية وغاراتها, اليهود فوقنا ونحن في الحضيض، والناس يصيحون: اليهود جاؤوا, اليهود ضربوا, اليهود دمروا المطارات... وكان لسان حال الشارع العربي يقول: وأين نحن؟ وأين أنت يا عبد الناصر؟

أين أنت يا عبد الناصر؟ أين أنت يا من وعدتنا بأن ترمي اليهود في البحر؟ عُدْ إلينا لتجد أننا نحن الذين رُمينا في البحر, وليته كان بحراً من ماء, وإنما هو بحر من الذل والخنوع والاستسلام, عُد إلينا يا عبد الناصر لتجد علمَ إسرائيل يرفرف عالياً ومزهواً في سماء عاصمتك القاهرة, وستجد فيها يهوداً, وقد تجد زعيم اليهود يزور قبرك ويقول لك:

" لقد كنتَ لنا نكتة ظريفة يا عبد الناصر". لازلت أذكر يا عبد الناصر خطابك الذي قلتَ فيه: " لقد جاء هذا الجيل على موعدٍ مع القدر", نعم لقد كان جيلاً يصنع المعجزات, ولكن أنت الذي دفنته يا عبد الناصر، ودفنت معه كل أحلامه, ما أعظم يديك اللتين استطاعتا أن تدفنا هذا الجيل؟

هذه هي حقيقة عبد الناصر, وهذه خيالات الأجيال التي جاءت بعد حرب 67، فقد كان عبد الناصر يستطيع أن يفعل كل شيء ضدّ اليهود, لأنهم كانوا في عهد عبد الناصر ضعفاء, لا سيما في فترة الخمسينيات. ومما يرويه اللواء محمد نجيب الرئيس المصري السابق في أخر مقابلة له مع مجلة الوطن العربي التي كانت تصدر من باريس" أن الجيش المصري كان سيقوم في بداية الخمسينيات بطرد اليهود من فلسطين, ولكن الدول الغربية قالت لهم بأن هؤلاء ما هم إلا قوم شردهم هتلر في أوروبا, فتركناهم وشأنهم".

بالإضافة إلى أن فكرة قيام دولة صهيونية في فلسطين لم تكن قد ترسخت بعد في سياسات الدول العظمى, لا سيما عند الاتحاد السوفييتي. وأن من يقرأ كتاب محمد حسنين هيكل " قصة السويس" عن التهديد الذي أرسله الاتحاد السوفييتي إلى كل من بريطانيا وفرنسا وإسرائيل إبان حرب 56 يشعر تماماً بأن الاتحاد السوفييتي غير راضٍ عن دولة إسرائيل, لأنه يعتبرها في النهاية امتداداً لأمريكا, فكلما زاد نفوذ إسرائيل في المنطقة كلما زاد نفوذ أمريكا, وكان هذا يقلق الاتحاد السوفييتي الذي كان يرغب هو أيضاً أن يكون له نفوذ في المنطقة.

وقد زادت قتامة عهد عبد الناصر سواداً وخيانة حين عُرض مسلسل " رأفت الهجان" الجاسوس المصري في إسرائيل, فقد تبيّن من خلال حياته في إسرائيل أنه استطاع أن يحصل على موعد الهجوم الإسرائيلي على كلٍ من مصر وسوريا في عام 1967، وقد قام رأفت الهجان بإرسال هذه المعلومة إلى المخابرات المصرية التي أعلمت بدورها الرئيس عبد الناصر, ولكن فوجىء رأفت الهجان بالهزيمة, فرجع إلى مصر يضرب أخماساً بأسداس, فأخبرته المخابرات المصرية بأنها أوصلت المعلومة إلى الرئيس عبد الناصر ولكن هذا الأخير لم يفعل شيئاً. وقد خرجت ـ على أثر هذا المسلسل ـ المظاهرات في شوارع القاهرة منددة بعبد الناصر بعدما تبين لها خيانة عبد الناصر في حرب 67.

واليوم يأتي أصحاب فيلم عبد الناصر فيلقوا شباكهم في مياه عكرة علّهم يستخرجوا منها صورة جذابة لعبد الناصر. فهم أرادوا أن يقولوا لنا أن عبد الناصر لم يقم سلاماً مع الصهاينة مثلما فعل ويفعل زعماؤنا اليوم. وأنا أقول لهم بأن عبد الناصر حقاً لم يقم سلاماً مع الصهاينة, ولكن أقام لنا هزيمة عظمى هزت كيان الأمة.

وأتوجه إلى أصحاب فيلم عبد الناصر بهذا السؤال الكبير: لماذا لم يقم عبد الناصر بهجوم واحد طيلة سنين حكمه على إسرائيل؟ أعرف أنهم سيقولون بأن عبد الناصر قام بحرب الاستنزاف. وأنا ـ بدوري ـ أقول لهم إن مصر أكبر من حرب الاستنزاف, وتستطيع مصر أن تقدم أكثر مما قدمته في حرب الاستنزاف, وقد قدمت ـ فعلاً ـ أكبر من حرب الاستنزاف, وأعني حرب 73، بل وتستطيع أن تقدم أكبر من نصر 73 لو أراد ذلك قادتها.

وفي الختام أعود من حيث بدأت, إلى فيلم " ناصر56 " فأستسمح القارىء بأن أضيف مشهداً مهماً جداً إلى فيلم " ناصر 56 " كان قد نسيه الكاتب والمخرج, هذا المشهد رواه محمد حسنين هيكل الذي كان مستشاراً لعبد الناصر في ذلك الزمان, يقول هيكل: (أن الساعات التي كانت فيها الأمم المتحدة تعقد اجتماعها للنظر في قضية تأميم القناة كانت ساعات صعبة على عبد الناصر, وأن عبد الناصر قضى تلك الساعات في صالة سينما يشاهد فيلماً. فسأله ـ أي هيكل ـ عن سبب ذلك, فردّ عليه عبد الناصر: أليس هذا أفضل من أن أجلس في مكتبي أقضم أظافري؟) ألهذا القدر كانت أعصاب الريس بايظة؟ وكيف لو قُدر لعبد الناصر أن يقود حرب الخليج ضد أمريكا وحلفائها؟ أو كيف لو قُدر لعبد الناصر أن يكون مكان هتلر الذي حارب العالم أجمع؟ هل كانت أعصابه تتحمل ذلك, أم أنه كان سيقضي سنوات الحرب في صالات السينما والخمارات والكباريهات لكي لا يقضم أظافره في مكتبه؟ أهكذا تُقاد الأمم؟ أنا الذي أعرفه أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان إذا استشكل أمر هرع إلى الصلاة وليس إلى السينما !!!