حلب الأستاذة في فن العمارة ببلاد الشام...
بعد هجمة "التأميم" في العام 1961، والتي تجدّدت بعد عامين، توقفت النهضة الصناعية والعمرانية في سورية وفي حلب التي كانوا يطلقون عليها "مانشستر الشرق"، وأحجم المتموّلون عن أن يُشيّدوا المباني الفخمة، التي عُرفت بها هذه المدينة منذ القديم (قلعة حلب مثالا) إلى البيوت الحلبية المشغولة بإزميل الفن الرفيع... أحجموا خشية من هجمة تأميم أخرى تطال العقارات، إلى أن استوثقوا من أنّ هذا لن يكون، فتهمّم الحلبيون، في أوائل سبعينيّات القرن العشرين، في بناء الدارات (الفيلات)، في ذلك الحيّ الجديد الذي أنشئ غربيّ المدينة وسمّي "حيّ الشهباء"، فأبدع المهندس الحلبي في البناء أشكالا وألوانا، حتى أصبح هذا الحيّ... فرجة للناظرين.
أقول: "فرجة للناظرين" وأنا أقصد المعنى في كلّ حرف من هذه الكلمة!
أذكر أنّ "معهد التراث العلمي العربي" (التابع لجامعة حلب)، يديره الدكتور خالد الماغوط، كان يقيم كلّ عام مؤتمره في "تاريخ العلوم عند العرب"، يشارك فيه باحثون وعلماء سوريون وعرب وأجانب من كلّ أنحاء المعمورة (وكنت أشارك فيه بما أكتب من بحوث في تاريخ الطبّ الأندلسي)...
أذكر أنّ القيّمين على هذا المؤتمر كانوا يدركون روعة فنّ العمارة في هذا الحيّ الجديد، فيُتيحون للعلماء الزائرين فرصة أن يتفرّجوا، والسيارة تتهادى بهم في شوارعه والدروب والمنعطفات، ويُكحّلوا أعينهم بالنظر إلى الدارات التي سكب فيها المهندس الحلبي خلاصة فنّه الخلاق، فأبدعها بما تتّسم به من جمال وأناقة ورهافة ورفاه، في اختلاف الأشكال، مقرونًا ذلك كلّه بفخامة تبهر الأبصار.
وأذكر مرة أن رحلة قام بها أعضاء من "جمعية أصدقاء دمشق" إلى "سدّ الفرات" بُعيد إنشائه (وكانت بينهم ستّ الشام الأديبة ألفة الإدلبي)، قد جعلوا في برنامجهم، أن يتجوّلوا، في أثناء مرورهم بحلب، أن تتجوّل الحافلة بهم في أرجاء هذا الحيّ الذي يتمتّع بالجدّة والعراقة.
إنها حلب، الصناعة والتجارة، والطرب والأدب، وفنّ العمارة الخالد.
إنها المدينة التي تنهض من تحت الأنقاض أقوى ممّا كانت.
حلب، يا من رأيت النور في بيت في أزقتك العريقة... إنّ بكائي اليوم على ما يحُلّ بك، ما هو إلا حزنٌ عابر... وأنا أعلم أنك من أقدم المدن المأهولة في العالم.
وسوم: العدد 699