العمود الأول والعمود الأخير
كل صباح يوم أربعاء ، وبالرغم من أنه يبذل في كتابته ، كثير من الحرص
وبعض من القلق ، ويقضي ساعات المساء من الشرود الذهني في مكتبه ، وربما
يكون ذلك أثناء قياته للسيارة ، وكثير من الأحيان في ذهابه وإيابه لمدارس
أبنائه الثلاثة ، يجد ضالته في تكملة خاتمته ، التي وكثير من المرات تكون
محط انتقاد زملائه أو أصدقائه ، في أنها تختم إما قبل استكمال إيجازالفكرة ،
أو إن إطالتها تكون على حساب وقت قراءة القرّاء لها...!
ولعل ثقل الساعة التي يمر بها قبل ارساله مقال عموده الإسبوعي ، يوازي
ثقل الساعة الصباحية التي ينتظربشغف رؤيته منشوراً في الجريدة اليومية ،
والغريب في أنه لايجد مهرباً من تكرار وتماثل تلك الساعتان ، في وقائع
مايجري فيها معه ، ساعة مسائية مع زوجته وأبناءه ، والساعة الصباحية
كذلك بزيادة قيادته للسيارة ، وإيصال زوجته للمدرسة التي تدرس فيها ،
وأولاده كل لمدرسته .!
كم من ساعة مساء ليلة الأربعاء مرّت على هذه الحالة ، وكم من ساعة
صباح تلك ؟
ويستعرض "حكمت زهرالدين " تلك الساعات بطول السنين التي اعتمدت
الجريدة عموده الأسبوعي ، فلا يلتمس حضورها ، ولا يزوره ثقلها ذاك
الذي كان يتفاعل معه بأحاسيسه ، لا يراه إلاّ طيفاً أو وميضاً خفيفاً يمرّ
بخاطره ويعبر ..!
تراوده ضحكة ..فيطردها فوراً ، يشعر بأنها تريد منه أن يقلل من قدرها
عنده فيستبدلها بإبتسامة صفراء حتى يرشي بها نفسه ، التي بدأت تعاتبه بكثرة
في الآونة الأخيرة ..! وخاصة صورة زوجته ، عندما كان يقتص من وقتها
ورغبتها ، في إرغامها لسماع قراءته للمقال قبل إرساله ، لتبدي رأيها
أو تشير له بما تلاحظه فيه ، وهي في معمعة تحضير دروسها ، ودروس
وواجبات أولادهم المدرسية ..!
وكم كانت تلك الساعة تتحول إلى مشاحنة بينهما، عندما تزيد هي في
الملاحظات وهو يرفضها ، ظناً منه أنها تقصد التقليل بأهمية ما جاء
به ، و فوق ذلك تزيد فيه الحيرة ، عندما قالت له يوما والعجب
يطغى عليها أيضاً ، بأنها لم ترى أو تقرأ عموده منشوراً يوماً ...!!
فكيف استمر وجود هذه الحالة سنين بينهما ؟
يغوص في أعماق تفكيره متسائلاً مراراً بعد أن سمع من زوجته تلك
العبارة وأخرى مثيلاتها ..! ولعل هذا الجفاء المتزايد بينهما له أسباب
أخرى لا يعلمها ، لكنه دائماً يتراجع أو يحاول عدم تأكيده تلك الأسباب
في التأثير على نظام حياة أولادهما والبيت معاً ، بيقينه أن كلاً منهما
لازال يتفانى في ذلك وخاصة منها ، رغم احتمالات تأكيد ظنونه أن
حياته الزوجية في طريقها للتوقف لامحالة ، مثلما هي حالة مقاله
الأسبوعي الذي سيتوقف أيضاً لامحالة ، مع اقتراب موعد توقف
الجريدة عن الصدوربسبب خسائرها ..!
ويوماً رغب بمعرفة تأثير تلك الحالة على أبنائه بجلسة ودية معهم ،
استغلها بغياب أمهم ،وقد فوجئ برد ابنه الكبير ماجد ، في سؤاله
المتهكم قائلاً له : هل هذا موضوع مقالتك القادمة يا أبي ...؟
منذ تلك الواقعة ، قرر أن يبعد أي حديث يمت بصلة لحالته في مقالاته ،
الإسبوعية ، تارك مركب بيته لرياح زوجته ، مترقباً أي مرسى يرسو فيه ..!
صاح بها : هات جريدة عدد اليوم يا أم ماجد ، لقد جلبته لتقرأي العمود ، هناك
على (الفاترينا )عند باب مدخل البيت ، لقد نسيت أن أذكرك به ...!!
مضى وقت عليه ولم تلبي زوجته أو يراها تأتي إليه ..ّ فكرر مناداتها
بصوت خشن ونبرة أعلى ..
كان يقضي كعادته أغلب أيامه ساعات المساء هنا ، خلف مكتبه في
البيت يقرأ ويبحث ويكتب .. لكنه ومنذ فترة طالت فترة الشرود والإنعزال
لديه ، وتراجعت رغبته في القراءة أو الكتابة ..فيشعر بها اليوم أكثر
مما مضى ...!
كان يمسح دمعات ذرفتها عيناه ، عندما دخلت زوجته تحمل صندوقاً ،
وضعته أمامه على المكتب بهدوء وبروية وكأنها تطيل بحركتها لتزيد من
إنتباهه ، ثم ظلت واقفة مطأطئة رأسها ثم مالبثت أن أجهشت ببكاء
خفيف ، أعقبتها ضحكة مصطنعة ..!
سألها مستغرباً من حالها ومن الصندوق : جميل هذا الصندوق ما به ؟
كأنه صندوق هدايا ..!
وعندما لم تجبه آثر أن يسألها مرة ثانية عنه ، وعن الأولاد : لم لم يأتي
أحد منهم ،كعادتهم في مثل هذا الوقت كل يوم ..؟
أجابته بصوت أجش : ساجدة انشغلت في بيتها بابنها المتوعك ، وماجد
تأخر في عمله ، وخالد لديه محاضرة متأخرة في الجامعة ...
أجابها مباشرة : وهذ الصندوق الجميل ..؟
تناوله وبدأ بفك رباط شريط الزينة الذي كان معقوداً عليه ، وحاجبيه مرفوعتان
مستغرباً وهو يسأل : ماذا به يا أم ماجد ؟..وأكمل فتحة وإذا بجريدتان فيه
كل منها ملفوفة بشريط أنيق وجميل ، معلق بهما ورقة مذهبة ، مكتوب
في الأولى :
الأربعاء 14مارس 1994 ، وفي الثانية : الأربعاء7 مارس 2014 ..!!
تجمد الدم في عروقه وهويحدق بزوجته، ولم يستطع حينها إخفاء دموعه ،
وكأن يقينه انتقل وتركز على شيء آخرمن ظنونه لم يكن في حسبانه أبداً ..!
أجابته زوجته وهي تحاذيه بما يفكر به وتومىء برأسها :
نعم : نعم يا أستاذ حكمت زهر الدين ... العمود الأول ، والعمود الأخير
لقد قرأتهما ...
حصلت عليهما من أرشيف الجريدة ، عندما أغلقت نفسها نهائياً في
الأسبوع الماضي ..!!
وسوم: العدد 777