أخذوه ولم يعد، مملكة الظلام
هذه قصة جديدة من سلسلة (الحياة اليومية لمواطن سوري) أهديها لأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، وهي من تلك القصص التي حدثت معي وليست قيلاً عن قيل أو نقلاً عن فلان وعلتان.
جرت هذه الحادثة في نهاية السبعينيات وفي صباح أحد أيام الجمعة حيث أتتنا مكالمة تلفونية (كهربت) جو البيت ووضعت جميع أفراد الأسرة على أعصابهم. كان على الخط الآخر أحد أقاربنا حيث تكلم مع والدي وأعلمه بصوت مختنق أن ابنه الوحيد قد اعتقل مساء أمس وأنه يرغب بزيارتنا ليرى ماذا يمكن أن نفعل للمساعدة. كان أبي رحمه الله، وبحكم كونه وصل في الجيش إلى رتبة عالية، كان ملاذاً للقريب والبعيد في أوقات الشدة بسبب معارفه الكثر وسمعته العطرة والتي استمرت حتى وهو في الحياة المدنية. وصل قريبنا سريعاً وبدأ صوته يتقطع وهو يروي القصة، محاولاً جهده حبس دموعه وهو الأمر غير السهل لرجل في الخمسينيات من عمره وفي مجتمعنا الذكوري. قال بأن دورية مخابرات داهمت منزلهم قبل منتصف الليل واعتقلت ابنهم الوحيد والذي لم يبلغ العشرين من عمره بعد، دون إبداء أي أسباب أو ذكر أية تهمة أو حتى لأي فرع يأخذون الولد، كل ماقالوه بأن لديهم أوامر باعتقاله ولاشئ غير ذلك.
كان أبي حسب ماذكرت مايزال على معرفة بالبعض ممن بقيت لهم بعض الكرامات لدى المسؤولين العسكريين والمدنيين، ولكن ليس لدى المخابرات، وهناك فرق واسع بين الاثنين. وبالمختصر فلم يتمكن بالنتيجة من تقديم أي شئ يفيد قريبنا في محنته، فراح الرجل يطرق كل الأبواب التي يمكن أن يحصل منها على أية معلومة مهما كانت ضئيلة، مثل أين هو ابنه وماهي تهمته وهل يمكن زيارته، إلا أن كل ذلك راح أدراج الرياح. ومن خلال محاولاته أيضاً، وبدفع (المعلوم)، قيل له مرة أن تهمة ابنه هي التجسس لصالح إسرائيل، وقيل له مرة أنها العمالة لحزب الكتائب اللبناني، ذلك أنه كان يتردد كثيراً على (شتورا) الحدودية لشراء بعض المهربات وبيعها في السوق السوداء لمساعدة أسرته ذات الدخل المحدود، مثله مثل مئات الشبان السوريين في ذلك الوقت. أحد الأخبار التي حصل عليها أيضاً كان أنه يعمل بتهريب الدولارات والمخدرات وغيرها، علماً بأن هناك غيره ممن وجهت لهم نفس التهم، ولكن لم تمنع زيارتهم ولم يبق مكان اعتقالهم سراً.
كان الشاب، حسب ماذكرت، وحيد أسرته على عدة شقيقات، وكنا كلما زرناهم أو زارونا وتحدثنا معه، يتحدث عن مستقبل كان يراه مشرقاً أمامه بالرغم من أنه كان قد ترك الدراسة منذ فترة. كان هدفه هو العمل على توفير مبلغ كاف من أرباح مبيعاته لتلك المهربات، والتي كانت على حد علمنا لاتتجاوز الأحذية والملابس والراديوهات والمسجلات الصغيرة، على أن تكون خطوته التالية البدء بمشروع محل تجاري متواضع يطوره مع مرور الوقت. وحتى لو افترضنا هنا أن تهمته كانت الاتجار بالدولار والمخدرات أو حتى بالعمالة، فما الذي كان يمنع أن يعطى الفرصة للدفاع عن نفسه في المحمكة وتوكيل محام لمساعدته؟ حتى الجاسوس الاسرائيلي (كوهين) قبله كان قد حوكم أمام القضاة وأعطي الفرصة للدفاع عن نفسه أو على الأقل ليقول ماعنده وأمام الناس، فهل كان قريبنا بالنسبة للنظام أخطر من الجاسوس (كوهين)؟
مضت الأشهر والأعوام ولاخبر موثق عن الشاب، إلى أن التقينا بأسرته في أحدى المناسبات، وأخبرنا والده أنهم حصلوا مؤخراً على قصة جديدة ومختلفة عن باقي القصص وهي أن ابنهم كان قد تلاسن مع (عنصر أمن) في إحدى مؤسسات الدولة المدنية حول موضوع شخصي ليس له أي علاقة لابالتهريب ولابالعمالة وحتى لابالسياسة، وأن عنصر الأمن هذا هدده أمام الملأ أن يجعله يدفع ثمناً (باهظاً) لتحديه له وتلاسنه معه. من جهتي، فقد وجدت أن هذه القصة هي الأقرب إلى الواقع، خاصة وأني شخصياً كنت هدفاً لعناصر أمنية حاولت الانتقام مني وترحيلي إلى سجن (تدمر) السئ الصيت بسبب خلاف وظيفي قامت تلك العناصر بتحويله إلى تهمة سياسية لاينجو منها إلا كل طويل عمر. توفي والد الشاب قبل عدة سنوات ولحقت به أمه، بعد أن أمضى الاثنان مايقرب من نصف عمرهما وهما لايعرفان شيئاً على ابنهم ولالماذا اعتقل. تصوروا مايقرب من الاربعين سنة عاشها والدان وهما يفكران كل يوم بابنهما الوحيد ومعاناته وعذاباته ومصيره المجهول، وليسا بقادرين على فعل شئ.
هذه هي (سورية الأسد) في الأمس واليوم للذي لايعرفها، ولأصحاب مقولة (كنا عايشين وماشي حالنا)، ففي هذه (السورية) يعامل أفراد الأكثرية مثل الحشرات، وعليهم أن يتذكروا دائماً أن النظام يمن عليهم حتى بالتنفس بشرط أن (يخرسوا) وأن لايشتكوا حتى حين افتراسه لأعز الناس إليهم.
وسوم: العدد 781