خبزٌ ودم
منذ ساعة خرج أحمد الفالح من بيته، مخلفاً وراءه صغاراً مع أمهاتهم، لقد استغل هدوء القصف في ساعة ما قبل الظهيرة بقليل، ليلبي نداء الجوع، الذي حوّل مرح الصغار من عائلته وعائلة شقيقه وشقيقته، حيث التجأت العائلتان إلى منزله بعد أن خرج رجلاهما للمشاركة بنداء الحرية والكرامة في شوارع حمص منذ أيام، ولم يعودا.. كان صوت الأطفال يرن في أذنيه:
_ (عمو).. منذ البارحة لم نذق طعاماً..!
_ (خالو).. منذ يومين أمعاؤنا خاوية..!
وها هو الآن يسير في شوارع المدينة متسللاً من فرع إلى فرع، كي يتحاشى المرور في الشوارع الرئيسية المزدحمة بالحواجز، مؤملاً النفس أن يصل إلى المخبز الذي يبعد عن منزله مسافة ثلاث (دخلات)؛ ليعود بالخبز إلى الأطفال الذين تركهم بحالة من الجوع متقدمة، لكن حالة الحذر كانت تلف خطواته ، فتجعلها متعثرة بطيئة، ورغم أن الشوارع كانت شبه خالية في هذا الوقت من منتصف النهار، فقد كان ركام المنازل المتهدمة جراء القصف العشوائي من جيش السلطة للمدينة يعوّق سيره أيضاً، ويبطئ حركته أكثر فأكثر؛ إذ كانت خطواته تنتقل وكأنها في حقل ألغام، وكان بين الحين والآخر يصيخ السمع، كي يتأكد أن أصوات الانفجارات التي يسمعها بعيدة عن المكان الذي هو فيه من حي (بابا عمرو)، حتى إذا اطمأن إلى أن الأصوات بعيدة، تابع سيره البطيء؛ فحركاته مزدحمة بالهدوء الراعب الذي يلف المكان، وبصورة الحي الذي تحوّل بفضل هدايا جيش بلده، وعدوان زبانية الحاكمين من "الشبيحة" والشرطة إلى دمار وخراب وجثث منسية متحولة، وهنا تساءل أحمد في سرّه:
_ أهذه حمص التي أفتخر بالانتساب إليها..؟! لا.. لا.. لقد تغير كل شيء؛ فعصابات الحاكمين عندما استعصى عليها الدخول الهين إلى الحي، عمدوا إلى القصف البري والجوي عشوائياً، إنهم غرباء.. نعم غرباء.. فابن البلد لا يفعل ببلده وأهله هكذا..!! ثمة ما يثيرالريب في سلوك هؤلاء؛ فهم يحمون محتلي الجولان منذ أربعين عاماً، في حين أنهم يقمعون حرية السوريين كل تلك المدة، فلما قام شباب الشعب وشيوخه ونساؤه يطالبون بالإصلاح والحرية والكرامة، واجهتهم العصابات بالنار والقتل والاعتقال، وها هي مدرسته التي يُدّرس فيها تحولت إلى ركام على يد الهمج، فهي تتراءى له عن بعد في الشارع الثاني بعد منزله كباقي وشم راعب، يعلو جبهة رعديد، يركب دبابة، ويقصف قصف مستعمر جبان..!
نعم.. نعم.. إنهم غرباء، فلا انتماء لهم لأيٍّ من أبنية البلد الاجتماعية. ولم يكد يتم كلماته تلك، حتى سمع أزيز قذيفة قادمة، فغطى رأسه بكلتا يديه، والتصق بالأرض، وهو ينظر إلى القذيفة المجرمة تسقط بعيداً عنه مسافة تجعله في مأمن من شظاياها وركامها. وبعد أن اطمأن إلى الوضع، نهض قائماً ونفض ثيابه، وتابع السير، وقد أزال الخوف من قلبه أن آنسه صوت مقرئ قادم من إحدى البنايات المتبقية، يتلو قرآناً يقول: ((ولا تحسبن الله غافلاً عما يعمل الظالمون)). وفي الحال تدحرجت كلمات عفوية من شفتيه: بسيطة أيها القتلة..! بسيطة..! انتظرونا فسوف ترون؛ فصورة أبي خالد صديقي في المدرسة، وهو يسبح في دمه تنادي بالثأر، وكذلك منظر طفل وطفلة جيراني (بيت عماد)، وهما يرنوان بنظرات جامدة تلاحق الروحين اللتين غادرتهما للتو، جراء إصابة منزلهما بصاروخ غادر لا ينسى. وتابع سيره وقد استولت على كيانه أفكار قديمة تهمس في سرِّه معللاً بها وحشة الطريق: سنوات طويلة عشناها ونحن نكتوي بنيران الاستبداد؟ لقد كانت بلدنا تنعم بوفرة محسودة، حتى جاء الريح الأصفر، الذي عمّ الديار منذ عام 1970م، فأدخل القلق والفقر والبطالة إلى معظم بيوت الأمة، ثم وصلنا إلى هذه الحالة، التي ألقت بغيم العائلة الحاكمة الأسود في كل السكك والسماوات. لكن ليعلموا أننا لن نتنحى بعد اليوم عن درب الحرية أبداً.
وفجأة توقف مشدوهاً، فقد اصطدم ناظراه بالعدد الكبير من الناس يصطفون أمام المخبز. توقف قليلاً وهو يحدث نفسه:
- هل من خيار آخر؟ يجب أن أصطف وأنتظر. وفي الحال توجه إلى الصف وهو يتمتم:
_ آه.. كم نالنا من الغدر عندما صدّق الكثيرون قولهم: إننا نعطيكم الاستقرار وتعطونا صفقة أيديكم! أليس هذا عدلاً..؟! وإن نكثتم، فالمدفع والرصاصة هما الجواب!
وظل أحمد يهجس بتلك الكلمات إلى أن جاء دوره في شراء الخبز، وكان الوقت قد فارق العصر، تناول عدداً من الربطات، وضعها في كيس بلاستيكي، وأسرع عائداً، يحدوه أمل رمادي في إطعام الأطفال.
ولما كان يقف على باب منزله، يدير مفتاح الباب في مغلاقه، سمع أزيزاً حاداً وانفجاراً هائلاً في المكان، وكان آخر ما علمه وهو حيّ، أن تحسس الأرغفة، فإذا هي غارقة بدمه، فنظر نظرة أخيرة إلى البيت الذي آواه أربعين سنة عجفاء صفراء، مدعية الاستقرار، فإذا بالمنزل قد أصبح قبراً لساكنيه، فشهق شهقة ثم غادر، وعيناه مفتوحتان، يرنو بهما بعيداً إلى ثورة تحمل روح الحرية والكرامة..!
وسوم: العدد 809