لا تُعْطِها أُذُنَك
حيدر قفه
عندما تَهبُّ رياح السَّموم بِحَرِّها وأتربتها تؤذي كُلَّ شيء، ويتأذى من هباتها الكائنات كلها... حتى الأحجار في مقالعها، تدخلُ الجحور، وتقلبُ القدور، وتخافُها الوَحَرَةُ في صحرائها فتختبئ في جحرها ريثما تنتهي هَبَّـتُـهَا. ولأنها واضحةٌ جليةٌ؛ تأتي علانيةً في صَدْرِ الصيف ودُبُرِ الربيع، يحتاط الناس لها، فيغلقون نوافذهم، ويغطون قدروهم، ويسكنون في دورهم، ويتحاشون التعرض لها ما لم تلزمهم لازمة، فإن حدث... تلفَّعُوا في أثوابهم حيطةً وحذراً ونفاذَ بصيرةٍ.
وهناك رياح سُمُومٍ لا تخرج من الطبيعة الكونية، لكنها تخرج عن النفوس غير السوية، فهي إن هبَّتْ هبتْ خفيةً، ودبتِ خِلْسةً، تسري في الأوصال فتشلها، وفي الأعماق فتـتلفها، تصبها الألسن المعجونةُ بالكذب، المسكونةُ بالاختلاق في آذان البسطاء طيبي القلوب، أي إساءة تلك التي يضمرها النَّـمَّامُ لمن ألقى إليه أذنيه يصب فيهما كُلَّ قبائحه!! لم يجد مكباً لنفاياته إلا أذنيْ صاحبه، فألقاها فيها دون اكتراث لما تحدثه من تدمير في الحياة، وهل هناك أصدق من قول المعلم الأول "هي الحالقة... تحلق الدين" لكن البلاء كل البلاء فيمن يقبل أن يُصَدِّقَ سلوكُه حَدْسَ النَّـمَّامِ، فيصدق كُلَّ ما يلقى إليه دون أن يفرز الكلام، لقد رضي لنفسه بوصمة السذاجة وتهمة الاستغفال!!
أُدْرِكُ تماماً أنكم متحيرون من بدايتي تلك!! متهوكون في مقصدي منها، لكنني ما ألفتُ أن أُتْعِبَ مُحدثي، ولا أرهق قارئي وسامعي، فليس من خطي الإغراق في التعمية حَدَّ الإغلاقِ، فإن دستوري الذي أصدر عنه جاء بلسان عربي مبين، ونحن كذلك إلى هذا النهج نميل... دعونا من هذه المقدمة ولندلف إلى موضوعنا وهَـمِّنَـا.
أنا المدعو أبو كريم عبد الفتاح... أزعم أني أملك موهبة في الأدب، لذا بحثت عن رُفْقَةٍ لي، وشَكَّلْنا قافلةً نتساند إلى بعضنا لنعبر مفازة هذه الحياة بسلام، واتخذنا لأنفسنا مقراً، نلتقي فيه كلما ساعدتنا ظروف الحياة، وقبلت أجسادنا ونفوسنا حمل هذه الرغبة.
رابطتنا مقرها في جبل الحسين، مكاناً وسطاً بين الأغنياء والفقراء، غَرْبِيِّنَا – ونعوذ بالله من الغروب – الأغنياء المترفون في جبل الحسين والشميساني وأم أذينة وعبدون، واسلك في الغرب ما تشاء... وشَرْقِيّنا مخيم الحسين للمسحوقين الساكنين في حلم العودة الذي طال انتظاره، حتى مات من مات منهم وعيونهم شاخصةٌ على خرائط معلقةٍ على جدرانٍ يغطيها الصفيح، وترعشها هباتُ الريح، وبجوار الخرائط مفاتيح قيل للأجيال التي كانت غضة: إنها لبيوتهم هناك...
وكما كنا وسطاً بين الأغنياء والفقراء، كنا وسطاً كذلك بين الطرفين الذميمين في الأفكار أيضاً... نفتح بيتنا – وقبله قلوبَنا – لكل من يأتينا، مهما كان هدفه من زيارتنا، فنحن لا نُخفي شيئاً... كوضوح الشمس مَقْصِدُنا.
كنتُ إذا حضرتُ محاضرةً أو ندوةً حرصت على الحضور مبكراً، دقيقاً في الالتزام بالموعد، وأجلس في الصف الأول لأكون أقرب إلى فم المحاضر، فلا تعزبُ عن أذني كلمة، قالوا:"الخط المستقيم أقرب مسافة بين نقطتين". ولا أحب الجلوس في الصفوف الخلفية لألف سبب وسبب، أظهرها أني لا أحب همسَ المتجاورين، ولا الوشوشةَ في الأذنين، مما يشوش عليّ متابعة تسلسل الكلام، كما أكره الزحام، وأجنبُ نفسي الكلمات الطائرة التي تجوب الجو بغير مسؤولية.
ومقعدي هذا يجنبني تشتت الرؤية، فتُراني لا أعرف من حضر ومن غاب، فهذا ليس من اهتمامي. فإذا انتهى صُلْبُ الموضوع المطروح خرجتُ، ولا أجلسُ للحوارات التي أعتبرها سبباً في وَحَرَاتِ الصدور، وبذرِ الشرور، فأنا أجنبُ سمعي أن تُلقى فيه كلمةٌ نابيةٌ تنعكسُ على مرآةِ قلبي، فتشوش عليّ خاطري، وتخرجني من أحوالي، وأنتم تعرفون أن "الأحوال مواهب وليست مكاسب" وما لم تتهيأ للحال بالاستعداد، فلن تنفعك الأموالُ ولا كثرةُ السؤال، فهو لا يُشترى ولا يُكتسب، وكل ما تملكه أن تُخْضِعَ خديك لمولاك، وتبتعد عن كل ما يغلق الطريقَ عليك، ثم ترجو وتنتظر النفحةَ... وهيهات... إن لم يرض عنك المنان الوهاب.
قلت: إن دارنا شرقيها المخيم، وغربيها المحلات الراقية، لكن شمس الضحى تعبر نوافذها فَتُطَهِّرُ مقاعد القاعة الكبيرة، وتطيب الجو، وتنير المكان... والشارعُ الذي تأتينا منه الشمسُ يفصل بيننا وبين جمعية اللد الخيرية، فهي في مرمى بصر الجالس في القاعة إن أعطى ذقنه لكتفهِ الأيمن، فَتُذَكِّرُ الجلوسَ دائماً (بالخير) وتجعلهم يطردون فكرة الشر.
نسيت أن أقول لكم إننا نلتزم بأدب استقيناه من شآبيب ديننا، فالمرأة إن صاحبتنا عرفتْ مكانها دون أن نحتاج إلى عناء الإقناع، فهي أيضاً رضعت هذا مع حليب أمها، فلما شَبَّتْ أيقنت بجدوى ذلك في حياتها، وإن كان البعض – في أماكن أخرى – يمارس الإزدواجية ولم يستقر على أرض صُلبة بعد، وهكذا النفوس تخضع للهوى المسيطر عليها أكثر، رِضَى اللهِ أم اقتناص الدنيا"ولكلٍ وجهة هو موليها".
وإذا كانت الجهة الجنوبية تدخل من نوافذها شمس الضُّحى، فإن الجدار الشمالي شُقَّتْ فيه ثلاثة أبواب، أو هكذا صارت بعدما أُزيلت الجُدُرُ بين الحجرات لتتحول إلى قاعة كبيرة للمحاضرات والندوات، والجدار الشرقي للقاعة أمسى رِدْءاً لظهر المحاضر أو المتحدث بما فيه من لوحة باسمنا فأضفت على الجدار رونقاً، وعلى المحاضر هيبةً، كما أن الجدار الغربي أمسى حامياً لظهور السيدات من أشعة شمس العصر.
وإذا كان اللون الأخضر يسُرُّ العين ويبهج القلب، إلا أنه عندي موجع لقلبي، جارح لخاطري، فقد مرَّ في حياتي موقفٌ للون الأخضر لن يذهب من خاطري ما حييت، جعلني كلما تذكرته نزف جرح قلبي، وأوجعني التَّذكُرُ، وقد صاحب ذاك الموقف بكاءٌ مُرٌّ مني أخرجني من وقار سني وقذف بي إلى مواطن البراءة الأولى، مما دعا مرافقي إلى أن يُشفق عليَّ من هذا البكاء الذي كاد أن يشق صدري، فاستمال رأسي وقد بدأ اللوم يلجلج لساني، فانبرى لسانُهُ يدافع عني، ويهون الأمر عليّ، واستقر رأسي المكدود حيث استقر بعد أن أَوْجَعْتُهُ بضربات اللوم.
أي ذكرى تلك التي يُدمي القلبَ تذكُرُها مع اللون الأخضر؟ يفرح الناس بالأخضر وكلما فرحتُ أنا عاودني البكاء والخوف، واللون الأخضر لم يُمَنِّني وحدي، بل مَنَّى الآخرين كذلك، فلما اقتربوا منه غَدَرَ بهم. عندما أُعجب صاحبي باللون الأخضر الممتد في المتنزه، وطاب لعينيه تموجُهُ، وجلس حتى غربت الشمس، قالوا لنا: عاد محمولاً وقد لدغته لادغةٌ لا يدري ما هي، من يومها لم يعد يذهب إلى هذه المساحات الرحبة من الحشيش يفترسه، رغم حاجة الحياة إلى هذه المسطحات الواسعة الخضراء... نجلس... يلعب صغارنا... نطرب... نشوي اللحم... نتسامر، لكن العاقبة دائماً هي التي تبقى في الذاكرة... ولذا قالوا: "الأعمال بخواتيمها"، ومع أن بلدية مدينة الخُور قامت برش النَّجِيلِ الأخضر بالمبيدات على إِثْرِ تلك الحادثة، إلا أنها أبادت الحشراتِ التي كانت على السطح وقت الرش، أما الوَحَراتُ التي اختبأت في الجحور، فإنها بقيت حَيَّةً، حتى إذا لَفّحتْ شمس الظُّهُور، وفَحّتْ وحْرَاتُ الصدور، خرجت تبحث عن ساذجٍ أو ساذجةٍ لم يأخذا حيطتهما لأمثالها، فأعملت فيه سُمّها، وتركته يئن ويتألم... فليس الأخضر دائماً رمزاً للخيرِ والعطاء، بل قد يكون غطاءً لأخطاء مستترة تُظهرها الطبيعة الغالبة على القلب المليء بالغيظ والغش.
رأيت فيما يرى النائم، أني في قاعة المحاضرات برابطتنا، القاعة مليئة بالحضور، غاصة بالجمهور، أخذ الرجال مقاعدهم في الأمام، والنساء في أماكنهن في الخلف، لكثرة الزحام أُغْلِقَتِ الأبواب بكراسي الجلوس، ولم يبق إلا الباب الخلفي الذي يقع بين آخر صفوف الرجال وأول صفوف النساء، والموْدي إلى الممر. انتهت المحاضرة، وكعادتي... استأذنت من المحاضر بالانصراف حتى لا أترك أثراً سيئاً في نفسه، وقمتُ أتوكأ على ساق سكنها ألم الظهر منذ سنتين فأنا أراعيها وأداريها... لما وصلتُ إلى الباب الذي أزمع الخروج منه، وإذا بحية طويلة تدخل من النافذة الجنوبية وتمتد كخشبة طويلة حتى لصقت رأسها بالجدار... كان نصف جسدها في القاعة، والنصف والذيل يتدليان في مكان آخر... منعتني من العبور... الحية كانت خضراء فسفورية الخضرة لا داكنتها!! وبحركة سريعة أمسكتُها من رأسها، وبأصبعين قويتين ضغطت على الرأسِ، ويدي اليسرى تمسك بعنقها – إن جاز التعبير – أسمع لها فحيحاً، ولكن تمكني من رأسها كان بصورة لا تمكنها أكثر من الفحيح... الرجال لا ينتبهون لما حدث لأن ظهورهم إليَّ، وعقولهم وعيونهم مشدودة إلى منصة الحديث...
من رأى المنظر؟!
الزميـلات!!
حاولت مريم الاقتراب مني فَفَحَّتْ عليها فتراجعت... قامت سُمَيَّة لتعاوني عليها فَفَحَّتْ عليها... جلستْ خائفةً، قامت إلهام لتساعدني... ففحت عليها... جلستْ... قامتْ... ترددتْ... لكنها في النهاية جلستْ... أما خديجة، فنظرتْ ولم تُحرك ساكناً – مع أنها كانت تُنَاجيني من بعيد هامسة – لكن فحيح الأفعى أخافها... فازْوَرَّت عني... لو كانت ناهدة موجودةً لما وقفت ساكنة، إنها أخت الرجال... هي الوحيدة التي تستعصي على سم العقارب وفحيح الأفاعي... لا تُلقي أذنيها لكل زَبَدٍ، ولا تُلغي عقلها من أجل أَحدٍ، لكن أين هي الآن ناهدة؟ لا تحضر إلى الرابطة إلا قليلاً... زاهدة في الظهور وسفاسف الأمور، تؤثر عملها وبيتها بوقتها، فإذا رأت ضرورة جاءت وخرجت مبكرة... صادقة في وصف نفسها "بيتوتية" حيث تكذب الأخريات في ادعاء هذا الفضل، والساحات تشهد بذلك.
ما زالت الأفعى بين أصابعي، أضغط على الرأس في تمكن، لكن فحيحها المكتوم أسمعه بين فينة وأخرى، وأرى أثره في الزميلات، فلا تتقدم واحدة منهن نحوي حتى تَفِحَّ عليها، فتزورَّ عني بوجهها، والله أعلم بما استقر في قلبها... فجأة... سمعت رنين ساعة المذياع التي تنبهني قبيل الفجر، قمت... استعذت بالله من الشيطان الرجيم، ومن شر ما رأيت، وحمدتُ الله أن لم يكن إبهام قدمي اليمنى قد ورم كثيراً معلناً عن نوبة نقرس قادمة، فهو بين أُصبعي أتحسس النار التي تخرج منه كريح سَموم قادمةٍ نحو ساقي.