بيئةُ الأعمى
هكذا في كل يوم ... مجلس عمدة الحي يستقبل جلساءه مساء ، يتحدثون في شؤون حياتهم اليومية ، ويبثون مايجدونه في يوم عملهم ، وربما يتطرقون إلى أحاديث وقصص تتناقلها الأجيال ، وكان يحضر مجلسهم الرجل الأعمى عبدالحميد الذي جاوز الخمسين عاما من عمره . فقد بصره منذ طفولته ، وكانت جلسة هادئة ممتعة ، تتخللها أحاديث جانبية ، أو ينصتون لحديث أحدهم عن أمر مـــا . وأنوار الغرفة الواسعة : ( ديوان العمدة ) تتلألأ في جنباتها ، وفجأة انقطع التيار الكربائي فأظلمت الغرفة على جلسائها ، وتأثر كلٌّ منهم بسبب انطفاء الأنوار إلا الأعمى عبدالحميد فلم يتذمر لأن رؤية الأشياء في النهار أو وضوحها إذا أشرقت أنوار المصابيح الكهربائية ... هي لمن يشاهدون بأعينهم تلك الأشياء . أما هو فلا فرق بين ليل أو نهار ، ولا بين غرفة أنوارها مشرقة أو كانت مظلمة . قال عبدالحميد لمن حوله : مابال الجالسين ؟ وماذا يجري في الغرفة ؟ قال جليسه : إن التيار الكهرباتي قد انقطع ، والغرفة أصبحت مظلمة . تبسم الأعمى عبدالحميد وقال : الحمد لله أنا لاأعاني من التيار الكهربائي انقطع أو اتصل ... ضحك جليسُه ... ومازحه قائلا : ( نيَّالك ياعم ) . ولكن قل لي ياعبدالحميد كيف تقضي احتياجاتك اليومية والضرورية ؟ مازال وجه الأعمى مشرقا بابتسامته تدل على هدوء نفسه ورضاه بما قدَّر الله له . وقال : أنا ياأخي أجلس فجرا ــ ولله الحمد ــ وأعرف مكان الوضوء في منزلي ، فأتوضأ وأرتدي ثيابي ، وأحمل عصاي ــ وهي رفيقتي التي لا أتخلَّى عنها ــ ثم أتوجه إلى المسجد المجاور لبيتنا ، لأداء الفريضة ، وعند باب المسجد لايخلو من الإخوة المصلين ، فيأخذ واحد منهم بيدي ، ويوصلني إلى مكان الصلاة ، وعودتي إلى بيتي كذهابي إلى المسجد لاأجد حرجا . قال جليسه : أمورك الأخرى ياعبدالحميد في الشارع في الأسواق في المحلات التجارية ... قال الأعمى : الكثير من الأعمال أقوم بها لمفردي ، خبرة أيام طويلة ، مع صبر ممزوج بالسكينة التي تملأ حياتي بفضل الله ، ولقد اعتدت على أداء أكثرها ، ومازلت أستمع إلى تسجيلات صوتية للقرآن الكريم ، وأحفظ الآن عشرين جزءًا ولله الحمد ، كما أستمع إلى تسجيلات للأحاديث النبوية الشريفة ، وأحفظ منها عددا لابأس به . فقدت بصرتي ولم أتجاوز الرابعة من عمري ، ولكن الله سبحانه وتعالى عوَّضني ببصيرة ثاقبة ، وبديهة حاضرة ، و وعي مميز ... الحمد لله ... الحمد لله إن البصيرة أكثر جدوى من البصر في كثير من الأمور ، وفي العديد من القيم . ومَن رُزِقَها فليس بأعمى ... قال جليسُه : والغرفة مازالت مظلمة إلا من ضوء قنديل جاء به العمدة من بيته : ياعبدالحميد إن الله سبحانه وتعالى وعد مَن فقد بصره وصبر ورضي بالجنة ،أجاب الأعمى : صدقت وإني لأحفظ هذا الحديث الذي رواه أنس بن مالك رضي الله عنه قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم يقولُ: إنَّ اللَّه تعالى قَالَ:(إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبدِي بحبيبتَيْهِ فَصبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجنَّةَ يُريدُ عينيْه) رواه البخاريُّ. قال جليسه : ماشاء الله ، تبارك الله تحفظ الحديث ورواته ، قال الأعمى : أجل فقد كنت أحضر دروس الشيخ في المسجد يوميا بعد صلاة العصر ولا أزال ، وكثيرا ماكان يحدثنا عن الصبر على البلاء ، وكانوا يوزعون علينا بعض الأشرطة ، أستمع إليها يوميا في البيت ، وفيها أحاديث جليلة عن رسولنا صلى الله عليه وسلم تشجع على الصبر وعلى أن يرضى العبدُ بما قدَّر الله عليه . ثم قال الأعمى أشعر كأن الغرفة مازالت في ظلام ، قال جليسُه : نعم . قال الأعمى أُسمعُك حديثا حفظتُه منذ أيام قريبة ، عنْ عطاءِ بْن أَبي رَباحٍ قالَ: قالَ لِي ابْنُ عبَّاسٍ رضي اللَّهُ عنهُمَا ألاَ أريكَ امْرَأَةً مِن أَهْلِ الجَنَّة؟ فَقُلت: بلَى، قَالَ: هذِهِ المْرأَةُ السوْداءُ أَتَتِ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقالَتْ: إِنِّي أُصْرَعُ، وإِنِّي أَتكَشَّفُ، فَادْعُ اللَّه تَعَالَى لِي قَالَ : إِن شئْتِ صَبَرْتِ ولكِ الْجنَّةُ، وإِنْ شِئْتِ دعَوْتُ اللَّه تَعالَى أَنْ يُعافِيَكِ ) . فقَالتْ: أَصْبرُ، فَقالت: إِنِّي أَتَكشَّفُ، فَادْعُ اللَّه أَنْ لا أَتكشَّفَ، فَدَعَا لَهَا. متَّفقٌ عليْهِ. ردَّ عليه جليسًه قائلا : ماشاء الله ... تبارك الله ، على دقة هذا الحفظ وحسن اللفظ . ياعبدالحميد الجزاء يوم القيامة على عِظَمِ المصسية والصبر على لأوائها ، وإن الله وهب المبتلى الصَّبرَ ــ كما قلتَ ــ بصيرةً نافذةً ووعيا يتلمس من خلاله الكثير الكثير ... أجاب الأعمى : إني ولله الحمد لذو بصيرة نافذة أتذكر من خلالها الأمور التي تخص حياتي وبيئتي التي أعيش فيها ، ووهبني ربي حِسًّا مرهفا وقوةَ إدراك ، أعرف من خلالها مَن أقابل ، أولادي يأتون يسلمون علي ، وبمجرد ملامسة أيديهم بالمصافحة أميز بينهم ، يقبِّل رأسي ولدي أحمد ويصافحني فأقول له : أهلا يا أحمد ، وكذلك بقية أولادي وبناتي . فالحمد لله على فضله وتوفيقه ، أمس قمتُ بإصلاح مواسير الماء والحنفيات في بيتي ، وجاءت على أجمل حال من الأداء ، فأقسمت زوجتي بأني أتقنت العمل على الوجه الأكمل . قلت لهـا : تقولين ذلك تشجيعا لي وجبرا لخاطري ، فشكرا لك . أجابت لا . والله إنها الحقيقة ، إنها يدك المباركة يا أبا صالح . لقد برَّتْ زوجتك بقسمها ، فهناك الكثير ... الكثير ممَّن فقدوا بصرهم ، ولكنهم أبدعوا ، فهناك العلماء والمفكرون والأدباء وغيرهم سبقوا مَن يبصرون . ولكن قل لي ياعبدالحميد لو سألك أحد عن نصيحة تسديها للناس بعد حياتك الحافلة بالصبر الجميل ، والأداء الحسن ، والنفس المطمئنة بما قدَّره الله عليها . فماذا تقول ؟ أقول ، قاطعه جليسه : دعنا نستأذن العمدة لتقول كلمتك لكل مَن في المجلس . والتفت إلى العمدة وأشعره أن لدى الأخ عبدالحميد نصيحة يود أن يلقيها على مسامع الإخوة الحاضين . قال العمدة : تفضل ياشيخ عبدالحميد ، فأنت مَن تجالس العلماء وتحفظ القرآن الكريم والأحاديث الشريفة ، ولك خبرتُك في الحياة . تفضل ... تفضل . اعتدل عبدالحميد في جلسته وبدأ بالبسملة ، وحمد الله وأثنى عليه ، وصلى وسلم على نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : لستُ أهلا لأتحدث إليكم فما أنا بعالم ولا مفكر ، ولكنها نصيحة ربما تخطر على بال كل إنسان . الذي يصاب بمصيبة كبيرة أو صغيرة عليه أن يحسن الظن بالله ، ويثق برحمته ومعونته وتوفيقه ، وأن يهوِّن المصيبة على نفسه ، وعلى مَن يعول . بل يجعلها نعمة من نعم الله إذا أحسن استقبالها ، وعلم نتائجها ومثوبتها عند الله ، الدنيا ماهي إلا ساعة بالنسبة للآخرة ، فالخلود في دار الخلود ، وكلنا راحلون . وأذكِّر إخواني المصابين بالعمى أن الله أكرمهم بنعمة البصيرة التي هي أجدى لهم من نعمة البصر في كثير من الأمور . المبصر معرض للنظر إلى ماحرم الله ، وهو يجر صاحبه إلى الموبقات والمآثم والشرور . وفتن الحياة أكثرها من النظر . وأهل الصبر على المصائب الجسدية ما عين رأت ولا أذُن سمعت ولا خطر على قلب بشر . إنها الجنة ... جنَّةُ الخلد التي أعدها الله لعباده الصَّابرين . وهنا شاء الله أن يعود التيار الكهربائي لتعود الأنوار . وشكر الحاضرون الأعمى عبدالحميد على نصيحته الغالية ، التي أغنت مجلسهم بقيم جليلة يفتقر إليها الكثير من الناس.
وسوم: العدد 900