زينة

-ألو كيف حالك يا خوي؟

- أهلا إسماعيل طمنا عنك

- أنا بخير وأريد أن أعمل معك مقابلة صحفية

-والله يا إسماعيل أنا مشغول، وأنت انتبه لنفسك كثيرا؛ فبعد تغطيتك لحدث استشهاد القائد إسماعيل هنية في بيته المدمر بمخيم الشاطئ يمكن أن تكون مستهدفاً!

- الأمان بالله يا خُويا، وإحنا مشاريع شهادة، وقد رحل أخونا شهيداً قبل شهر، وكذلك أبونا، ونحن على الطريق وراءهم متقفُّون.

- سأحاول الاتصال بك بعد ساعة بعد أن أنهي أعمالي.

- مع السلامة من غدر حفدة القردة والخنازير.

*******

وفجأة رن تلفون هاتفه وإذ بصوت مشؤوم يتكلم العربية بركاكة ممجوجة؛ فعلم انهم العدو؛ فقال بنبرة استعلائية:

-لقد أشرفنا على الانتهاء، وسنعود بعد نصف ساعة، هل من أمر آخر؟!

- يجب أن تغادرا الآن، وإلا!!

- وإلا ماذا أيها الجبان الرعديد المأفون؟

-ماذا تقول أيها المخرب الفلسطيني الحقير؟

-أقول ما سمعت؛ فلن نتحرك حتى ننهي عملنا المقدس!

-أنتم تقومون بعمل منجس، ونخن نحميكم أيها السفلة.....

- ....وأغلق إسماعيل الخط بوجهه، ثم التفت إلى زميله المصور ( رامي الريفي ) قائلاً ماذا تقول يا صاحبي؟

- فقال وهو يربت على كتف زميل درب الشهادة: لقد انتهى جُلُّ عملنا، فلنغادر، وما في ذلكم أي انصياع لهم.

-فأومأ إسماعيل برأسه موافقاً ... ثم امتطيا سيارة قناة الجزيرة الفضائية، ثم قال له ألسنا بعمر السابعة والعشرين معاً؟ ونحن نعمل معا في تغطية اللون الأحمر منذ ثمانية شهور سوداء؟! فلعلنا ننال الشهادة معاً... يا صُويحبي!!

   كان زميله المصور رامي يقود السيارة عبر الطريق المكسرة بفعل الحرب المجنونة التي مضى عليها زهاء ثلاثمئة يوم مرٍّ، وكانت القذائف تتهاوى على جانبي الطريق من هنا وهناك، وما عاد أهل غزة يفزعون لمرآها؛ فهم يرونها كما يرى الناس العصافير تتنقل في الجو!

   فتح إسماعيل الغول على قائمة الصور والفيديوهات في تلفونه الخليوي وراح يتفحص صورة صغيرته التي غادرها قبل عشرة أشهر مع أمها، وكانت رضيعة ... كانت يومها تدرج زاحفة واليوم صارت تركض ركضاً، ولكنه لمدة عشر أشهر لم يرَ عياناً تلكم التطورات الحبيبة. كم مرة أرسلت له عبر تلفون أمها نداءات عودة؟ ولكنه تركهما في محافظة في وسط القطاع، ولا يسطع النزول إليهما من أعلى الشمال فالسبل مقطعة، وعمله في الصحافة يستنزف كل وقته وجهده ... ثم برز له عبر الشاشة صوت الحبيبة "زينة" وهي تناديه مقلِّبة صوره في الهاتف: بابا ... بابا ... بابا ... التفت إليه رامي فرآه يحبس دمعتين حارتين، فمسح إحداهما بيده اليمنى، ثم ربَّت على كتفه قائلاً: لعلك تراها قريباً يا صاحبي! فقاطعه إسماعيل: لكني أشتم ريج الشهادة من قريب يا رامي.... وما أظن هذا الأفين إلا أنه يعد لنا كميناً عبر زنَّانة لئيمة صهيونيَّة قتَّالة.

     كانت الزنَّانات الصهيونية اللئيمات تتنزه فوقهم، وفي كثير من الأحايين تقوم بعمليات استخبارية، وبعضها يقوم بعمليات قتليِّة جنكيزيَّة بشعة. كان الصديقان الصحفي والمصور يتجاذبان أطراف الأحاديث عن أهليهما وأولادهما... وبينا كانا منهمكين يتحدثان إذ بصاروخ من إحدى الزنَّانات الكاشحة يفصل رأس إسماعيل عن جسده ويحيل صاحبه رامي إلى مِزع؛ كل شِلو نافرٌ عن أخيه.

   وهُرع الناس الذين كانوا على جادة الطريق، وأخرجاهما من السيارة المتفحمة، وعلى قارعة الطريق طفل في الساسة عشرة من عمره رافقهم إلى جنات عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين.

   هذا الولد كانت أمه قد أرسلته بماعون طعام لمسنٍّ يخدم ابنه الجريح في تلكمُ المنطقة، ولكن الجنة اعترضت طريقهم، وأُزلفت للذين يجاهدون في سبيل الله.

   استشهد إسماعيل هنية أبو العبد؛ فذهب إسماعيل الغول ليعمل تقريرا صحفياً من بيته المدمر في مخيم الشاطئ، فدمره صاروخ صهيوأمريكي وهو قافلٌ؛ وهو يحلم برؤية ابنته الوحيدة "زينة"؛ زينة الحياة الدنيا ... ولكنَّ زينة الحياة الأخرى كانت أجمل، وأقرب.

     لم يرعوِ جنود فرعونِ إسرائيل؛ النتن ياهو، فأعلنوا بكل صلافة وتنمر أنهم استهدفوا الصحفي وزميله المصور بشكل مقصود ... ولا غَرَوَ فيما يفعلون؛ فهم قتلة الأنبياء: "إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21)"/ آل عمران

ومما أُثر عن الغول قبل استشهاده للسماوات العلا قبل شهر: " وقال الغول في منشور كتبه نهاية حزيران/ يونيو الماضي، إن ابنته التي كانت لا تزال رضيعة مع مطلع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في السابع من تشرين أول/ أكتوبر الماضي، كبرت بعيدا عن أعينه، ولم يرها منذ شهور ، وتحدث الغول (27 عاما) في منشوره الحزين عن ابنته البكر والوحيدة "زينة"، التي ولدت قبل أقل من عام على الحرب، وكان متعلقا بها بشدة، إلا أن ظروف العدوان أجبرته على الابتعاد عنها بشكل كامل.

يقول الأب الشهيد:

وكبرت زينة، زينة الحياة والقلب"

في بداية الحرب ومنذ اليوم الأول نزحت ابنتي زينة ووالدتها قصرا بعد قصف البناية التي نتواجد بها، لم ألتق بهم منذ ذلك اليوم، وكانت قد بدأت تدرك من هم حولها، كانت تعانقني هي البكر وطفلتي الأولى، كنت فرحًا بها كثيرا في تلك اللحظات، بدأت أحبها على مشارف العام.

في تلك الأيام كانت تحبو وتزحف وتنطق بعض الحروف من كلمة بابا، لكنها كانت تلفتني بحركاتها، كنت سعيدا في كل لحظة تكبر بها زينة أمام عيني، وجمعيكم يعلم جمال البيت حين تتواجد فيه طفلة

مع الحرب، بدأ الحزن يجتاح قلبي، زينة بعدت وسط أجواء من الخوف والرعب من سيعيش أو من سيبقى مشاعر متضاربة كعدد الغارات الجنونية التي تسقط في كل لحظة، لم يكن التواصل مع زوجتي كأي تواصل، فهي تعاني كغيرها، لا يوجد كهرباء لا يوجد في الهاتف شحنات، الاتصالات مقطوعة في منطقة السكن بسبب تدمير قوات الاحتلال الشبكة

انقطع الاتصال مع زوجتي 3 أشهر، وفي كل لحظة القلب والعقل ليس في مكانهما، هما حيث تتواجد زينة وأمها، في كل غــارة تسقط هناك أجرى اتصالات لمن الغارة، أترقب كل خبر حتى أطمئن، هذه الأيام ليست كأي يوم، كل يوم يساوي سنة

قسوة الظروف كانت أشد من كل المشاعر، لكن نحن بشر، اجتمع النزوح والجوع، والقصـ ف، وأهمية الرسالة وواجب تأديتها في التغطية، ما لبثت زينة حتى بدأت تنادي خلال مشاهدتها لي على الشاشة بكلمة "بابا" عرفتني، عرفت من أكون، الشعور كان رائع، لكنه لم يستمر!

طالت الأيام هذه 9 شهور، بدأت زينة تركض، تتكلم، تسأل، تعرف كل شيء، تسأل وين بابا، صعب الشعور أن زينة بعيدة عني، تكبر دون أن أراها!!

......لكن العزاء أننا تركنا كل شيء في سبيل هذا الطريق وهذه الرسالة، ولعل الله يعيد لنا الأمان، وتعود زينة، ويعود كل غائب، ويلتقي الأحبة" .... ولكن اللقاء الأحب الأسرع كان مع الأحبة؛ محمدٍ وصحبه!!

وسوم: العدد 1090