البَهَّار

تتقدم القوات الغازية الصهيونية إلى حيِّ الشَّجاعيَّة بغزَّة بكل عتادها المتقدم تكنولوجيا، وينزو الجيش اليهودي التوراتي بقضِّه وقضيضة على حواري الشجاعية المتهدمة وإسفلتها المتآكل، ومآذنها التي تندب مذ غزا هاجانا اليهود وسفارديمهم، "وحريديمهم اللامتأهيون للقتال" .... وهتكوا قدسيتها؛ وعفروا عذريتها بمجونهم وساديتهم.

أما "محمد" ابن الشجاعية؛ ابن الخمس وعشرين سنة فقد قررت عائلته ألا تتزحزح قيد أنملة عن تُرب الشجاعية الطهور، فبقوا منذ الهولوكوست الصهيوني في الثامن من أكتوبر منزرعين في رمال غزة الثمين. محمد شاب ابتلاه الله تعالى بمتلازمة داون، ثم بمرض التوحد المخيف؛ وهو محبب لحي الشجاعية، ويعرفه أهل مساجدها وحاراتها؛ وكثيرا ما كانوا يوْكلون له قضاء بعض حاجياتهم البسيطة، تكريما له، وتشجيعا على حياة اجتماعية كريمة له.

لكنه هذه المرة كان مستهدفا من قبل هتلرية اليهود المزمنة؛ فبعد أن أجبروا أفراد أسرته على الدخول إلى غرفة من غُرفات منزلهم الآيلة جدرانه للسقوط تحت تهديد السلاح والسباب، ظل "محمد بهَّار" في بهو المنزل، وبرفقة زيانبة الصهاينة كلبهم- غير باسط ذراعيه بوصيد الباب- بل ظلَّ متربصاً بالفتى المبروك. ومحمد ببلهنية قلبه الأبيض الشفاف راح يداعب شعر الكلب المسعور؛ إلا إن الكلب المتصهين قد انقضَّ على الفتى المِراض، وراح ينهش ما دون لحمه وعظمه في ذراعه وصدره.

-تنادي الأم من وراء الباب: هاتوا لنا محمداً؛ لمَ حجزتموه في صالون البيت؟!

-فيجيبها جلاوزة بنغفير: هو بخير .... لا تخافي ولا تحزني

-ولكن صوته المكبوت وأنينه يشي بأنه مصاب إصابة بالغة؟!

- لا ... لا يا أم مخمد ؛ فهو يتخسن وقد استدعينا له طبيبا عسكريا!

-وبعد ساعة صرخت أم محمد بوجه هولاكهم المدجج بالسلاح: شو صار بمحمد؟ ابني حبيبي، ردَّ علي أيها الجبان العلج؟!!

-فيرد جنكيز خانهم وهو يضحك ضحكات السكارى المعتوهين: خلص ما في مخمد ... مخمد بحْ .... مخمد راخ على جهنم..... محمد مات ... خلَّف بنات ... ثم يطلق سُكارى الجيش الإسرائيلي العفن ضحكات تشبه صوت مدفع حجري قديم!

لقد ادعى اليهود المكارون ذوو المكر الكبَّار أنهم قد استدعوا طبيبا ليداوي جراحات الفتى محمد البهار؛ النازف دماً وبراءة؛ فلا يدري الناس أهو الطبيب الذي تسبب في مقتله أم الكلب ... أم سعار الصهيونية المتأجج في دماء أجناد يهود .... أم الطبيب الدجال الذي ترك محمد البهار وراءه ينزف حباً؛ بدعوى أن صاروخاً قسَّاميَّا قد أصاب جنودهم الملاعين في دبابة، فهُرع الطبيب الممثل على مسارح تل أبيب الدمويَّة إلى مكان الحادث ليداوي غِلَّهم المتنامي، وكشوحهم المتضرِّمة؛ والشمي ترقب من علٍ أحداث غزة اللاهبة؛ وهي تكاد تميَّز من الكشوح؟!

وبعد ساعات من الحرب النازية على الشجاعية النازفة ألماً وحنيَّة .... وعلى منيزل آل بهار، تنسحب القوات الغازية الهمجية من الشجاعية ومن منزلهم الدامي؛ ليرى الناس القافلون إلى منازلهم ما تركه هذا الجيش البربري من مآسٍ: جثث في الشوارع .... وبِنية تحتية غارت إلى الأَرضين السابعة عشرة .... ودماء تسقي تراب الشجاعية المقدس ... وما أن ولجت أم محمد بهار إلى بهو منزلها حتى اشتمَّت رائحة عود وعنبر؛ فاكْتَنه قلبها أنه جسد ابنها الحبيب وقد ظل ينزف ثمانية ساعات وسبع دقائق حسوماً، بعد أن تركه لقطاء الصهيونية يتلوَّى وداعة وتبسماً.

لقد "صفرنت" الأم؛ إذ لم تسطع معاينة هذا المشهد المروع الوحشي، إلى أن صبوا عليها بعض ماء، ففرفحت كدجاجة ذبيحة، ثم انكبت على جسد ابنه الذي تشع منه رائحة مسك تفسخٍ محببة، ووقفت عصفورة حزينة على أسلاك الكهرباء ترقب المشهد الدراماتيكي بحَزَن عميق، وتطلق صافرة إنذار من زقزقاتها الشجية الحزنى؛ وكأنَّها تؤبِّنُ الشهيد المبروك الملائكيَّ!

اجتمع أبناء الشجاعية فغسَّلوا جسد محمد البريء الطاهر، ثم كفنوه بالعلم الفلسطيني، ووضعوا عليه إكليلا من الغار، وفي مسجد حارتهم المتهدم الذي لم يبقَ منه إلا بعض أطلال، وشيء من نُؤىً وأثافيَّ، صلوا عليه، ثم واروه الثرى في حديقة المسجد، فكل المقابر قد هُدِّمت، وجُلُّ المساكن تقف على رجل واحدة؛ منها قائمٌ وحصيدٌ!!

... وبعد أسبوع قرأت أم محمد البهَّار من موقع إخباري يهودي قصة ابنها الشهيد وقد كتبها الصحفي "جدعون ليفي"، ونشرتها صحيفة يديعوت أحرنوت، وكثيرٍ من المواقع الإخبارية؛ فصفرنت ثانية وثالثة ... ثم حوقلت وتبسمت لأشعة ذُكاء التي كانت تنشر تغيظها في يوم صيفي تموزي قائظ؛ حزينة على رحيل "البهَّار" الذي كان يحبها وتحبه، وسلَّمت الأم أمر ابنها الشهيد الداونيِّ .... وأمرها، وأمر فلسطين إلى من برأ السماوات والأرضين، بقولها متصبرة محتسبة: " الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ".... ونظرت الأم المكلومة إلى السماء الزرقاء السابعة فتخيلت أن جبريل – عليه السلام والصلاة – ينعى ابنها المبروك الشهيد للملأ الأعلى، وملائك السماء تتخطف الروح الشفيف لتكرمها في أعالي عليين!

لم يكُ الدم الذي كان على قميص محمد البهَّار دماً كذِباً، بل كان حقيقياً من مسك وعنبر، ولم يأكله ذئب أولاد يعقوب، بل أكله كلب من كلاب بني إسرائيل الهتلريُّون .... فيما كان النتن - ياهو ينبح في "الكونجرس"، وخراف الكونجرس تصفق له طرباً على أنغام حَيْن الطفل الفلسطيني المذبوح من الوريد إلى الوريد ..... وسفاح الشام يعوي في "الكريملين" مستجدياً مزيداً من البارود ليجهز على ما تبقى من سُنَّة؛ وكلاهما وجهان لعملة إجرامية واحدة، وكلا الأخوين ( .... ) ولكنْ، شهاب الدين (.....) من أخيه!!

وطيوف "محمد الدَّاونيِّ" تصرخ في وجوه عُرْبٍ سامدةٍ مستعربة:

مالي أراكمْ نيَامَاً في بُلَهْنِيَةٍ       وقد ترونَ شهَابَ الحربِ قد سَطَعَا؟!

ولم يكُ يعرف "محمد البهار" أن قائل هذا البيت هو "لقيط بن يعمر الإيادي"، ولا حتى أبوه وجدُّه لم يعرفا، ولكن لقيطاً أدرك نية كسرى المبطنة الخبيثة في غزو قومه الإياديين؛ فوجَّه إليهم رسالته الشعرية المحذرة الخالدة، أما أباطرة العرب فيستدعون أكاسرة العدو لغزوا بلادهم!!

وفي المساء كان صوت التسجيل في دار عرس الشهيد محمد البهار الداوني يصدح بآيات من سورة آل عمران:(وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ۝ فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ۝ يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ ۝ الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ ۝ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ۝ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ ۝ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ)/ آل عمران:169- 175

وسوم: العدد 1089