ذاكرة المستقبل

ياسمينة دمشقية

بعد جدال طويل هدأ الجميع و هدأت أنا "من داخلي و من خارجي "

و ذهبت نحو غرفتي فتحت النافذة و نظرت الى السماء نعم انها تلك السماء ذاتها في وطني وهنا ,رميت نظرة في الافق و جريت خلفها و حلقت نحو الوطن نحو الوطن...وطن المكان ووطن الزمان ....

فاما المكان فقبالة جامع عبد الله بن عمر و اما الزمان فالساعة الحادية عشر يوم السبت 

رأيت شابة في الثلاثين فن العمر و حولها فتيات في مثل سني نظرت اليها من بعيد منتظرة ان تذهب كل بنت في طريقها لاذهب اليها و احدثها 

افترقت الفتيات و بدل ان تذهب هي ايضا في طريقها اذا هي تعود الى المسجد ثانية 

تبعتها و جلست في مكان اراها و لا تراني و اسمعها و هي لا تحس بوجودي جلستْ في صدر المسجد و فتحتْ مصحفا و بدأتْ تتلو آيات من كتاب الله سمعتُ تلاوتها نعم انها مألوفة لي هي تشبه تلاوة آنستي أميرة و آنساتي هالة و غيداء

شرعت تقرأ و تتلو ((و يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي))

فقالت بصوت خفيض رباه يا من جعلت روحي من امرك قدّر لها الخير و السعادة و البشر في الدنيا و الآخرة و لا تجعلها تضيق بما ليس لها 

و تابعت ((و ما أوتيتم من العلم الا قليلا ))

أعادتها سبع مرات ثم قالت و هي تكتم دمعا :اللهم ما آتيتني من علم فهو الذي اعلمه يا رب و ما هو الا قليل اللهم اني اسألك به خشيتك و الطمع فيما عندك و معرفك كي اعبك كما ينبغي على الوجه الذي ينبغي.

ثم تابعت ((و لئن شئنا لنذهبن بالذي اوحينا اليك و تجد لك به علينا وكيلا ))

فانحدرت على خدّيها دمعتان جميلتان كعينيها و قالت :علمتني القرآن حفظتني القرآن و ان شئت انسيتنيه

و استمرت تقرأ :((إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرأ ))

عندئذٍٍ اجهشت تبكي و تقول يا رب فضلك كبير يارب رحمتك لا تنتهي يا رب مالي غيرك آمنت بك إيمان معترف بنعمك شاكر لها 

فقلت في نفسي : لعمري ان هذه الشابة لعالمة بالقرآن فاهمة له و انتظرت حتى هدأ روعها فاقتربت منها 

اغلقتْ المصحف ونظرتْ اليّ و قالت : مرحبا بك اخيّة لكنّ درس اليوم قد انتهى 

فقلتُ اعلم انا جئتُ كي اراكِ انتِ قالتْ مرحباً بك اذن اجلسي ثم قولي لي ما عندك

قلت : أطالبة علم شرعي انت ؟

قالت : نعم بحمد الله طلبته و مازلت اطلبه. 

قلت : اذن تدرسين في كلية الشريعة ؟

قالت : لا 

قلت اذن تدرسين الادب العربي ؟

قالت : احبه جدا, لكن لا. 

قلت : فالحقوق؟

قالت :لا 

قلت اذن ؟؟!!

قالت: أراك عجزتِ عن التفرّس فيّ

قلت: رحمك الله نعم 

قالت : لا بأس عليك فلست الأولى .

عندما كنت في سنك كنت متفوقة في دراستي مبدعة في كل المواد الدراسية و هذا جعلني احتار عندما كان عليّ ان اقرر اي اختصاص ادرس 

و وجدت نفسي بعد نهاية المرحلة الثانوية بمعدل عالٍ و احلام كثيرة و حيرة كبيرة 

فكنت احب ان ادرس الحقوق لكن عمتي -التي كانت درسته - نصحتني الاّ افعل فلا مستقبل لي معه كأنثى.

و شجعتني امي على ان ادرس الادب العربي او الصيدلة 

اما والدي فقد ارادني ان ادرس طب الاسنان 

و مع ذلك فقد كنت افاجئ الجميع عندما يسالني احد الاقارب او المعارف في المحافل العائلية عن رغبتي في اي اختصاص هي ؟بقولي "الطب البشري" 

و حاول والداي اقناعي بترك هذه الرغبة لطول طريقها و صعوبة المسير فيه 

لكنني عاهدت ربي لئن رزقني درجة الطب البشري -او معدله- لادخلنّ كليته و لادرسنّه لعلي فقط ادخل في قوله تعالى ((و من احياها فكأنما احيا الناس جميعا)) 

و احتفظت مع ذلك بهواي للعربية و عشقي للعلوم الشرعية 

قلت: اذن درست الطب ؟؟ قالت:عسى اني كنت كذلك.

ثم قالت : و لكن لم سألت عن هذا ؟؟

قلتْ رأيتُ من فصاحتك عجيباً و من علمك بالقرآن غزيراً فقلت ما علّم هذه هذا؟؟

ثم قلتُ : أ تعرفين الآنسة أميرة ؟؟

فخبات وجهها بكفيها و ضحكت ضحكة خجولة فعلمت لما رأيت هذه الضحكة أنها لن تجيبني قطعاً و إن كنت حصلت على الإجابة من ضحكتها...

و قالت : لم تسالين؟؟

قلت :انت لم لا تجيبين ؟؟ ذكرتني تلاوتك بتلاوتها. 

فقالت و هي تضحك ضحكة اخرى كالتي سبقتها : حقا !!عسى انها كذلك... عسى انها كذلك... 

فقلت في قلبي: إيييه.... آه من الحب كيف انه لا يموت!!!

قلت لها أوصني قالت : ثلاث لا تنسيها و كلما خلت بك نفسك أذكريها ,وكيل المؤمن ربه ,ربيع قلبه قرآنه و حياته آخرته.

عندئذٍ علمت انها ذات حجة وبرهان لا يغلبها حديث و لا يعجزها لسان 

فقلت : أخبريني بحلمك 

قالت : حلم؟؟ أنا تربيت على الاّ اكون كغيري أنا لي سبعة احلام عاهدت الله عهدا لا انقضه ,ألاّ أُخبِر بها احداً الاّ في الجنة

قلت : عسى ان تخبريني اياها في الجنة قالت: ان شاء الله

و بينما نحن نتحدث إذْ دخلت علينا من باب المسجد شابة في مثل عمر صاحبتنا فامتلأ وجهها بشرا لما رأتها و قالت : جيد انك ما زلت تنتظرين .

فأجابتها : ما كنت لأترك المسجد حتى تأتي لا حباً لك و لكن ما كنتُ لاترك مجلس ذكر اقعدني الله فيه حتى اقضي ما جلست له 

فدعتني أنْ تعالي اجلسي معنا 

قالت : اتحفظين سورة الانعام ؟ قلت :نعم 

قالت جيد فبدأت أولاهما تقرا من قوله تعالى ((و هو الذي يتوفاكم بالليل و يعلم ما جرحتم بالنهار ))

و قرات خمس آيات ثم اتمت الاخرى و هكذا كل واحدة تقرأخمس آيات وتتم اختها و كلما وقفتْ إحداهما على آية نسيت معناها سألت الاخرى حتى وصلتا قوله تعالى ((لهم دار السلام عند ربهم و هو وليهم بما كانوا يعملون فما وقفت إحداهما عجزاً عن إتمام و لا زادت ولا انقصت حرفا و لا اخطأت في حرف 

ثم قالت لي : اكملي 

فبدأت أقرا فتلعثمت و أخطات و زدت و انقصت ثم وقفت و ما عدت اعلم كيف أُكمل 

قالت: ما هذا أهذا حفظ ؟؟!!

راجعي كثيرا و اعيدي مرارا فحفظك ليس حفظا تلقين به الله 

قلت في خجل من نفسي: ان شاء الله

ثم قالت : هيا يا هبة فقد تاخرنا 

فقامتا و تبعتُ صاحبتي فخرجتُ معها و ذهبتُ معها الى منزلها 

دخلتْ البيت و سلمتْ على امها و أسرعتْ نحو المطبخ لتساعدها و بعد ان تناول الجميع غداءهم ذهبت نحو غرفتها فتبعتها و دخلت فاذا هي غارقة بين ثلاثة كتب تقرأ من هذا و هذا و هذا فجعلت احدثها و لا تجيب كانها لا تسمع و بعد ان انهيت حديثي و صمتُّ 

قالت : ها؟ ما قلت ِ ؟ 

قلت: لها لا شيء ماذا تدرسين ؟؟

قالت : انه امتحان الاختصاص لقد اقترب و علي ان استعد 

قلت : جيد 

ثم نظرت في أرجاء الغرفة فإذا هي مليئة بأشياء تذكارية تعبق برائحة الحب و الصداقة و المشاعر الجميلة و وقعت عيني على التسريخة فإذا عليها صندوق خشبي مزركش فمددت يدي لافتحه 

فإذا بها تصرخ بي :لا , لا تفتحيه!! فأحجمتُ و ابتعدتُ .

قالت : انه ذكرى من شخص غالٍ و ما كان لكل احد ان يراها 

ثم رنت ساعة في جانب الغرفة معلنة انها الرابعة و نصف فنهضتْ و استعدتْ للخروج 

قلت : الى اين ؟؟

قالت: الى عيادتي 

قلت: و هل لك عيادة ؟

قالت: نعم بالتاكيد 

و سرنا معا في احد الشوارع انه الشارع العام اني اعرفه و لكن ابنيته تغيرت كثيرا 

و دخلنا الحارات حتى وصلنا شارع الاوقاف قلت هذه عيادتك؟؟

قالت نعم و انارتْ لوحة اضاءة كتب عليها الدكتورة نهى حجازي 

فقلت بانبهار : يا لها من لوحة جميلة !!

دخلت و شرعت تعالج من ياتيها و بينما هي كذلك اذا بالفضول يشدني لانظر الى اوراق كانت على مكتبها فاذا هي سلسلة من المقالات و الخواطر بعنوان "الطب في عين طبيبة "

قرأت منها فاعجبني الاسلوب وادهشني سبك العبارات 

قلت : هذا من كتابتكِ ؟ 

قالت: نعم إنه كتاب سيصدر قريباً 

و عندما اشارت الساعة الى الثامنة و نصف صلينا العشاء و خرجنا قافلين نحو المنزل

و مررنا بشوارع وحارات اختلط هواءها بعبير الياسمين و زيزفون

و بينما نحن نمشي قلت لها : جميلة هي حياتك. 

قالت: نعم .

قلت : ولكنّها متعبة. 

قالت : سأستريح طويلا في قبري و لكنني اتمنى لو كنتُ املكُ وقتا اكثر لو كان يومي ستا و عشرين ساعة لملاتها كلها 

اتمنى لو انكِ تسلفينني بعض وقتك .

قلت : و كيف لي ذلك هذا مستحيل!!

قالت : لا, إنْ انتِ اغتنمتِ وقتكِ و عملتِ بجدٍ و درستِ و تعلمتِ فسوف تمنحينني الكثير 

قلت: انت تعنين ان اتوقف عن الحلم و انهض لافعل شيئا مفيدا لانك لا تريدين ان تستقبليني على العشاء الليلة.

قالت: هذا ما عنيته تماماً.

فضحكنا معا في ذلك الزقاق الطويل ضحكة اسمعت النجوم .

ثمّ أسدلتُ جفنيّ على عينيّ و قلتْ : آه منك يا نهى ما ابعد أحلامكِ و ما أكثر أمانيكِ !!!

ألا تطلبين شيئاً سهل المنال فتريحين و تستريحين !!

فأجابتني نفسي بعنفً : يا خوّارة ...

على قدر اهل العزم تاتي العزائم.