دجاجات أم هاشم

حسين راتب أبو نبعة

حسين راتب أبو نبعة

[email protected]

جامعة الملك عبد العزيز

كلية المعلمين بمحافظة جدة

أم العبد سيدة فاضلة في العقد الرابع  ، تعيش في بيت متواضع في حي شعبي  لم تألفه  يوماً- غير أن  تعثر ظروف زوجها المعيشية  اضطرته  لقبول  في سكن  كهذا. و حتى تتغلب على مصاعب الحياة اضطرت أم العبد  لتشغل نفسها في  بيع بعض الهدايا و الأدوات المنزلية و أدوات التجميل لنساء الحارة و خصصت  الجناح الغربي من المنزل و جعلت  هناك  باباً خارجياً لسهولة وصول الزبائن و خروجهم دون إزعاج أطفالها. بدأت الأحوال  تتحسن تدريجياً مع توفر بعض السيولة، غير أن  شيئاً ما كان يؤرقها ، فقد كانت نظرات الحاسدين تلاحقها .صارت هي و زوجها في حالة جزع و قلق من عيون الحساد فلجأوا إلى الأدعية و ما تيسر من أحاديث  و آيات حفظوها و علقت خرزات زرقاء  في رقاب  أبنائها الصغار. لم يكن ثمة شئ آخر ينغص عليها حياها سيما و أنها كانت قانعة  راضية بما من عليها الله  من رزق.

ذات صباح مزق الهدوء  صياح ديك قادم من الجهة الغربية من الجدار حيث جارتها " أم هاشم"، قامت فزعة و استعانت بذكر الله ثم تمتمت ببعض الأدعية و أدت صلاة الفجر ثم  قضت قسطاً من الراحة في التسبيح و التهليل  و التعوذ من  الشيطان، و دعت الله أن يفتح لها أبواب الرزق.صياح الديك أثار في أم العبد شيئاً من الفضول و كثيرا من الإزعاج..ففي الأسابيع اللاحقة لاحظت بناء قن دجاج فوق سطوح الجارة كمقر دائم لعدد من الدجاجات التي تكاثرت أعدادها دون سابق  إنذار حتى ضاق بها القن فبدأ الشجار بين الديوك المتنافسة و الدجاجات. لاحظت أم العبد أوساخاً بدأت  تتراكم على الجدار  و لم تكن الجارة صاحبة الدجاجات  راغبة في تنظيف  مخلفات  دجاجاتها إذ لم يكن  عندها متسع من الوقت لتنظيف  ملابسها البالية! أو الاعتناء بأولادها المتناثرين على عتبة المنزل و سطح البناية و الجدار.

  بدأت الزيارة المفاجئة الساعة التاسعة من صبيحة يوم من  أيام شهر نيسان، نهضت  أم هاشم من رقدتها عند مدخل المنزل و نفضت عنها بعض الغبار  و استقبلت جارتها  أم العبد بشئ من الوجوم و كانت إشارات الاستفهام ترتسم على حواجبها الكثة  و أنفها الأفطس  كلغز الكلمات المتقاطعة! أم هاشم امرأة تجاوزت عتبة الخمسين غير أن ملامحها  تشير إلى أنها ربما كانت في العقد السادس فهي دائمة منحنية الظهر مقطبة الجبين تقضي  معظم وقتها في تحضير مجروش الذرة و الشعير و القمح  و بعض الأعلاف لتقديمها للدجاج طمعاً في زيادة عدد البيض أو مواليد جدد. حاولت أن تغير شيئاً من هيئتها في غمرة الاستقبال و الزيارة المفاجئة ، قدمت بعض الضيافة  ثم أتبعتها بسؤال عن سبب الزيارة.

أصاب أم العبد شئ من الذهول  من طريقة حديث جارتها غير الودي

-         لا شئ ، حق الجار على الجار أن يقوم بزيارته و يتفقد  أحواله... و قد كنت مشغولة في بيع الأواني  المنزلية.هل تودين شراء  أية هدايا  أو أدوات مطبخ ...سأقدم لك أسعار بيع خاصة.

-         لم  تشعر  أم هاشم  بأن هذا هو سبب  الزيارة ، و ألحت  عليها أن تكشف عن السبب ، و أخرجت علبة صغيرة فيها بعض السعوط و استنشقته بطرف فتحة أنفها اليمنى بعد أن ثنت قوامها نحو اليمين قليلاً، ثم عطست كأنها تصارع حشرجة الموت الأخيرة.

-         ارتعبت أم العبد للوهلة الأولى و تساءلت : ما هذا يا أم هاشم

-         عادة ورثتها عن جدتي التي كنت أرعى شئونها و أعمل على خدمتها  في السنوات الأخيرة

-         بصراحة ، إن  حالنا  بدأ في التردي من يوم اقتنيت بعض الدجاجات ، فقد ازدادت الأوساخ و أصبح الجدار الذي بيننا  موبوءاً ، و لا  أحد منكم يحاول  أن ينظف ما أفسدته دجاجاتكم !

لم  يُثر  هذه الاحتجاج شيئاً لدى أم هاشم و لم تحاول  تهدئة الموقف بل أخذت ترغي و تزبد  و ترفض حتى مجرد الخوض في هذا الأمر ، فهي حرة في بيتها تربي ما تشاء من الطيور

-         ها أنت تبيعين الأواني  المنزلية ..هل تدخلت في شئونك؟ و تظاهرت بأنها مشغولة و انتهت الزيارة قبل موعدها و عادت أم العبد غالى مسكنها مكسورة الجناح.

كان الايمان  ملجأ ام العبد  دائماً و خاصة في المواقف الصعبة ، ازدادت  وتيرة الدعاء   قبل انبلاج الفجر و في ساعات الليل المتأخرة ضد دجاجات  جارتها!  ثم أرسلت زوجها للبلدية و قدم شكوى خطية غير أن المسئولين عن البيئة  لم يولوا الأمر اهتماماً.

عادت أم العبد للدعاء، و في أحد الأيام تفاجأت بدجاجة نافقة  في فناء منزلها

-         ربما ألقت الدجاجة بنفسها من القن هرباً من الاكتظاظ حيث أن جارتها العنيدة  زادت بعد الزيارة من أعداد الدجاجات البلدية...حاولت أن تجد تفسيراً  لما يجري فلم تُفلح في العثور على جواب يشفي الغليل و يُخلصها من  المصيبة.

ازدادت حالات  النفوق بين الدجاجات فما كان من أم هاشم إلا أن تحضر طبيباً بيطرياً مختصاً يعالج الأمر، و بعد أن أجرى الفحوصات اللازمة في المختبرات  عاد إليها في اليوم التالي ببعض الأدوية و المضادات الحيوية.

-         أُريد  دواء شافياً  يا دكتور ...مش مهم التكلفة ...المهم أن لا تنتصر على جارتي.

-         - "مرض الكوكسيديا COCCIDIA  يا حاجة..الرطوبة عالية في القن  و هذا يزيد من تكاثر الطفيل و هذه الأدوية  تخفف المصاب قليلاً غير أني أنصحك   بتربية الدواجن في  مزرعة  تراعي الجوانب الصحية  و.....

-         لم تستطع أم هاشم الاستماع إلى كامل إرشادات الطبيب  و ناولته أجرته بعد أن فقدت  معظم دجاجاتها.في اليوم التالي شُهدت أم العبد و هي تتابع عن كثب  نشاط أم هاشم في التخلص من بقايا الدجاج المصاب بالإسهال  و النزف الدموي و ظلت على هذه الحال عدة ساعات قامت خلالها بحملة تعقيم للمنزل استنزفت كل أرباحها و أتت على رأس المال.ترى هل كان لدعوات أم العبد علاقة بالموضوع؟ ظلت ام هاشم تتساءل و لا  تجد من  يجيب عليها.

·        مدرس  بكلية التربية بجامعة الملك عبدالعزيز