أنا والمرايا في ضوْءِ يونيو

 (وِشاياتٌ بالنَّفس وبأخبار مريم ، و يومُ الثورة بربوةِ الرّوح

وخَبَر الوزراء المغاربة والخَتْمُ برسائل إلى الملك..)

شعيب حليفي

[email protected]

وشايات تمهيدية

أولا -  كل واحد منا يتجددُ يوميّا ، بل كل لحظة إنْ هو تأملَّ ذلك .فأنا الآن لستُ نفسي غدا أو بعد غدٍ .و"أنا" الصورةُ الحية ، لست "أنا" الصورة اللغوية ، أو تلك المنقولة عبر الأحاديث والانطباعات و الإشاعات والوشايات .

كما أن الواحد منا يمكن أن يكون أكثر من شخص في اللحظة الواحدة ، نتيجة التفكير والإحساس ..كل ٌّ منا يحيا خلف طبقات من المرايا ، تتحقق هوياته عبرها يوميا ، والهوية مثل طِرْس تتداوله الأيدي والأقلام .

ثانيا- انتهى شهر يونيو ،شهر بثلاث منازل :منزلة الهنعة وبرج السرطان ومنزلة الذراع . يبدأ يونيو عندما تكون الشمس في برج الجوزاء وينتهي في برج السرطان. وفلكيا، عندما تبدأ الشمس في برج الثور وتنتهى في برج الجوزاء.

     في فجر فاتح يوليوز كتبتُ ما علِقَ بذاكرتي ، فدوَّنتُ بيدي عشرات الصفحات ، جعلتها عبارة عن مقاطع سردية بعناوين فرعية ، هي محاور القول .

وفي اليوم الثاني  أعدتُ مراجعتها  ثم حملتُها إلى الكاتبة للرقن  . لكنني بعد أقل من ساعة عدتُ فسحبتُها  حيث استبدَّ بي خاطر حول ما خَلْفَ المرايا ..لماذا نكتب فقط ما يعجبنا ونُسقِطُ أشياء أخرى ، نكتبُ ما نراه ضروريا ينسجم والنسق الذي يؤطر مسارات التفكير والمتخيل والضروري .لذلك قررتُ التخلي عما كتبتُ واضعا مسودة  النص الأول جانبا ، وعمدتُ إلى  تقييد  ما رأيته غير ضروري وما أهملته عن غير قصد . أكتبُ وشايات  عن نفسي وعن مرايايَ التي انعكس عليها ضوء يونيو وظلاله.. ولو أردتُ أن أُجرِّب الأمر نفسه مع النص الثاني لكتبتُ نصا ثالثا مختلفا يحتوي ضوءا آخر من الطبقة الثالثة للمرايا  ،فعادة ما نكتبُ نسبة مائوية ضئيلة فقط  ونحتفظ بالجزء الأكبر في خزائن الصدور ..انه أمر طبيعي له علاقة بالتخييل والكتابة عموما .

ثالثا – مهما سعى الكاتب إلى قول الحقيقة ، فإن اللغة بوصفها أداته الممكنة لتظهير الحقيقة تتدخل رغما عنه في تشكيلها، وبالتالي تؤثر في طرق عرض تلك الحقيقة ، ويترتب عن كل ذلك كون الرؤية متصلة بالوجدان والعقل  والهوية  ومناطق أخرى غامضة .فما أعبر عنه وألتقط تفاصيله  لا يمثل ، بالتأكيد ، سوى  جزء يسير ، قد يبدو لغيري أمرا مٌسليا ،أما أنا فأجد له مبررا يُقنعني كأن أزعم أني  أقدم أولا ، شهادة عن أيام من الزمن المغربي ، انطلاقا من تجربتي  ورؤيتي ، أو أن هذا ،ثانيا نوع من الكتابة هو امتداد للتجديد في إبداعي السردي ، وتحديدا في مجال الرواية القصيرة ..فُسحةٌ للتمرين بعد انتهائي من روايتي الجديدة ( أنا أيضا :تخمينات مهملة )، وهو نص طوَّرتُ فيه ما كنتُ بدأتُه في رواية ( مجازفات البيزنطي ) وجربتُ فيه أخذ مسافة طويلة وسميكة مع الذات وتعويضها بحضور الرؤية والتأمل والتعليق .

 صباح الخير يا مَرْوُ

حينما استفقت وفتحتُ النافذة ، لفحتني رائحة باردة أحسست بها في وجهي ونفسي،وأبصرتُ  ضوءا مثيرا قادما من السماء . الساعة،لحظتها ،كانت تشير إلى الخامسة صباحا. أعدت الغطاء ،بلطف ، على علاء .نومة مريم تثير الضحك ، أما زينب فإنها مثل فأرة مختبئة من شئ.

لبستُ التْشامِير الأبيض ونزلت إلى المكتب  بعدما غسلتُ وجهي .

تنبهتُ إلى ساعتي اليدوية ، هممت بإضافة ساعة ، كما تَقررَ  رسميا في التوقيت المغربي والبدء به مع أول يونيو ، شرعت في إدارة المحرك الصغير للساعة فتكسر وبقيتُ بدون ساعة، مكتفيا بالنظر إلى ساعة الهاتف المحمول ،والذي من عادتي إغلاقه لما أكون منشغلا بعمل مهني كما أغلقه وقت الظهيرة وابتداء من التاسعة ليلا .

أضفت إلى هاتفي ساعة( مكانية ) والتفتُ إلى أوراقي .قبل الثامنة صباحا ، تهبطُ مريم إلى المكتب ، بعيون ما تزال مغمضة ، تحمل على كتفيها الصغيرتين طفولة ثلاث سنوات ، فترتمي على الكنبة الرمادية الرطبة الموجودة بمكتبي ..تنظر إليَّ وتبتسم ثم تواصل نومتها .أضعُ الكتاب وأُكلمها بإغراءات النهار ، فتبتسم وهي مغمضة العينين ،وحينما أعود إلى عملي ..تشرع في التجسس علي بفتح نصف عين واحدة ...

عادة يومية مثل عادات كثيرة نكتسبها ...أحب الكتابة بالحبر، حتى أني أملك عددا كبيرا من أقلام الحبر المتنوعة.. من بينها قلم ريشته من الذهب فيما باقي أجزائه من الفضة وخشب الكركاع .أحب في البيت أن أكون  لابسا الفرجية والتْشامير والكندورة  ، ولديَّ أشكال كثيرة ، لكل واحد فصله ، الأحب لدي في هذا الصيف  تلك التي جئت بها من بلاد السودان . كما أحب الجلابة والسلهام داخل البيت  في فصل الشتاء.

 اليوم سيأتي عندي الأصدقاء، لذلك رتبتُ أن تهيئ السيدة  الطعام باكرا ،وتذهب مع الأولاد إلى بيت أسرتها حتى المساء .

في التاسعة والنصف صباحا كان كل شئ مهيئا ، فأوصلتهم بالسيارة  ثم عدتُ لاستقبال الأصدقاء في العاشرة من أجل اجتماع مطول امتد حتى السابعة مساء  حول  ترتيب برنامج القلم المغربي للموسم الثقافي المقبل .

كنا سبعة : الشريشي ، نجاح ، خالد ، المحجوب، منصور ، وشمس الدين القادم قبل أيام في عطلة من أمريكا ، في ما غاب عنا سعيد غصان ،وعبد اللطيف محفوظ وعبد الرحمن غانمي.

الساعة السابعة والنصف مساء ، ودعتُ أصدقائي  وذهبتُ حيث حملتُ أهل بيتي متجهين مباشرة إلى ساحة السراغنة . ركنتُ السيارة بشارع الفداء ثم تسربنا عبر شارع المَلَكِية وسط زحام طبيعي في ممر تجاري على طول أكثر من ألفي متر.. مشيناها والفقيرة إلى الله مريم فوق كتفيَّ فرحة، بينما علاء وزينب ملتصقان بأمهما،فيقول  لي مستفسرا: أنا أيضا كنتَ تحملني، آبَّا، على كتفيك لما كنت صغيرا ؟ وتكرر زينب ما قاله أخوها .. فأشير برأسي موافقا .

وصلنا  ساحة درب البلدية وما زال ضوء النهار حيا.جلسنا بمقهى للشواء محاطة بمحلات متعددة لبيع لحوم الإبل والبقر ، قمت وجئت بكفتة الإبل  أكلناها  ، وفيها رائحة الناقة  – كما قالت زينب  متفكهة - مع الشاي وخبز السوق .

ترجَّلنا عائدين  وفي نهاية زنقة الملكية حيث عشرات باعة الفواكه الموسمية  أخذنا معنا حب الملوك والبطيخ /السويهلة والشهدية  والمشماش والخوخ.

يوتوب بطريق أولاد زيان

يونيو شهر الامتحانات، كتابية وشفوية ومناقشات البحوث والأطاريح،  وما يستتبع ذلك من قراءة منجزات الطلبة واجتماعات ومداولات بالإضافة إلى اجتماعات أخرى في مدرسة الدكتوراه واللجنة العلمية ، لذلك لم أستطع خلال هذا الشهر قراءة سوى روايتين، الأولى  عرق الآلهة لليمني حبيب سروري ورواية لون الروح  للتونسي صلاح الدين بوجاه  . 

في الطريق إلى الكلية ، عبر طريق أولاد زيان ،فجأة يعترض طريقي ، وبشكل مثير، رجل أمن ضخم الجثة ، وقد افرد يداه ورجلاه .تقدم مني  ولما تحقق من وجهى تراجع عن طلب الأوراق،كأنما اكتشف صورة كان يبحث عنها فصادفته ،  واتجه بسرعة نحو صاحبه ، تكلما ثم عادا معا  ،فقال لي الثاني : أنتَ اللِّي كْتَبْتِ بنا في جريدة المساء منذ شهر.. لما أوقفناكَ بهذا المكان على السرعة.

( فعلا هذا ما حصل . وقد أمضيتُ وقتها معهم أزيد من ساعة باعتبار أن ما فعلوه معي كان نَصْبًا عليَّ وليس أداء واجب ، خصوصا بعدما خيَّروني: إما أداء غرامة أربعمائة درهم أو مائة درهم "رشوة" ، فرفضتُ هذا المنطق الذي يجعلنا أرخص شئ وأديت غرامة الأربعمائة ..وكتبت ذلك في الصحافة مثيرا مسألة أن رجل الأمن من مهامه أمن المواطنين  وليس تشجيع الانحراف والارتشاء).

قلت له متجاهلا: هل لدي مخالفة سير أم أوقفتماني  باش تغنيو  لي غُنَّايَة حَشَاكْ ؟

انتفض وردَّ عليَّ بعنف : غادين نْشُوفو ..ثم طلب أوراق السيارة  وابتعد عني  ومن حين لآخر يستمع إلى الجهاز الذي يربطه بسيارة رادار مراقبة السرعة ، مختبئة بعيدا بحوالي ألف متر .

لم أشأ الخروج من سيارتي ،واكتفيتُ بِرَكْنِها  ثم هاتفتُ مصطفى اليوتوب  ،صديقي الذي اشتغل معي سابقا في الصحافة ، ودعوته للحضور بأجهزته التقنية  المتطورة  بعدما عينتُ له المكان بدقة .انتهيتُ من المكالمة  ووجدت الشرطي الأول عند رأسي ، سلمني أوراقي  وقال لي بصوت لا دلالة فيه : وَكَّلْنَا عْليك الله . ثم انصرف ينصبُ شِراكَه من جديد لضحية أخرى يفاوضها .

أدرتُ المحرك وواصلت سيري .الشرطة بالدار البيضاء مثل الليل مع النهار، وهُم غير شرطة المدن الصغرى الذين يؤدون واجبهم باحترام .في البيضاء بعضهم يعتقد أن مهنته هي سبيلٌ لفعل كل محظور؛ وفي مدينة أخرى ، سطات مثلا وهي لاتبعد عن الدارالبيضاء إلا بأقل من سبعين كلمترا ،شرطتها طيبون  يجعلونك تحس بأنهم يحمونك  ويحترمونك  ويفرضون عليك احترامهم.

يوم الثورة

يوم السبت سابع يونيو كان يوما مرتبا ترتيبا علنيا وسِريا .

خرجتُ من الدار البيضاء في الرابعة والنصف صباحا ، وتوجهت مباشرة إلى سوق السبت بسطات ، وجدتُ بويا قد بدأ باكرا ، الحُكم بين الفلاحين .قبَّلتُ يده  ودعا لي بالشاي والخبز والبيض .ذكرته بأننا على موعد في العاشرة بمقهى بوشتى .لم يرد علي وهَمَّ يسألُني عن زينب ومريم .قلت له :لماذا لا تسألني عن علاء . فقال لي انه يشبهني فلماذا أسال عنه ( لم افهم بلاغة ومغازي هذا الجواب إلا وأنا أدون كل هذا) ثم نهرني بود عن مواصلة الحوار ، وأمرني بالبحث عن عبد القادر في رحبة الغنم  واستقدامه على وجه السرعة .

اشترى والدي في هذا اليوم  خمسة عجول، أرسلناهم في شاحنة إلى الضيعة بعين نزاغ ،وقبل العاشرة كنا بالمقهى حيث بقينا إلى حدود الواحدة ظُهرا .نِمنا لساعة كاملة بعد الغذاء ،ثم سألني بويا عن وجهتي.. فقلت له بأنني سأعود إلى الدار البيضاء  لما تَخِفُّ الحرارة ، ثم استغربتُ لمعاودته السؤال بشكل غريب كما لو انه على علم بأنني كذبتُ عليه .

كنتُ مدعوا لسهرة خاصة من طرف صالح الوراقي ( وهو ليس اسمه الحقيقي) صديق قديم أصفه بالإقطاعي الحداثي ،لم يحصل على الشهادة الإعدادية ولكنه يجيد القراءة من تعوده قراءة الصحف باستمرار. وهو الآن من الفلاحين الشباب، له خبرة كبيرة بالفلاحة، فضلا عن امتلاكه لعدد كبير من الأراضي السقوية والبورية. من خصوصياته انه يحب الغناء و الطرب كثيرا ،لذلك يسعى من حين لآخر إلى إحياء حفلة يستمتع فيها بالطرب الشعبي الأصيل، والهابط أيضا،يعبر باستمرار عن حنينه الدائم إلى عهود الإقطاعيين الكبار في مغرب القرن الفائت..ومن علامات هذا حبه للفن الشعبي وكراهيته للمثقفين .

كنت أول الحاضرين إلى الضيعة التي توجد قرب الغابة و نسميها ربوة الروح ،  بجانبها منزل كبير من طابق أرضي بُنيَ على ربوة تطل في شموخ على حقول الدرة، خلفنا الغابة بصمتها المريب .بها صالون مغربي واسع جدا  تتفرع عنه غرف وحمامات حديثة وحديقة  أكثر اتساعا وخُضرة . 

 وبعد ساعتين سيحضر ثلاثة من  الأصدقاء من نفس الناحية التي نوجد بها  ، أعرف اثنين منهما فقط، أما الثالث الذي لا أعرفه  فهو من أبناء أخواله  . قمتُ وهممتُ بالخروج دون أن أُكلم أحدا .أحس صالح وعلم أني لا أجالس في سهرة أحدا لا أعرفه ،و لهذا السبب سأتركهم وأعود إلى الدار البيضاء .لم يتركني أصل إلى سيارتي، وفي الحديقة فاوضني بأن يطرده ،فرفضتٌ وقلت له بأنه لم يعد يجيد تدبير أموره .وخلال حديثنا خرج الشخص المعني بالأمر صامتا ، واسمه محمد ، .لمحته وهو يضع رجلاه على عتبة البيت ، ثم لم أشأ النظر في وجهه ، وحينما اقترب منا وكان على بُعد حوالي مترين رفع إلينا رأسه وقال : السلام عليكم . إشارة منه بالانصراف بعدما أحس ،وربما سمع ما دار بيني وبين صالح .آنذاك رفعتُ عينيَّ أَنظرُ إليه ،فلمحت عيناه وقد اغرورقتا بالدموع ، لم أشعر حينها بيدي تمتد إلى ذراعه ، شدَدْتُهُ بقوة وقد أحسست بفظاظتي وأنانيتي وحرصي الزائد . اعتذرتُ منه وأفهموه الأمر كما لو أنه مبدأ مقدس ..ثم بقينا وصرنا أصدقاء ولما استطال الليل سيشرح لي صالح حقيقة أخرى حول استقدام محمد، وتتعلق بكونه خسر أموالا طائلة  على امرأة بيضاوية  لعبت به طوال سنة ونصف.

أُسميهِ قايد القياد، لأن صالح الوراقي  يريد أن يحيا حياة كبار قواد المغرب في القرون الثلاثة الأخيرة، وأنا من كنتُ قد ملأتُ رأسه بسِيَّرِ أولائك ،كما أنه قد قرأ روايتي زمن الشاوية وتأثر بشخصياتها  ولم يعد يريد أن يقرأ شيئا آخر؛فقد كنتُ أوهمته بأنه سليل علي الشاوي ( والأمر قد يكون حقيقة كما قد يكون محض وَهْمٍ وليس كذبا )  .

في مثل هذه الحفلات، والتي تمر في جو فني، نستمتع فيه بالطرب الشعبي وبكافة أشهى المأكولات والفواكه الموسمية ، يُرتب صالح للأمر على طريقة كبار الحُكَّام  :أربعةٌ ممن يشتغلون بالضيعة الكبرى يوزعون المهام بينهم ،الأول مُكلف بالأكل والشواء والثالث مهمته الإتيان بالفرقة الموسيقية  وإرجاعها بعد نهاية السهرة .أما الرابع مّْوِيلِيدْ (تصغير لاسم ميلود )،  وهو الذي يهمني لأنه صديقي-  وهو على هيئة سانشو - مهمته الوقوف على عتبة الباب  يؤدي المهام التي يراها في عيني سيده صالح .

مع صالح أحس دوما ، في خاطري ، بالرغبة في أن أكونَهُ ..فلاحا فقط. أعيش الماضي والحاضر ..بل أعيش زمن كافة أجدادي المنعمين؛ وربما ما أنا فيه الآن  هو شكل آخر لما أحلم به.

كنت لابسا سروال جينز فَقَدَ الكثير من زرقته ، وقميصا بنصف أكمام ،سماوي اللون ،نزعته فبقيت بسليب ابيض بدون أكمام ، نأكل كل أنواع الفواكه الجافة والموسمية الموضوعة أمامنا بسخاء .

العاشرة ليلا وصلَتِ المرسيديس و الكات كات محملتين بالفرقة الموسيقية .فدخلن دخول الفاتحات ..أربع فنانات (هوانم )في ما بين العقد الثاني والثالث من عمرهن ،استُقدمن من مدينة خريبكة يتوسطهن شيخ كمنجة في متوسط العمر .سلمن علينا ثم جلسن في مكان خُصِّص لهن  .

بدأنا ،في الجزء الأول من السهرة، مثل متصوفة هنود ، قابعين في حدود الاستمتاع ، سماعا ، بأناشيد شعبية من فن المرساوي .بدتْ لي شخصيا مثل مزامير تسري في الروح فيقشعر لها البدن  وتصل العقل  فيسْكَر .لكننا، وفي مثل كل التجمعات البشرية ، تحولنا بفعل الوعي الشعبي ، خلال الجزء الثاني والأكبر من سهرتنا المهربة عن البشر، إلى ثوار حقيقيين، فتخلصنا من كل القيم البالية  ومن ذلك السكون الذي نحميه بقواعد اللعبة الاجتماعية ونحركه بما نحمله من نظريات لن تصمد جميعها  تحت عَفْطَةٍ واحدة من قدم فنانة وهي ترقص على جرَّات عُيوط الشيخ المحترم.

انتقلنا إلى المرحلة الواقعية لنجرب قُدراتنا على التأطير والتنظير في الواقع الملموس،  فدخلنا في عمق الأغاني التي تبوح بكل شئ والتي لا تعتبر الخطاب طبقات – كما فعلتُ مع هذا النص – جوٌّ روحاني مائة بالمائة.. قام فيه صالح برقصة بدوية ، سقط على إثرها ..فأسرع مّْوِيلِيدْ يجري ليحمل سيده ..ولم أدر متى نهض من داخلي شخص يُشبهني(لم يلتفتْ إليَّ أو يستأذن من خيالي) فرقصَ رقصاً بدويا ورجوليا، كما راقص المجموعة كلها رقصا رومانسيا طاهرا ومعبرا.. لا وصف أو سرد أو حوار فيه ..فقط الروحانية  والمجاهدة حتى تقطعت عباءة الفقيه – وأنا مشدوهٌ وساهٍ في فِعْلِهِ الغَريب -  رقَصَ كمن ينتقم من شئ .كمن جاءته بشارة من السماء .كمن رأى الجنة ودخلها .هو لهو وخشوع في صورة رقص.. كمن يَدُكُّ الأرض على تلك النظريات  والسرديات والندوات والكتابات والروايات والمناقشات والمزايدات والمناقصات  وكل شئ خارج الحياة والممات  ..دَكًّا دَكًّا حتى أحس بطقطقات عظامها الرميم ، وبأبخرة جسمه وسيول العرق تنهمر... فسقطتُ الأرضَ مثل واحد من  الثوار  ، سقطتُ في آخر معاركنا والتي كان فيها النصر يخفي الهزيمة  ثم قمتُ وجلستُ مرتميا وسط ابتهالات العيطات التي لاتنتهي .

أحسست بأنني تطهَّرتُ وعدتُ كما كنتُ  بريئا طُهرانيا .

بقيتْ ساعة على قيام الفجر ، والبهجة ماتزال قائمة مشتعلة  .انتبهتُ إلى مّْوِيلِيدْ الذي مازال في وضعه الأول منذ بداية السهرة كلمتُ صالح أن يطلق سراحه ويحرره ، فأمر له  بزجاجة نبيذ من مؤونة  سعادة الشيخ (محظور إدخال النبيذ إلى السهرة باستثناء  الشيخ رئيس الفرقة الشعبية الذي من شروط حضوره ، أن يأتوه بعدد معين من النبيذ ،فأُوتي بأكثر مما طلب ، حيث وضعه إلى جواره ومن حين لآخر كان يعب منه عبا.) وفعلا حمل الرجل الثاني الزجاجة  لمّْوِيلِيدْ وهو ينظر إلينا  بنفس الجهامة والدهشة، معتبرا الإشارة من رأسينا إيذانا له بالتحرر .

 لم تمر سوى ثوان حتى جلس القرفصاء واضعا  قَرعتَهُ وبدأ يشرب منها مباشرة وهو يأكل الخبز .

كنت أنتظر هذا المشهد ، فلا تخلو جلسة من غرائب مْوِيلِيدْ ..ضحكت بجنون  وسط صمت ووشوشات في لحظة استراحة الفرقة ، فشعر صالح بحرَج حينما انتبه للأمر ونادى عليه مؤنبا ومشيرا إلى الأكل الوفير .فلم يفهم أحدهما شيئا لأن مّْوِيلِيدْ ليس بجائع وإنما - كما سيشرح في شروحاته التي لاتنتهي - أن من عادته شرب النبيذ المر بتلك الطريقة  التي يسميها القَطْعَة.

مْوِيلِيدْ في حوالي الثلاثين من عمره كما هو مثبت في الأوراق ، لكن ملامحه تنبئ عن الخمسين ..جاء عند صالح منذ أزيد من خمس سنوات .أعزه وأشفق عليه وأحب الحديث إليه لأن كل أجوبته عجائبية وغريبة ويصلح أن يكون شخصية روائية هامة في السرد المغربي.

توقفتُ عن الضحك ،نظرتُ إلى صالح فعلم أني أنهيتٌ السهرة .

في غرفة جانبية،و بعد ما شربتُ كأسا كبيرة من عصير الليمون ممزوجا بالحامض والقرفة ، نمت لساعتين قبل أن أقوم في اتجاه الدار البيضاء.

في طريقي كلمتُ البيت ، وحينما وصلتُ ذهبنا إلى شاطئ عين الذئاب .لعبنا وغطستُ جسمي في ملوحة البحر الباردة ثم نمت لساعة أسفل شمسيتنا بجوار السيدة .

ولما عُدنا في الظهيرة ،فاجأتنا  السيدة بأُكلة متكونة من رأس مبخر ، كانت قد تركته على الفحم،

وأكلة أخرى هيأتها ،من قبل، من الكبد والطحال المحشي، بالإضافة إلى  لوازم أخرى تسميها الولية زينب بالشهيوات.

يوم التقيتُ سطيف

  ( تعتبر سطيف أو سيتيفيس  من بين أقدم المدن في الجزائر ، إذ تعود إلى الإنسان البدائي، وقد مرت عليها كل غزوات وحضارات البحر المتوسط، كما عرفت ازدهارا خاصا مع الرومان الذين أعادوا بناءها،بعدما وجدوا فيها المنطقة المثالية للراحة والاستجمام ، وكانوا يسمونها ،لخصوبة أرضها، مطمورة روما، ومن هذه الصفة استمدت تسميتها ستيفيس التي تعني الأرض السوداء أو الخصبة، وقد أحاطها الرومان بمدن وقلاع كبرى لا تزال منها مدينة جميلة ، وهي تطل على قلاع أخرى من أجل حمايتها من الغزاة والمحاربين البرابرة، كما كانوا يطلقون على السكان الأصلين الأمازيغ. لكن الوندال أخرجوهم بعد أربعمائة سنة من الاستقرار فيها، ثم جاء من بعدهم غزاة آخرون إلى أن فتحها المسلمون حوالي سنة 90 هجرية، ويذكر معجم البلدان لياقوت الحموي أنها ذات زرع عظيم، ومنها خرج أبو عبد الله الشيعي داعية عبيد الله المسمى بالمهدي. ثم د أصبحت في القرون الوسطى مركز ثورات وحضارات .)

يوم ثامن عشر سافرت رفقة ثلاثة من أصدقائي إلى الجزائر ،ومنها عبر السيارة إلى مدينة سطيف حيث نعقدُ الملتقى الرابع للرواية المغاربية في موضوع دراسات في الرواية المغربية ، وهو حدث جعل القناة الثانية المغربية تُرافقنا لأجل متابعته، فسافر معنا ثلاثة صحفيين ..وكان سفرا ميمونا عزز أُلفتنا السابقة وكافة العلاقات الثقافية مع أشقائنا من مثقفين ومواطنين متتبعين من الجزائر..

وقد مرت الندوة  ناجحة كما توقعنا .

فقط شيئان مترابطان  بديَا لي فسجلتُهما :

الأول: قبل سفرنا بمدة وفي سياق التتنسيق والتهيئ اتفق أصدقائي في مختبر السرديات أن نراسل ،للإخبار والدعم ،عددا من الجهات فراسلنا وزارة الخارجية والتعاون المغربية وسفارة المغرب بالجزائر نخبرهم بالملتقى وبأهميته التي تكمن في انكبابه حول المتخيل المغربي بمختلف أجياله وأصواته و يعكس كل الجغرافيا المغربية بتنوعها وتعدديتها ، كما أخبرناهم بالوفد المغربي وتواريخ ذهابه ورجوعه .مثلما راسلنا وزارة الثقافة المغربية نقترح عليها توفير عدد من تذاكر السفر لروائيين مغاربة ستُدرس رواياتهم في اللقاء بحضور عشرات المثقفين والجامعيين من مجموع الجامعات الجزائرية  وراسلنا وزارة التربية والتعليم العالي  والجامعة...واكتشفت أمرا مُريبا، وهو أن كافة الجهات التي راسلناها ،ونحتفظ بالحجة، لم تُكلف نفسها ولو اعتذارا من سطرين كأن الأمر لا يعنيها  كأن الملتقى لا علاقة له بالمغرب ولا بالمغاربة  لا بالثقافة ولا بالهوية الثقافية ..لو كنا فرقة كناوة أو عيساوة لانتفضوا وقاموا ولم يقعدوا لأن الأمر كما سيقولون يتعلق بصورة المغرب وبتراثه المقدس؟ولا تذهلني الأرقام التي تصرفها هذه الجهات بملايين الدراهم على ترف مجاني  وسبل تُقوى الانحراف وتُشجع على ثقافة، تشبه إلى حد التطابق، حليب الحمارة على حد تشبيه بويا وهو يتحدث عن شئ لا نفع فيه .

وللإخبار فقد شاركنا نحن الأربعة بنفقة كاملة من الجهة المضيفة رغم انه لقاء حول الأدب الروائي المغربي. وحينما عُدنا قررنا إهمال أي رد فعل  لشعورنا بالمهانة والتحقير  ولم أجد ما أفعله سوى أن حكيت لصالح الأمر لما كنت بسطات  وطلبتُ منه أن يسأل لي مْوٍيليدْ في ما أفعل ، عَلَّهُ يعطينا فتوى ..فضحكنا .

رسالة إلى الملك

وفي الغد كلمني صالح على المحمول، بعدما كنت اعتبرت الأمر بيني وبينه مجرد حديث وتفريغ ، وقال لي :

-        ْموٍيليدْ يقول لكَ ادْعيهم لمولْ الَبْلاَدْ، ويقصد الملك .

 وعلق  صالح على هذا مستفسرا رغم انه لايحب بدوره الثقافة ولا المثقفين  ويكتفي بحب الفن والفنانين .قال لي : مادام الوزراء بخصوص مسؤولياتهم تجاه الوطن وحضارته وثقافاته ومكوناته ، عاجزون  فالتمسوا من مول البلاد مباشرة ودعوهم وشأنهم.

النقطة الثانية المرتبطة بالأولى وبما قاله صديقي صالح،ذلك أن الكثير من المثقفين والمواطنين في عدد من الدول العربية وعند المواطنين المغاربة في المدن الصغيرة والنائية  يعتقدون أن المثقف المغربي والأستاذ الجامعي يلتقي في مناسبات أو أخرى بالملك  أو بمحيطه من المستشارين .

في رحلتنا إلى سطيف بالجزائر، خلال ملتقى الرواية المغربية ،جاء مواطن جزائري إلى قاعة الملتقى في اليوم الثاني من الندوة يسأل عن رئيس الوفد المغربي،فدلَّوه عليَّ. تقدم مني وسلم عليَّ بحرارة  وقال بأنه مواطن جزائري ويحب  المغرب ، ثم طلب مني  أن أُبلغ سلامه الحار جدا إلى الملك محمد السادس . فناديتُ على المخرج المغربي عبد اللطيف الطالبي من فريق القناة الثانية المرافق لنا  وطلبت منه سماع ما قاله المواطن  وتسجيل طلبه.

مثل هذا الطلب طلبه منا مواطن عراقي مرة أثناء زيارة تضامنية لنا إلى العراق سنة 2000 ، كنا نتجول ببغداد ليلا ،وكان شهر رمضان ،رفقة الأستاذ الصديق  خ.س والصديق  م .ب ،وفجأة يستوقفنا مواطن عراقي بعدما سمِعَنا نتكلم بلهجة مغايرة للهجاتهم، فسألنا.. ولما علم بأننا من المغرب الأقصى سَعِد كثيرا وقَدَّم لنا مشروبا ثم طلب منا أن نُسلم على ملك المغرب الشاب، مْحَمَّدْ السادس.

أسوق هذا الكلام للتدليل على حس عام مشترك بين المواطنين (من المغرب والعالم العربي )الذين يحبون المغرب وأهله، ربما ،هم متأكدون انه ليس هناك وزير مغربي يستحق بعث السلام إليه . لذلك لم يلجأ سكان الدواوير التي تمر منها طريق عين نزاغ  وهي خمس كلمترات فقط ،وتمتد إلى رأس العين بامزاب ، فيها توجد ضيعتنا وأراضينا الفلاحية لم أسمعهم قط يطلبون أو يبحثون عن مسؤول جماعي أو غيره بالمدينة والولاية لتعبيد الطريق، وإنما اسمع متمنياتهم بأن يأمر الملك بأنه سيمر من هناك ...ويتحقق ما كان حلما .

قوس مريم

حرارة مفرطة  جعلت الفقيرة إلى الله ، مريم ، تتخلص من ملابسها وتبقى في ما يسترها فقط ..تبحث عن الماء وتتمنى الذهاب إلى البحر .وشهر يونيو بالنسبة إلي من أكثر الشهور عملا  وكان آخر جمعة في يونيو يوم بحريا قضيناه بطماريس وقد أُوتِيت مريم قوس المتعة  عوما وجريا وصراخا ..وفي طريق عودتنا  في آخر النهار نامت  ولم تستفق إلا في صباح يوم السبت .