لاجئ رقم (112)

محمود رمضان أبو الهنود

 [email protected]

زخات المطر تشتد ، خيوط البرق تضيء سماء القرية ، أصوات الرعد أيقظت الصغار من نومهم ، السماء تتلّبد غيوماً أكثر وأكثر،كل شيء على غير عادته في هذه الليلة ، لا شيء يبشّر بقرب انتهاء العاصفة ، على العكس بدأت هزات عنيفة تضرب بيوت الأهالي في قرية (برير)1 بما فيهم منزل أبو عبد الله خيّاط القرية وأحد الأوجه المحبوبة والمقبولة فيها ، الأطفال يصرخون، والنساء يبكين ويحتضِنِ أطفالهم، لا أحد يجرأ على النظر عبر نوافذ المنزل  ليعرف ماذا يحدث في الخارج ، الكل ينتظر الطوفان ، الموقف رهيب ، الوجوه شاحبة ، السكون يسيطر على الأجساد ، الأبصار خاشعة، والشفاه تسًبح لله ، الجميع يداهم مرفوعة إلى السماء ،وبعد أوقات عسيرة انقشع الظلام ، وأعلنت العصافير بدء صباح جديد ،ليصحو أبو عبد الله وفي حضنه طفلته الصغيرة ، وأجواء الحرب معلنة في كل مكان ، هدير الطائرات يعلو ، رجال المقاومة يتمترسون  بين الأزقة والحارات ،وصيحات البعض ممن كتب له الحظ البقاء حياً تدموا القلب على فقدان الأحباب،  ليجد أبو عبد الله  نفسه غير الأمس ، المكان غير المكان، أهالي القرية ليس كلهم ، يسير يميناً ليجد منزله أو دكانه ، ويمضي يساراً ليبحث عن ناقته و بستانه ، لايجد شيء سوى جنازات تحضّر ، جرحى مستلقون ، خيام منصوبة في معظم مناطق غزة، بعضها مكتوب على مدخلها معسكر الفالوجا، وأخرى معسكر دير ياسين ، يتنقل بسرعة بين معسكر وآخر باحثاً عن معسكر برير ، يجده بعد طول معاناة، يسارع إلى بوابة المعسكر وعلى كتفيه تستلقي طفلته فاطمة ، يحاول الدخول بسرعة ليبحث عن باقي أسرته في أي خيمة يتآوون، تناديه عند البوابة امرأة ترتدي على رأسها طاقية مختومة بعلامة UN)) ، تسأله بسرعة عن اسمه ومكان بلده الأصلي ، يجيبها باستغراب لتدله بعدها على أسرته مطمئنة إياه على سلامتهم ،تعود الابتسامة لوجهه الضحوك ، يسجد من فرحته شاكراً لله ، تعطيه  بعض الأطعمة والمعلبات الجاهزة، وتصدر له بطاقة UN مكتوب عليها   رقم 112 ، يسألها باستهجان عن أصل وحقيقة تلك البطاقة، تعجز حتى عيناها عن الإجابة ، تشيط عيناه غضباً صارخاً في وجهها أنا لي أرض وبيّارة، وبيت وأشجار آكل من ثمرها وأرعاها ،  أنا لست عالة على أحد، ولا أنتظر منكم الشفقة، ويمسك متمرداً ببطاقته الجديدة مستعداً لتمزيقها، وفجأة يلتقط أحدهم البطاقة من بين أصابع يديه ، فإذا بها زوجته طالبة منه الهدوء والتروي ، منبهة إياه بضرورة المحافظة على تلك البطاقة ليضمن رغيف الخبز والدواء لأولاده ،يمنعه الموقف من تقبيلها تعبيراً عن سلامتها وأسرته ، وتأخذ عيناه بدلاً من ذلك  في البكاء الشديد، لتنهمر دموعه ولسان حاله يقول أهكذا أصبح حالنا، لاجئين نحمل بطاقة،بعدما كنا على أرضنا أسياداً،  ناظراً لزوجته ووجوه أطفاله ،مردداً بإصرار ،  نحن لم  نخلق لنكون كذلك ، نحن لن  نستسلم لتلك البطاقة.

               

1-(برير) : قرية فلسطينية تقع في جنوب فلسطين وهي من قرى قضاء غزة