موت نظيرة خانم
محمد صباح الحواصلي
كاتب سوري مقيم في سياتل, الولايات المتحدة
نظيرة خانم امرأة دميمة عبوس تجاوزت الستين من عمرها. مات زوجها حسني أفندي في الحج اثر ضربة شمس, وترك لها المال دون الأولاد.
ضحكتُ ذات يوم على شكلها فنهرتني أمي:
أتضحك على خلقة الله؟!
قصيرة جدا, ونحيلة مثل العود, ووجهها مستطيل يتوسطه أنف كبير مفلطح,
وتضع على عينيها نظارة سميكة تبدو عيناها من وراء زجاجها وكأنهما حبتا كرز.
لم أرها يوما تبتسم, مقطبة دائما, وتعمل في بيتها الكبير بقابلية عجيبة دون أن تهدأ ولكن بعبوس قاتم وصمت مطبق.
يسكن معها في بيتها الكبير أختها شفيقة وزوجها وأولادهما الثلاثة.. يعيشون معا في صمت, وسرائرهم تطوي العجب.
ونظيرة خانم ماهرة في الطهو, ولا سيما الكبة بكل صنوفها.. يقصدونها الجيران في الولائم على الرغم من عبوسها القاتم لتصنع لهم الكبة, ولا ترفض طلبا لجارة وتقوم بمهمتها واضية ولكن بما عرف عنها من عبوس وصمت.
تقول النسوة في الحارة إن في حياة نظيرة خانم حكاية, وإنها لم تكن عبوسا في مقتبل عمرها. ويقلن إنها تكره زوجها, وإنه لا علاقة لعقره بهذا الكره, وإنها تكره أختها شفيقة, وشفيقة تكرهها, وزوج شفيقة يكره الإثنتين معا ويطمع بثروة نظيرة.. وهناك كلام غير هذا الكلام, حكاية قديمة تلوكها ألسنة النسوة عن زوج نظيرة خانم الراحل حسني أفندي وأختها شفيقة التي كانت جميلة بالقياس إلى أختها نظيرة وتصغرها بسبع سنوات.
وذات يوم تطلب أمي من نظيرة خانم أن تصنع لها الكبة. أقترب منها وهي متربعة على بساط في غرفة الجلوس تكور أقراص الكبة براحتيها, وأديم النظر إليها وأنا منتصب أمامها دونما حراك.. لا تنظر إليَّ, بل ربما لا تشعر بوجودي.. ولست أدري ما الذي دفعني أن أسألها:
هل تحبينني يا خالة؟
تنظر إليَّ بعينيها الخرزيتين وتبتسم! لأول مرة أراها تبتسم! وتجيبني:
طبعا أحبك..
ثم تتابع قائلة:
أعطني كأس ماء الله يرضى عليك.
أطير من فرحي.. الخالة نظيرة ابتسمت لي! الخالة نظيرة تحبني! أهرع
وأجلب لها كأسَ ماء وأجلس إلى جانبها وأحدثها, وأعجب أنها تحدثني برقة وأنها تحبني, ويعتريني شعور خفي أن الناس يظلمون الخالة نظيرة.
وتغيب نظيرة خانم.. لم يعد يراها أحد, ولم تعد تصنع الكبة لأحد. أسأل أمي عنها فتقول إنها مريضة, وأعلم أن مرضها عضال.. يشتد شوقي لأن أرى الخالة نظيرة المرأة التي لم تبتسم لأحد إلا لي..
ثم تموت نظيرة خانم..
تموت في صمت, وتخرج جنازتها في صمت, ولا يؤم الجنازة إلا نفر قليل منهم زوج أختها, وشيخ الحارة, و(أبو معروف) دلال البيوت, وحشد من الصبية..
وذات مساء أسمع جارتنا فهيمة تقول لأمي:
لقد قتلوها يا أم محمد.. قتلوها وتخلصوا منها واستولوا على بيتها ومالها.
أمعقول هذا الكلام يا فهيمة خانم! أيعقل أن تقتلها أختها من لحمها ودمها؟!
كانوا يعطونها الحبوب المنومة كل يوم وبدون توقف.. كانت كلما أفاقت
تطعمها أختها شفيقة وتأخذها إلى المرحاض ثم تعيدها إلى فراشها وتعطيها الحبة المنومة.. كانوا لا يريدونها أن تفيق.
أعوذ بالله!!
كنت عندهم لمعايدتها يوم دخلتْ عليها أختها شفيقة فلم تجدها.. بحثنا عنها
في كل مكان, وبدت شفيقة مذهولة من اختفائها.. وأخيرا وجدناها ميتة تحت السرير
تحت السرير؟! وماذا كانت تفعل تحت السرير؟
هربت من النوم.. أدركت أنهم لا يريدونها أن تفيق, فاختبأت تحت السرير
ليأتي أجلها تحته وتنام إلى الأبد..
ومع الأيام تطوى صفحة نظيرة خانم وتستقر في عالم النسيان والأبدية.. أما أنا فلم أنسَ بسهولة أن الخالة نظيرة قد قتلت وأنني ربما أكون الإنسان الوحيد الذي ابتسمت له.