أبخرة ودخان-3

أبخرة ودخان

 3

الصورة الثالثة

حسن حوارنة /جدة

[email protected]

رمز العزيمة

على عادتي المهيمنة على فكري ، تركت بيتي قاصدا المقهى الحبيب ،الذي أكل مني كل رفضي  وترددي ،وكأنه يناديني كل أصيل،

 مع شجرته ونادله وقهوتي .

لا أدري لماذا غزت أفكاري قصة الناظرة مطيعة . زاملتها في المدرسة الإعدادية كمديرة ، كانت مثالا لكل ما أتمناه  في الأنثى من جمال وجه.

 وقوام متناسق . مشيتها هادئة متوازنة . كلامها ثابت. لاتقهقه مثل المدرسات الأخريات . معتدلة حتى في صوتها .

وهي امثل انموذج يهواه الرجال.

عشقتها وبحثت في دواخل نفسي عن مخرج لأتجرأ على السؤال ولكن هيبتها كانت تمحو مني كل شئ.

وصلت المقهى وعانقت فنجــاني والتحفت أبخرته. والخبيث عامر أشعل السيجارة وتركها في الصحن  تحترق ويختلط دخانها معي أولا ثم مع الفنجان.

قلت  أتدري أيها الفنجان ما سأقصه عليك ؟. لم يجب. قلت  أنا عاشق منذ زمن يبتعد خلف السنين العشر ولا أزال أحلم بها .

قال بخبث مجنون . قلت دعني ونفسي واستمع بأدب .

أنا أعرف والد الناظرة مطيعة . كان يعمل بائعا على عربة في سوق مزدحم . ثم تدرج لبيع وشراء بعض البضاعة بين المتاجر الكبيرة والدكاكين البعيدة في الأسواق الصغيرة .

ولدت له زوجته بنته البكر مطيعة . وتفاءل بمولدها كثيرا . لقد ربح في يوم مولدها عمولة كبيرة . شكر أمها على هذه المولودة ودعاها عطية.

ثم قال عطيات ثم استقر الجميع على  الأسم الحالي مطيعة .

استمر الدلال في عمله واستقر وضعه المالي وأنجبت له زوجتــه  الأبنة الثانية ثم الثالثة .

افتتح بعد ذلك مكتبا عقاريا لبيع وتأجير العقارات .

ولما كثرت أمواله قال إنك تلدين لي البنات وأنا اريد صبيا ذكرا يرث مكتبي من بعدي>

قالت الأمر كله لله . يخلق ما يشاء ونحن نقبل ونرضى بما يهبه  الله لنا .

أنجبت المرأة البنت الرابعة . حزن الأب وقال لها فورا أنت طالق طالق طالق .

لم تدر الزوجة ما ذا تفعل ارخت رأسها وغاصت في بركة من الدموع.

 اعتدت أن أشرب كوبا من الحليب الساخن مع الكعك الطازج كل صباح  من( ابو ياسين  )  الحلاب .

نشأت صداقة بيننــا وكان يستوقفني عند العودة من المدرسة  ويستدرجني ويستدرج نفسه بالحديث اليومي عن شؤون الحارة والحياة والناس ويشكو بعض زبائنه الذين يماطلون في دفع ما عليهم .

قلت له يوما أعندك أولاد . تنهد بما يشبه البكاء وقال لم أرزق بأولاد طيلة خمس سنوات  . وزوجتي زارت كل اطباء المدينة وما شاء الله ذلك. وفجأة  قالت سأخطب لك فتاة شابة على أمل أن يرزقك الله بمن يخلفك .

قلت لا، ولكنها أصرت وخطبت وأعدت كل شئ .

العروس الجديدة بنت أحدى قريباتها وقالت لها ستكونين عندي مثل أختي الصغيرة.

وسارت الأمور على ما يرام. رزقت بولد من الزوجة الشابة وفرحنا جميعا . خفت على زوجتي الأولى أن تغار وتتعذب ولكن الأمر كان عكس ذلك . فرحت هي الأخرى وقالت هذا ولدي وسأسميه على اسم والدي ياسين.

وجرت الأمور بشكل سلس. والطفل بين يدي الزوجتين  السعيدتين .

زوجتي الأولى كانت اكثر عناية بالطفل ،تفاهمها مع زوجتي الصبية كان على غيرالمعتاد. دائما تناديها يا اختي .

استغربت ولكن المسألة تطورت على عكس ما اشتهينا .

مرضت زوجتي الصغيرة وتفاقم مرضها وحار الأطباء وأخيرا اكتشفوا مرض السرطان الخبيث في دمها . كان نائما ثم اشتاط أذى ولم يمهلنا .

أخذتها لأحدث المستشفيات دون جدوى . و بعد سنتين  من الولادة اختارها الله لجواره ( واغرورقت عيناه ) ثم قال رحمها الله

قلت يا ابو ياسين وما ذا بعد.

قال ترعرع ياسين بحضن أمه الثانية سعيدا وهو الآن في العشرين من عمره .

ودعته متأثرا وعرجت على مدرستي  القديمة   دون أن اقصد لكن نداء خفيا كان ورائي من طيف مطيعة .

استقبلتني بترحاب عظيم وقالت ماذا كنت تفعل عند خالي ؟؟

أجبتها باستغراب من خالك . قالت ابو ياسين صاحبك الذي تتناول عنده فطورك المعتاد . قلت لها وكيف عرفت

قالت رأيتك هناك وانا في سيارة الأجرة .

قلت انني اريد منك . قالت لا تكمل .

استغربت وسادني وجوم هادئ لعلها لم تلحظه .

قالت انتظر امي وسوف تصل في لحظات اعتقد انها على أبواب المدرسة .

وبالفعل دخلت امها بينما كنت انتظر فنجان القهوة .

قامت وقبلتها وعرفتها علي ، وإذا بالأم تنظر الي بإمعان وتقول .

انت زميل ابنتي القديم . ما اشطرك .

استغرب دائما تلميحات النساء فهي تختلف من حين لحين ولكن ملامحهن تبقى مبهجة حلوة في حالة الرضا.

كيف قالت ما اشطرك .

وانبرت الأم قائلة انا سأذهب مع ابنتي الى السوق ولكن حضورك غير الهدف . اتأتي معنا لمكان نجلس فيه بهدوء فالحديث طويل.

قلت طالما أن دوام المدرسة انتهى  فلنذهب الى أي مطعم ، قالت افضل أن تاتينا للبيت فقد اعددت  بعض الكبيبة ولا تتردد .

انا لا أعلم سببا لهذه الدعوة . ولكن لا اجد في عقلي أي سبب للرفض.

بعد تناول الغداء اقتربت الأم وقالت ماذا تريد من ابنتي .

انها زميلتي منذ  سبع سنوات قضيت معها خمس سنوات وانتقلت   لمدرسة اخرى  مديرها لا يعرف الا المشاحنة مع جميع المدرسين . فكأنه سبيكة متقنة من العصبية  وسوء التصرف. ضقت ذرعا وها أنا هنا سائلا القرب في المدرسة . حيث لم أجد من ابنتك سوى التعاون والفهم المشترك.

ضحكت وقالت لا يا خبيث . انت تقصد شيئا وهي تقصد شيئا آخر . وأنا افهم شيئا ثالثا.

لم تسعني نفسي ولم يسعفني عقلي من شدة المفاجأة .

اهي تقصد ما أخفيت منذ سنين .

قالت يا أستاذ . انا امرأة صامدة عصامية .

طلقني زوجي لأنني أنجبت له اربع بنات ولا يد للأنسان فيما يخلق الله في أرحام النساء.

ولكنه تركني ولا معين لي إلا الله .

عملت في خياطة الملابس النسائية وسكنت في غرفة واحدة مع بناتي واستعنت بالله

ولكني كنت أدعو على زوجي ليل نهار . واقول يا رب اهده كي يرسل بعض مصاريف  البنات .

انجبت له زوجته الجديدة ولدا فطار من الفرح ونسينا تماما . كانت البنات يتلصصن من بعيد ليرين اباهم في المكتب العقاري فرحات برؤيته .  

سارت حياتي ولا تزال في طريق صخرية شائكة . انظر هذه الغرفة ومعها مطبخ صغير. هذا بيتنا الكامل . وابنتي مطيعة أكبر البنات نعيش الآن على راتبها  والبنات الثلاث يتابعن دراستهن.

قلت وما حل بالأب .

قالت اعوذ بالله . كبر الولد وانحرف  مع بعض الشباب في اللهو والكرة حتى أضاع ثروة أبيه.

ادارت الأم وجهها نحو مطيعة وقالت لها . الأمر لك تكلمي تكلمي بصراحة .

لم أتمالك دهشتي وتساؤلي وظنوني . ماذا تريدان مني . أنا لم أخطب مطيعة . تعاون وتفاهم مثمر طيلة خمس سنوات . هل الأمر يتعلق بظنون الأنثى  أنه كلما ازداد التفاهم مع رجل ، فكأن الحب والزواج اصبحا السبيل والهدف .

قالت يا أستاذ . انا سأقبل انتقالك للمدرسة  وستكون نائبا للمدير ما رأيك .

قلت هذا ما يسعدني وأعدك ببذل الجهد المخلص والتعاون الصادق . هل يعجبك هذا.

قالت الأم انتما معجبان ببعض منذ زمن .

الله الله ، لم ابح لها بكلمة ولكن طريقة التكلم كانت واحدة ومعين التفاهم كان وعاء مشتركا.

هل أنا ...

فإذا بها تقول. هل تنتظرني ؟؟؟

 كيف أنتظر وماذا أنتظر ؟؟

قلت لها علام السؤال ؟؟

قالت عندي مشوار طويل قبلك .

قلت وما هو.؟؟

قالت لن أتزوج حتى تكمل أخواتي تعليمهن . و...

قلت وحتى يتزوجن جميعا وحتى تكوني امرأة هرمة .

قالت واجبي عسير وطريقي طويلة خصوصا بعد وفاة ابي .

واهتمامي بأخي  الذي يحتاج الى  رعاية خاصة .

صمتت وسكتُ وزادني الأمر حيرة وارتباكا.

قلت لها إن الأمر أمر حياتكما رائع وباهر.

طلاق امك كان تعسفيا فيه ظلم بغير مبرر . وزواج ابيك كان تعسفيا لسبب لا يملكه إنسان.

وزواج خالك بالثانية  كان صالحا ولأسباب منطقية . انظري للنتائج  .

قالت اكمل قهوتك واسمح لي بأن ..

تركت القهوة مع أنها ناولتني الفنجان بيدها التي لا مستها لأول مرة .

يا سيدتي . امامك جهاد طويل طويل . قالت بهزة من رأسها نعم.

أنا نائب المديرة في المدرسة  أصحيح . قالت نعم ومرحبا بك.

قلت وأنا نائبك في مشوار الجهاد . قالت الأم فورا ..ماذا .

قلت سأكون مع ابنتك شريكا في المدرسة وفي رعاية بناتك فهل تقبلين ان نكون شريكين في الحياة دون زواج.

بهتت الأم وقالت اتصدق وتفي بعهدك . قلت أنا معكما طوال الطريق .

أزاحت مطيعة الكرسي الذي بيني وبينها وقربت كرسيها ووضعت يدها في يدي