سنوات

سنوات

مصطفى ذكري

[email protected]

كانت قد أسلمتْ نفسها إليه في حلم قبل أربعين سنة.

وكان عليها أن تسد الفجوة التي انفتحتْ من جرَّاء عدم تصديقه أنها بين يديه في حلم.

كان يحملها مسؤولية رأب الصدع العميق، دون كلمة واحدة، دون إشارة واحدة.

وكان يشك في قدرتها على ذلك.

الآن بعد أن تجاوز الستين، عاودته ذكرى الحلم، وهو يُقلِّب في بعض الصور الفوتوغرافية القديمة، ومع التحديق الطويل في وجه صاحبة الصورة، عادتْ إليه لحظات قبل وبعد ثبات اللقطة الفوتوغرافية.

كانت تبذل مجهوداً مضحكاً لضم شفتيها أمام عدسة التصوير، إلا أن الابتسامة العابثة تسرَّبتْ إلى الوجنتين والعينين. كما يُكْتم الماء في موضعٍ، فيظهر في موضعٍ آخر.

كان عمرها في ذلك الوقت لا يتجاوز السادسة عشرة.

وكانت تضع مُقوِّم أسنان حديدي، تكره بمرح أن يظهر في الصورة.

بعد اللقطة الفوتوغرافية مسحتْ بأطراف أصابعها ماء الابتسامة عن عينيها.

انقطعتْ عنه أخبارها طوال أربع سنوات، ثم جاء حلمه بها فجأة.

علم في بداية خمسيناته أنها ماتتْ في حادثة سيَّارة منذ ثلاثين سنة.

كانت في العشرين من عمرها، أي في مثل عمره عندما حلم بها.

أيكون حلمه قد استدعى موتها؟ أم حادثة الموت هي التي استدعتْ الحلم بها؟

غرق في كآبة وشعور بالذنب، وهو ينظر إلى شعاع ضوء الغروب المُنفلت من وراء ستارة النافذة، والمُستقر بلونه البرتقالي الدامي على حافة المكتب.

حرَّكَ الصورة الفوتوغرافية ذات القطع المتوسط المُستعْرض التي تضم زوجته وصديقتها تحت شعاع الغروب.

مع التحريك اكتسبَ الوجهان كلٌ منهما على حدة، الضوء الواهن نفسه.

كان شعاع الضوء الضيِّق النحيف لا يسع الوجهين معاً.

بدت الزوجة بملامحها الهادئة أكبر من صديقتها، وكأنّها ستموت قبل الصديقة.

في المقابل بحثَ عن أي شيء يوحي بموت صديقتها بعد أربع سنوات من تاريخ الصورة، مُتجاهلاً خبر موتها الذي جاءه بعد ثلاثين سنة، فلم يجد أدنى إشارة- ولو خفيَّة- عن هذا الموت المبكر، إلا إذا كان عمر زوجته الذي يزيد ثلاث سنوات على عمر الصديقة، يحمل نذير شؤم مستقبلي، كان عليه أن يقرأه منذ أربعين سنة.

أدركَ بنفور وانقباض أنه عاش سنوات طويلة مع زوجته بهذا الفارق الثابت بين عمريهما.

كأنّه كان يأمل من بداية خمسيناته أن يتحرك فارق السنوات المشؤوم.