طيبة

طيبة

ماجد رشيد العويد[1]

رحلة العودة إلى بداية ضاعت وامّحت آثارها.

قال سأعود فلعلها هي التي تلوح في الأفق الفضي البعيد منارة تطوي كبوات الأزمنة.

إلى دمه تسللت طيبة ذات مساء وذات صبح كالأغنية عذبة وشجية.

تساءل في سره كم مضى من الوقت؟ ثم أردف قائلاً: لا بأس إن رتّلت الآن.. وما بين السؤال ونشوة الترتيل ترامت أمامه طيبة حزينة على حطامها وخراب سورها.   

عند السور ذاته الذي افتض بعضه منذ زمن بعيد، وفيما تحقق له من زمن يسير، تنفّس إبّانه هواء حياته الجديدة، قال سأروي لكم ما يوقظكم...

كان هذا قبل تفسخه. وخلال زمن لا أستطيع تقديره لولادة لم تكن يوماً محتملة. آنذاك أبصرت شروقاً عظيماً لشمس كوّرت من روح نقية غمر وهجها المكان، فتجلى السور ناصعاً مهيباً كما لم يكن من قبل، محاطاً بإسار من الخضرة الزاهية.

ولقد كنت ـ على ما يتداوله الموت من ضفاف الأيام المتعاقبة، والتي يتلو بعضها بعضاً دونما عودة ـ أراه عبر السطور المبثوثة في الكتب القديمة، وعبر الألواح التي طمرها التراب قروناً طويلة، رأيته يعتوره خوف وتعتوره رجفة ـ انتقلت بالعدوى إلي ـ مصفرَّ الوجه، محتقن الملامح، يختلج كالمسموم، كأن الطريق إلى موته ممهدة.

ولما لم يكن بمقدوري أن أفعل شيئاً قرأت الفاتحة، واقتربت منه أدثره بما توفر لدي من أغطية، كنت بهذا أهدئ من الجائحة التي ألمّت بي بفعل ما أراه. بعد حين هدأ واستقرت ملامحه، وزالت تلك الاختلاجات القاسية التي خددت منه وجهه.

سألته:

ـ ماذا ألم بك؟

أجاب:

ـ لقد أُهمِل السور حتى امتلأ بالنوافذ.

ـ وماذا يعني؟

ـ يعني أنني أموت.

ظل هكذا سنين عديدة يضمّه إزار مهترئ، ويضم بدوره حجراً عتيقاً بحنو بالغ لا يبرح طقسه هذا، وقد راق له أن يعانق الحجر فينهضه من سباته.

كان يقول إنه حجر قُدّ من يناعة التاريخ الآفل، واستغرق في التشكل قرناً ويزيد فبات قادراً على امتصاص الرماح المنتهية إليه، وقادراً على احتواء النيران المقذوفة بوجهه.

لما انتهى إلى السور معتزلاً للحياة، ومغادراً ألوانها وأصنافها، قرر أن يكون حديثه له وإليه. قال سأخاطب الحجر فتدب فيه الروح من جديد تواقةً إلى حياة صافية النسمات، وفي الحجر سيكون كنزي هنا في الأرض الخراب، بعيداً عن العيون الشائطة. وقال: هنا سأقيم صلاتي وأنشئ صيامي وأحرس كنزي، وأنفلت بزهدي من إسار التجليات الكاذبة. قلت له: ستتصل بك الروح الخفية وتسحبك من نواصيك إليها، وتنسجك على منوالها فتصبح بعض طيفها. قال لي: ليكن، سأتصل بها معلناً الرغبة بالاندماج فلا أغادر عالمها الطيفي إلا إلى حجر تراكمت فوقه السنون وأصداؤها، وسأعمل على عقد اتفاق مع حجري هذا فأضمه إلي فلا أجعله يبرح موضعه إلا إلى يوم تزل فيه القدم من على الصراط إلى جحيم مستعر أو إلى جنة فاخرة. وقلت له في لحظة طيش: أنت مجنون، أحمق خرجت على العرف وانتهيت إلى شمال البلدة تحرس أمواتها. قال هم ليسوا كذلك، نحن موتى، ليس الموت في فناء الجسد وربما ليس الموت في روح تغادره وربما لا أدري بدوري ما الموت؟ لكنهم ليسوا موتى هم أحياء في لبوس قاهر من الصمت، ومن التمتع بجلد المحارب الأصيل، ثم أنت بالموت تتأصل وتتأكد من كونك إنساناً عاش حياة وجسّه التراب، وانتقل ربما إلى فناء. ولست في مكاني هذا لحراستهم. ليس هذا سبب وجودي. إنما هو هذا الحجر الذي تراه أصم أبكم وأراه ناطقاً متدفقاً روحاً، حياً لوحته الشمس وأنضجته حتى غدا كأنه السجيل يحطم الرؤوس المغيرة. هذا ما أراه وما قد لا تراه فدعني وشأني في الخراب أقدس سرَّه.

تركته وشأنه. كدت أجمع على أنه ملتاث بعثر السور عقله وصيره شريد البراري، يسير حافي القدمين على أرض لاهبة، رث الثياب، طويل اللحية. كان يتيمم بالتراب، يمسح به وجهه وشعر رأسه، يتمضمض به ثلاث مرات فيختلط التراب برضابه فيثخن شفتيه. يصلي في العراء تحت لفح الكاوية. عندما ينهي صلاته يضطجع على جنبه، يترك للشمس وجهه تلفحه وتنبت صهدها في مساماته فتتدفق نيران الجحيم ألسنة من المهل، تسبقه في مسيره تطهّر له الأرض قبل أن يطأها. وعندما يتراخى النهار ويبدأ بالحلول ليل مظلم، تشتعل عيناه بنور ساطع. يبدأ قراءة مقدّسه فيهيم في الربوع الممتدة صدى الصوت خاشعاً وجلاً ومثيراً تلك الكائنات السفلية والعلوية، يكاد يرتج عليه فيتماسك. يتخذ موضعه إلى ركن شبه متداع من السور العتيق، يسند ظهره ويتجلى الجد في قسماته ويبدأ رحلة الرؤيا، رحلة إطلاق البصر على مداه النهائي في الفراغ الدامس، فتأتيه الأصوات مختلطة غير مفهومة، وتأتيه حلقات الرقص الآسر لمخلوقات آسرة أخاذة ولا يدري كيف ينهض ولا كيف يستوي جذعه ويتحرك باتجاه الحلقات منغمساً فيها متحولاً إلى شيء كالطيف، متماوجاً ومتداخلاً معها ذاهلاً شارداً ثم غائباً عن الوعي.

منذ طفولته أنشأ علاقة لامعة مع السور. يذهب إليه وحده في الليالي المقمرة مبتعداً عن بيوت الطين المتناثرة هنا وهناك. يقاوم ما يجيش في نفسه من الانفعال، ويصعّد من حبه له حتى يصل إليه مبللاً بالعرق والوجل محاطاً بالعتمة والسكون. يشعل النار يغذّيها إلى أن تأخذ حيزاً واسعاً، يجلس إليها يتدفأ ويأنس بها من وحوش الليل، ومن جنيات حكايات الجدات.

عند الغلس تبدأ رحلة العودة، مع زاد لا ينفد من نثار نفس عشقت صعودها الدائم إلى السور، وهناك عنده ترنو، إلى حفيف أغنيات الموصلي، أذنان تواقتان إلى المزيد فتتخيلان الحجارة تتمايل على وقع ألحان شجية.

روى لي ذات مساء كيف صاحبته امرأة فاتنة قال: كانت تأتي إلي في الليالي المقمرة حيث ترين السكينة مجللة بإهاب من الجمال. يوم جاءتني أول مرة كنت مستلقياً على ظهري خالي البال، مقوساً رجلي اليمنى ومردفاً فوقها رجلي اليسرى. لست أدري كيف حطت أمامي، ربما مثل حمامة بيضاء حطت أمامي. تمثّلتها آية من الآيات، وسراً باتعاً يفتح بابه على مصراعي تأملاتي في ليلة اشتد وطءُ أسرها لي. كانت فتنة تروق لذهن ملّ توازنه، فأنشد حنينه إلى سراب يرتاده ساعة الأرق، فتاة عبلة وجهها كأنه القمر انشق عن واحدة من تلك الليالي الألف البعيدة. ورأيتني أتحرك من مجلسي وأنهض باتجاهها تحدوني رائحة الأوابد. ألحق بها فتبتعد، وألحق بها ثانية، وبعد حين قصير أو طويل وجدتنا خارج البلدة بالقرب من السور، ووحدنا مع الليل المسكون بهواجسي وتأملاتي. لم يكن ثمة أحد سوانا وسط الظلام الذي شرخه ـ إلى جانب نار آنسُ بها ـ ضوء باهر أخذ يسطع من عينيها، فرأيت على شفتين عامرتين برغبة لا تروى ابتسامة وادعة. لم أكن أعلم ما الذي حلّ بي أجفول هو أم ذهول، أم كنت مأخوذاً لا حول لي ولا قوة؟

قلت في سري:

ـ لا دوام الآن إلا للحظات مهجنة مني ومنها، لحظات تختلط فيها أنفاسنا معاً.

اقتربت منها ألثم الثغر ومطلقاً كامل رغبتي بها فوق التراب الأسمر عند السور العتيق. أخذتها أطلب الإحساس بفرادتي عبر نشوة تفتك بدماغي إن أمكن. لم تتمنع، بل هاهي ذي بين يدي كتلة من نار يكسر فحيحها لعنة الليل ويفتك برموز رحلتي.

قالت لي:

ـ أنا سرك الذي يجذبك إلى السور فتمثلني جيداً.

قلت متسائلاً:

ـ من أنت؟

ردت:

ـ أنا سرك الذي يجذبك إلى السور، فاتبعني.

وسألت ثانية:

ـ من أنت؟

ردت:

ـ أنا سرك الذي يجذبك إلى السور فعانقني جيداً.

وكأني غفوت ثم كأني صحوت فإذا بي أفقدها، انسربت من بين يدي فإذا لا نار ولا نور إلا ما يشبه السراب يغيب في الأفق البعيد. مسّتني لوثة، فرحت أضرب أرض السور، أتمرغ في التراب كأني أريد أن أكتم صرخة وأن أدفن إهمالي وقلة حيلتي. لما هدأت ناجيت الحجارة علّها تدلني على الطريق، قلت يا حجر، يا تاريخ نقشته بالرمش على الجفن، يا أوابد يُطوى في رحابها بؤس الفقدِ ومرارة الخوف من الضياع، وقلت، وقلت وكان صوتي يتلاشى في المدى الواسع لأرض بلا عمار.

في الصباح، وكان هادئاً حيث لا حركة من حولي وحيث لا وجود إلا لموت ترتفع شواهده.. استرخيت مستظلاً بظل نتوء. استفزني خاطر عاجل قلت طالما أنها قالت اتبعني فلا بد أني تركت لديها شيئاً يخصّني. لفّتني سنة من نوم قلق هتف خلالها هاتف:

إن أردتني فتقصّى أثري عبر الجبال، وعبر رحم المنون في كل الفصول ولو حافي القدمين كي تصل إلي، وينفض أمامك سري. إني لا أطال بسهولة، من أرادني يشقى ويضنيه البحث، فإن كنت تملك أن تتجلّد فاتبعني عبر الجبال وعبر المفاوز، وفي كل الأوقات أدلك على نفسي وعلى نفسك.

اعبر النهر، اسلك شمالاً ثم استدر جنوباً يأتيك اليقين، يقين نزولي عليك حمامة بيضاء في الليلة الداجية، تجسدت أمامك منارة بالفتنة والجمال، وطلبتَ أن أفتك بجماد دماغك ففعلت ونشرت الحركة في أرجاء انفعالاتك. لا تنس تلك ليلة صنعنا خلالها حياة طفحت بالبشر وأثمرت مولوداً هو بعضي وبعضك، وبعض النور فلا تصدق من سيقول إنه ابن الظلمات.

أيها المستقر في عجزك ودّعه وارحل بحثاً عني. إنك إن بقيت تطلبني تحيا، يفتح الملكوت بابه وتدخل متوجاً كالملوك ظافراً شامخاً، تطوي على العيس بيداً هائلة.. هكذا ستقول الحكاية من بعدك، ولسوف تصير حديث الناس وترنيمة العصور، وسيكون السور، مأواك، حافظاً لك.

اعبر النهر، تريث في الخان يوماً أو بعض يوم، امتطِ عيسك وارحل عبر التخوم. سوف تبصر في السبيل ما يوحشك. لا تخف، اترك لجرأتك العنان. سيقول الراوي أنك أنشأت تراثاً من البطولة وأنت تعبر القفار. ارتفع فوق ما تحس الآن من جرح، ومزّق حجاب بعدك عني واطوِ إلي الأثير أيها الأثير. سترى كثيراً من المقابر فيما يقابلك من العمار لا تقف عندها طويلاً، اقرأ لا لهم بل عليهم فاتحة الكتاب، وقل أيها الموتى هاأنذا أدلكم على آثاركم الأولى.

تابع رحلتك عبر الفلوات ودع قدميك تدبان بلا انقطاع فوق لسع الرمال حتى يسيل منهما دم الرغبة بي، وإن تشقق وجهك أو تورّم من لفح الشمس فافرح لأن هذا ندائي إليك، عندها ستبصرني صبحاً ينبلج من بين أكتاف الطلل. توقف، خذ نفساً عميقاً واسترح متأملاً خيوطي وتنويعاتي الزخرفية وهي تورق على حجر تسعى إليه، وتمثل القناطر قنطرة، قنطرة وقل بصوت يرجّ أجواز الفضاء: طَيْبَة أيتها المضيعة في زحام أشباه المدن، المطروقة بالقرون المديدة انهضي. سترى باباً، اعبره إلى الداخل، سترى مسجداً عتيقاً وأطلال قصر ثم ستراني في كل آبدة وعلى كل جدار، وستسمعني أذاناً يرجّعه الصدى منذ مئات السنين، وستعلم أني لغز على جدار الحكاية نحتني الزمان وما يزال، وليس إلا على يديك انتقاله إلى البيان.

*   *   *

لم أدرك لحظة عمق علاقته بالسور.. لم أكن بالأهلية الكافية لأرى تلك الوشائج الخفية التي تربطه بسور تآكل جُلّه. وكنت أرى هدمه والاستفادة من حجارته أمراً لازماً وضرورياً. لم أملك القدرة على سبر غور تلك الرجفة سنين عديدة، تلك الرجفة التي دفعتني إلى لون من الرؤية الجلية.. الرؤية الشفافة فسطع أمام عيني ما غاب عنهما طويلاً. أبصرته يدّخر أنفاسه لوقعة متعبة أخذ يحس صليلها في رئتيه، ومع كل شهيق كان يجر إلى زمنه المثلوم والملآن بالجراح إصراراً بالتحصن، ويستمد من الدثار القديم غطاء لزلزلة ضعف محتملة. ولما كنت أريد أن أخرجه من شروده سألته:

ـ أو لا يُحتمل أن تكون جنية؟

توقفت قليلاً ثم أردفت:

ـ لابد أنها جنية وليست إنسية..

ـ لا. لقد شممت رائحتها. شممت فيها رائحة الطين وعبرتني ريحُ العمار. هي إنسية استقامت أمامي في غلالة من حرير وقالت لي أنا بين يديك فكوّني من جديد على نحو جديد. هي مقدودة من الحجر، من بين صلب السور وترائبه. ركضنا وجبنا الأرجاء معاً، ومعاً سمعنا صوتاً عذباً شجياً. لما اختفت لبيت نداءها. قالت إن لي مولوداً وانطلقتُ أبحث عنهما معاً.

ـ وهل وجدتها؟

ـ ما زال في السور بقية من رمق.

ـ وماذا ستفعل؟

ـ لا شيء سوى إقامة أوَدِ السور بالترميم وبهذا لا أموت.

كنت أريد له أن يتابع رحلته فلا يقرب رجس انمساخ الحجارة إلى بيوتات شوهاء ترطن جدرانها بذوق عاجل ومتضائل. وحتى أؤكد رغبتي هذه قلت له:

ـ استمر في رحلتك.

ـ ومن قال لك إني لن أفعل. كل ما الأمر أني أتدبر إنشاء نفسي قبل إتمام الرحلة، نفسي المغشي عليها. إني أبحث عن أدم الريق كي لا أعطش، فإذا وجدته تخلصت من غَلَلِ الفَقْدِ وملكت ناصية التوازن.

رحت أراقبه عن كثب، أتملى وجهه وصمته، محاولاً الوصول إلى كنه ما يخفي.

قلت له:

ـ لم لا تحدثني عن بداية رحلتك؟

اتخذت مجلساً قريباً منه. تهيأت لأسمع حديثه. قال

ـ عبرت النهر على سفينة دكّها الزمان ثم رممها الذي يقتات بها. السفّان صامت وأنا كذلك، غير أني كنت أجيش بالأسئلة. الأفق  أمامي تكسوه حمرة آخر النهار، شفق يطويه غسق. حاولت الحديث إلى السفّان. لم يرد، ربما لا يحب الحديث أو لا يستطيعه، أو لعله لم ير ما رأيت من فنون الرقص ومن التمرغ الدافئ فوق التراب. كانت تمور بشهوة الكشف عنها فأعلنت من بين غلالتها الحريرية الشفيفة عن مفاتن هالني جمالها وبعدُ تناسقها. استقرت قدماي على الضفة الأخرى، بدأت أمشي مشي وجلٍ. كنت كلما ازددت بعداً عن الماء دخلت أكثر في الرمال وتبدأ هذه تشدني إليها. طلع نهار ودخل ليل. مضى على مسيري عشرة أيام نفد خلالها زادي من الطعام والشراب. خارت قواي، شعرت أن جوفي ينكمش من الجوع والعطش، كنت في الرمق الأخير ألفظ أنفاسي فتهاويت على الأرض يحرق قيظها ظهري، عيناي تحدقان في الشمس اللاهبة حتى شعرت أنهما تقرحتا إلى الحد المقزز، قلت أليس من غَلُولٍ يقيني الغائلة؟ كدت أدخل في غيبوبة لولا أن اخترقني نداؤها: اقس على نفسك وانهض حتى تأتي القصر وتدخله عندها ستراني افتح الذراعين يفوح مني أريج الطلل. اركض نحوي، عانقني.. ضمّني كما لو أنك لم ترني منذ آماد، خذني إليك أو سآخذك إلي وأدخلك في غلالتي. فلا يفصل عندها بينك وبين رحيقي شيء. إذ ذاك سأمنحك، وأنت تقبلني إكسير مجد يستقر بين ضلوعك رغبة متعالية بالحياة فتطحن أمانيك ثم تذروها فوق ما ترى من ركام الحجر حتى يستقيم واقفاً على هيئته الأولى، انهض وتابع مسيرك فإن عندي سر الطين الذي تريد لإعادة بناء الحجارة.

كنت متلهفاً إلى سماع المزيد وإلى النتيجة فقاطعته:

ـ وماذا بعد؟

ـ تبدد إحساسي بالخوف والجوع، وتابعت سيري. بعد حوالي ساعة واجهت باباً أفضى بي إلى خرائب مدينة تألقت أول الزمان، مدينة هشة، مبعثرة الروح، هامدة، خامدة بلا بريق، هكذا كان إحساسي في انطلاقته الأولى. دخلت المدينة مضطرباً، قدماي تطأان أثراً بعد أثر. انتهى بي مسيري إلى بقايا قصر، عبرت إلى داخله أطأ أرضه مصحوباً بانفعال غريب، وبصوت تناهى إلى أذني موقعاً على أنغام حملتها ريحُ المكان وقد أقْفَرَ. جاش في جنباني الانفعال، وتراكمت الأصوات حتى أحسست أني أدلف إلى قاعة رحيبة. عبرت الممرات محاطاً بالرسوم والزخارف وقد علاها غبار تراكم الأزمان. كان حالها يشبه حال الحجارة النائمة جنباً إلى جنب يحتُّ منها الزمان جزءاً مع الريح وكذا يدُ المنون البشرية. حددت هدفي، وسط اختلاط مشاعري في الوصول إلى تلك القاعة. وهنا قاطعته بنفس اللهفة.

ـ أية قاعة؟

وأجابني وفي ملامحه بعض التعب:

ـ كانت تلك هي القاعة التي حددتهَا لي قالت: ترى القاعة، ادخلها مصحوباً بالبركات.. ستبصرني باسمة الثغر، يطفح بالبشر محياي، عندها اركض نحوي، إلى حضني مكثفاً رغبتك بي، وعانقني فأنا الخلود في إهاب أنثى، أدلّك على نفسي وأدلّك على نفسك.

لقد قطعت ما قطعت لأجل الوصول إلى تلك القاعة التي فيها سرّ حكايتي، وعلى جدرانها دُوّنَ عشقي للتراب. صوّرت لنفسي وأنا أسير أني سأراها في منحوتة قدّت من صلصال مقاوِم، صلصال لا يعرف التفتت ولا التفسخ ولا التبدل مجرد التبدل. تصوّرت أيضاً أشياء هالتني روعتها وربما أيضاً هالتني دقة صنعها، وكنت وأنا أتصور هذه الأشياء أعيش خلوداً لم يكن لغيري، بل لقد أيقنت من أنني صائر إلى خلود شفيف أرى من خلاله حركتك وحركة الجميع، وأرى من خلاله عُمر السور وما قُدّرَ له.

توقف. كان التعب بادياً عليه. الرحلة شاقة ابتدأها أول شبابه يرمّم السور ويقصّ حكايته. عشرون عاماً وهو يرافق السور ويقيم أوده بما تيسر له من الطين. لما رأيته وقد هدّه الإرهاق قلت له:

ـ لم لا نكمل غداً؟

ولم يرد.

كان يأسرني إيمانه بالسور، حتى آمنت به مثله رغم أني كنت أرى فيه حجارة لبناء الدور لا أكثر. لم أستطع زمناً طويلاً الولوج إلى أعماقه ولا إدراك كنه أفكاره، ورغم أني رأيت فتاته وهماً أو شيئاً من هذا القبيل إلا أني آمنت على الأقل بجاذبية ما يروي، وآمنت أني سأفهم بانتهاء القصة كيف أفنى عمره عند السور يرممه ويحادث طيف فتاة متخيلة.

كان الليل قد حلّ وسقط فوق الأنحاء مُعتماً بهيماً. نظرتُ ناحيته فرأيته افترش الأرض وغط في نوم عميق. بإمعان رحت أنظر إليه محدقاً بوجهه علّني ألمس في التقاطيع دليلاً أو علامة تدلني عليه، وتخلصني من شعور مضن بأنه مجنون شريد البراري وطريد الأوهام. كان نائماً بهدوء، مسترخياً مطمئناً غير وجلٍ، تمددت قريباً منه أحدق في الفضاء مشتت الفكر ثم غفوت.

في الصباح وقد انبسط الضوء ، جهزت إفطاراً متواضعاً. أكلنا ثم بادرته بالسؤال:

ـ ما رأيك لو تابعنا الحكاية؟

أجاب بعد أن تمطى وتثاءب:

ـ سأفعل، سأفعل.

وراح يحدق في المقبرة الجاثمة أمامه. نظر إلي وقال:

ـ كما قلت فيما مضى هم ليسوا موتى، إنهم في رحلة نوم قد تطول. صمت ثم تابع بعد قليل:

ـ رسمت صورة للقاعة قبل أن أراها. تخيلتها رحيبة واسعة مزخرفة من الداخل على نحو خارق يوحي إليك أن طاقة ظلت حيناً في كمون ثم تفجرت عن تكاوين من النقوش والزخرف، طاقة حُرِمت من تبديد ملكاتها في التصوير فنشطت الأنامل على قاعدة من الحسّ المتأجج تبدع أجمل النقوش محمولاً على حجر الفسيفساء الناطق روعة وجمالاً وفتنة.

لما صرت عند الباب ـ باب القاعة ـ وَجِلَتْ نفسي وارتاعت واقشعر بدني. وطأت العتبة فازدادت قشعريرتي. ولمّا كنت مصراً على رؤيتها ومعانقتها وتقبيلها غامرت مستجمعاً قوتي وداخلاً. صار الباب خلفي، أمامي ظلمة تامة شرختها للحظات حزمة من الضوء عبرتْ إلى الداخل قبل انغلاق الباب خلفي ودون إرادة مني. كان يحيط بي ظلام دامس. لا شيء يُرى ولا شيء يُسمع خلا ذلك الهمس الكتيم الذي ينبعث من أرجاء المكان معفراً برائحة الهجر. أحست تلك الرائحة قامت من مرقدها تنشر عبيرها فيفوح في الأرجاء أملٌ متحفّز. 

لدقائق وقفت مغموراً بالظلمة لا ألوي على شيء، مشلول الفكر والجسد، واهن الروح. ماذا أفعل؟ أية بلوى بانتظاري وأية حماقة دفعتني إلى هذا الوضع؟ أمطرني الرعب أسئلة كثيرة فككت توازني. هدأت وصابرت عساي أتلمس دربي إلى ما يبدد الظلام المسيطر، وفجأة تناهى إلي الصوت ذاته عذباً رائقاً وشجيّاً فياضاً بالرغبات.. تناهت إلي الكلمات: أنا سرّك الضائع فالقني وأنت تقرأ الحكاية، حكاية نفسك المغشي عليها، ابحث عن أَدَمِ الريق كي لا تعطش فإذا وجدته تخلّصت من غَلَلِ الفقد وملكت ناصية التوازن. تناهت إلي متدفقة نوراً ورونقاً. تبدد الظلام فإذا ملكوت باهر من النقوش قستْ لأجله الأنامل فتجلى يثير عبر الزمان الأسئلة تلو الأسئلة. كنت أقلب النظر في الجدران من حولي، أردت للحكاية أن تكتمل فأخذت أمعن النظر في توزّع حجر الفسيفساء ودقة توضّعه على الجدران. وقلت في غمرة اندهاشي سأسمع الآن صوتها وأرى صورتها تنبثق من الحجر كما أول مرة، فتاة عبلة، ناهدة الصدر، ريانة يستقر كفلها على رخامتين مدورتين.

توقف رافعاً رأسه إلى السماء، عيناه مصوبتان باتجاه الشمس، وما يلبث حتى ينحدر بهما صوب المقبرة. كنت بحاجة إلى توقفه هذا لأتمثل بعيني قبل أذني إحساسه وقد انغمس في حكايته.

قلت وكأني أريد فقط أن أبدأ حواراً:

ـ تحدّق في الشمس كثيراً ستؤذي عينيك.

ـ لا لن تؤذي عيني. على العكس، سيدلني وهجها على الكيفية التي كان يُشوى بها الآجر.

حاولت أن أغير الحديث فسألته:

ـ وماذا بعد ذلك؟

ولم يجبني، بل راح يتابع تحديقه في الشمس اللاهبة.

 *   *   *

 هزّني إيمانه بمدينته وحبيبته. كان يماهي بينهما فيقول: طَيْبَة هي من التقيت عند السور.

أرّقتني هذه الحكاية، حكاية طيبة العائمة فوق سطح خيالاته ورجائه، بقدر ما هزّتني وبقدر ما زعزعت فيّ من ثوابت بالية وعتيقة، طيبة بسورها النازف في ليل عميق. أيقنت ببعده عن الحماقة وآمنت بصفاء مشاعره، وإن بقيت بيننا تلك الحلقة المفقودة. وقلت: يجب أن أؤمن بالسور مثل إيمانه، وبهذا أنفذ إلى أعماقه أجلو بنفاذي إليها أعماقي التي علاها الصدأ. ومَرَقَتْ بي وهلة مشحونة بالحاجة إلى الطواف حول السور متفحّصاً باحثاً علّني أرى شفيعاً ينقذني من غفلتي، فها هو أحمد قد قضى عشرين عاماً في رحاب حجارته المسفوحة حول البلدة في غير انتظام، يجمعها ويعيد بناءها ثانية دون أن يكل أو يملّ، وكنت أرى السنين أوهنت السور، بينما هو رأى النقيض عندما قال: لم تستطع السنون خلعَه من بهائه. 

علاني الصداع وأرهقتني الشمس. كنت شارداً وكان كذلك. مضى على صمتنا ما يقرب من الساعتين دون أن نتحدث. كنت محتاجاً إلى خلوة تساعدني على تمثل ما سمعت وعلى أن أتبين مكاني من حكايته التي انشددت إليها بكل جوارحي.

قمت من مكاني أنفض بعصبية التراب عن بنطالي. حثني دافع خفي على تركه يغرق في تأملاته وحيداً. انطلقت ماشياً حذاء السور، علّني ألمس إحساسَ أحمد به، أجلوه بما بقي عندي من رضاب السعي، أحادثه حديث المعتذر التائب وأتلو عند حطامه ما يتيسر للائذ من شر مستطير. قلت: سأظل ماشياً حتى أقطع السور كله، أرى ما فُتح فيه من نوافذ وأتخيل ما انهار من أجزائه فأكرّس من قناعتي الوليدة بما يفعله إزاءه وبما يقدمه له من ترميم، ورغم ذلك بقي في نفسي شيء ما رافض لتخيلاته وأوهامه. وعلى الفور انتابني إحساس بالضياع وآخر بالحاجة إلى إعادة بناء ذاتي وترتيب قناعاتي، وتشكّلت للقضاء على تلجلجي رغبةٌ عارمة بإطلاق صوتي إلى نهاياته وسط الصاهدة اللافحة.

وفعلت:

قلت: لا تُمسخي يا مدن الطلل واشمخي أبداً فوق المحن، طيبة ستنهض من رقادها. انطلق صوتي عالياً، كنت أريد تمزيق خجلي أو لعلي أردت تمزيق نفاقي وضعفي أو لعلي أردت أن أدرك نجدةً تقيني نعشَ بلادة مُرّة.

أدركني الوهن فاتكأت على السور. أحسست برودة خفية، خففت من حدة اللظى المتساقط من السماء. استدرت باتجاه الحجارة المطمئنة، وضعت يدي فوقها أفركها بانفعال ممزوج بالفرح. يوم قلت له: إنها حجارة. قال لي: نعم هي كذلك ولكنها فيما مضى أنسلت لحناً شجيّاً داعب أنفاس الطلل، وقال لي لو أدركتَ مثلي عذوبة غناء الموصلي لوهبك السور فتاة عبلة كتلك التي عندي، فافعل حتى تأتزر بإزار يتعالى على كل إزار رخيص.

انطلقت صوبه عائداً أحث الخطا على عجل، وقد بدأ يتضاءل حجم الحلقة التي تفصلني عنه. الأرض أنبتتها الشمس صَهداً لاهباً موجعاً. ألمت بي رعشة كادت تبكيني وأنا ألمس السور يدخل في مهاوي الآفلين، رعشة انتابتني مع إحساس به بدأ يتعاظم فلا أقل من حمايته من أولئك الذين وفدوا يستنيرون ببطونهم الضاوية. 

عندما وصلت إليه بدأت الشمس غروبها تاركة وراءها شفقاً شفافاً. جلست قبالته أنظر إليه مشجّعاً. سألني:

ـ أين كنت طوال هذه الساعات؟

ـ قمت بجولة حول السور.

ـ هل أعجبك ترميمه؟

ـ نعم أعجبني وسرّني.

ـ ستدرك فيما بعد ما للسور من قيمة، فهو ذاته الذي حمى طيبة من الغزو وهو ذاته الذي ضمَّ حانياً حلقات الفقه وهو الذي كان شاهداً على عصر طفح بالطرب وفنون القول والكلام.

كنت أراقبه بإعجاب وهو يلوي فمه ثم وهو يرفع رأسه وينظر باتجاه الأفق. لم أعد أهتم إلا بإيمانه بهذه الحجارة، بهذا الركام المقاوم عتوّ الزمان، وبنزوعه الصارم والأبدي إلى فتاته العبلة الريانة. فتاة تمخضت عن الآجر المشوي، في ليلة ظلماء. قال خرجت من بين الصلب والترائب فاتحة الذراعين، يملأ الثغر منها أريج الطين. واستبد بي الحنين إلى بقية الحكاية. فسألته باندفاع:

ـ ألا تتابع حكايتك؟

كان يحدق في التراب قبل أن يغرز فيه أصابعه ويحمل بعضه بيديه ثم يذروه متأملاً ذراته وهي تسبح في الفراغ.

ـ كما قلت لك.. استقر كفلها على رخامتين مدورتين. قلت سأستعيد وضاءة تلك الليلة، وسينتشر في الربوع صدى اللقاء تردده الآفاق والأفواه.

بدأت أرى كل شيء من حولي. كانت قاعة واسعة في نهايتها باب مغلق أثار فضولي بروعته. باب واسع بقطعة واحدة عالية ومزخرفة. تأسرك الزخارف ويخلب لبّك صانع مجهول. أمسكت مقبض الباب، أدرته فانفتح على قاعة أخرى أوسع تقطعها ثلاثة صفوف من القناطر، كل صف يحوي ثلاث قناطر، متصلة ببعضها، مكتوب عليها بالخط الكوفي، من هنا يكون عبورك إلي أيها الداخل جنّتي. عبرت القناطر إلى باب آخر في نهاية القاعة. حرّكت مقبضه فانفتح على قاعة ثالثة أكثر جمالاً وأشد سحراً. وقرأت، أنا الروض أُغني عن كل روض أيها الداخل، تيمم بالتراب ثم أقبل معانقاً، ضاماً وطائفاً أسقيك من لبني حياة دائمة. ما إن انتهيت من القراءة حتى اختفى جدار القاعة الذي يقابلني. امتد أمامي أفق يتصل بسماء صافية لدنة. تقدمت خطوات وانحدرت بعيني إلى أسفل، فإذا أرض يلمع فوق سطحها تراب بلون الذهب وطأته بقدميّ فتلبّسني شعور بالوجل، شعور عابر لا يُقبض ولا يُدرك، ثم وفي لمح البصر تجسّد أمامي باب من تلك الأبواب الدوارس، ليس فريداً في بنائه على جماله، سرت باتجاهه، عبرته إلى الداخل فإذا مدينة نائمة كأنها مسحورة، مدينة سُقيت جنباتها نوماً طويلاً. تجوّلت فيها دونما اطمئنان وكذلك دون ذلك الوجل الذي ألمّ بي أثناء دخولي. كنت حالة وسطاً بين نقيضين، وأستطيع أن أقول لك إني فقدت إلى حين شعوري بنفسي وذلك بدلوفي إلى عمق ما يمكن تسميته، رحيلاً أو موتاً أو شيئاً من هذا القبيل.

عندما حلّ الليل بدأت أبحث عن مكان أنام فيه. اخترت بقايا جدار متداع أسندت ظهري إليه ثم رحت في نوم عميق. في الصباح تابعت جولتي، سرت طويلاً حتى أعياني المسير، ألهث من تعبي وجوعي وعطشي. خُيّل إلي أني رأيت قصراً أو بقايا قصر كُتب على مدخله.

   قصر عليه تحية وسلام        نثرت عليه جمالها الأيام

عند مدخل القصر رأيت فتاة وضيئة، أخّاذة تلمع كأنها الذهب أو كأنها قمر يقهر الظلمة. ممددة باسترخاء تام على ظهرها، اقتربت منها مركّزاً أنظاري إلى صدرها فإذا به يخفق بانتظام. ملأني الحبور وأنا أوقن أن الدنيا تبسمت لي. كدت أصرخ من تزاحم الفرحة عند عتبات انفعالي، غير أن صراخي غاب في جوفٍ اشتد ظمؤه. مسحت دمعة انحدرت. أمسكت بكتفها أهزّه حتى صحت واستعادت رشدها، كان لتنفسها انتظام الزمن. إنها ـ كما اختفت تلك الليلة ـ مسربلة بالنور والبياض، هي كما يوم حطّت أمامي حمامة بيضاء. قلت لها وأنا أتأتئ من سعادتي:

ـ الآن لن أدعك، بل سأمسك بك بكل ما أوتيت من قوة.

كان الحسّ باللقاء يتصاعد نشوة فاتنة تهزّ توازني. اضطربت وشعرت أن أطرافي تصطك ببعضها بعضاً. سألتها:

ـ ما اسمك؟

ـ ..

ـ لن أدعك حتى تجيبي على سؤالي

استوت بجذعها وجرّت إليها حجراً اتكأت عليه، قالت:

ـ سعاد.

ـ ولمَ أنت هنا في هذه المدينة النائمة؟

أجابت:

ـ إنها مدينتي وهؤلاء النائمون أناسي وعشيرتي. وتوقفت قليلاً ثم تابعت:

ـ لم تنتهِ بعدُ رحلتك، فلكي تستعيد مجدَ تلك الليلة عليك إيقاظ النائمين، وهذا جوهر رحلتك.

ـ وكيف يكون إيقاظهم؟

ـ تلك مشكلتك، ثم إني لن أكون لك ثانية قبل إيقاظهم.

وسألتها:

ـ لمَ تركتني وحدي تلك الليلة؟

ـ لأنني أردت أن أثير لديك الرغبة بالبحث، وهاأنت قد فعلت.

عدت ثانية إلى الموضوع الأساسي وسألت:

ـ منذ متى هم على هذا الحال؟

ـ منذ زمن بعيد، بعيد جداً.

ـ ولكن أليس من علامة تقدمينها لي في رحلتي؟!

ـ لا، ليس أكثر من القول إني لك إن نجحت في مسعاك.

قالت هذا ثم ارتفعت محلّقة عالياً يتخطّفني جمالها، وتسكب فوقي من طيرانها رائحة الطلل البهي ممزوجاً بأنوثة لدنة تتلوى في طيرانها، فيرفرف منها الصدر مرسلاً ماء عذباً، ويهتز الساقان النبيلان ويتطاولان كأنهما وصلا إلي فأتعلق بهما وأطير معها مخلّفاً تحتي سوراً وقاعات ومدناً وصحارى، منتشياً سابحاً في بحر روحي متدفق.

*   *   *     

حسبتهم حال وطئي مدينتهم أيقاظاً فإذا هم رقود دون الموت، وفي نوم عميق، فأي إكسير ينهض بهؤلاء من رقدتهم؟ وطفقتْ عبثاً تتالى الأسئلة المفجعة، وخالجني الشك في مصيري، وشككت في ملكاتي الذهنية، وأن ما أرى ليس أكثر من تخيلات مريضة. وكلما أمعنت النظر في هذه الأفكار، رأيتها تتجسد لي حاثّة إياي على عدم الركون إلى هواجسي.

انطلقت في المدينة الذاوية جوّالاً يسعى. كانت جنبات المدينة وقد انطفأ بريقها تثير الوحشة. تابعت مسيري. رأيت مسجداً عتيقاً وأبصرت تحطّم مئذنته، ولما عجزت عن الوصول إلى أعلاه، اخترعت وسيلة ارتقيت بها حيث أردت، ثم أخذت أؤذن في النائمين كي يصحوا.

انحدرت إلى أسفل، وفي ذهني متابعة البحث عن وسيلة أوقد بها نار الرغبة بالحياة. سرت وفي ذهني فتاتي سعاد، سعاد ليلتي المنيرة عند السور، سعاد التي دفعتني إلى ترميم السور وسد ثغراته، وإعادته إلى الحياة ناطقاً بحسّ يفوق ما ينشره الطلل من حسّ بالتأمل. وكلما تذكرتها أمدّتني بالطاقة المثلى فأبدأ البحث دون تعب ودون سغب عن روضتي، وأتذكر بيتاً من الشعر حفظته فيما غبر من الأيام.

وصف الرياض كفاني أن أقيم على      

وصف الطلول فهل في ذاك من باس

كانت السماء قد أغسقت، وبدأت بالهبوب نسمات باردة منعشة، رأيت وجهه يغزل صمتاً شارداً وحركات رنّحتها السنون. شردت عنه. كنت أسمع حكاية تشبه الحكايات البعيدة وأغفو على الحنين إلى المزيد، فأستعجله بالكلام وبالإشارة. لما أدركت أن لا فائدة من المتابعة دعوته إلى تناول العشاء فأجابني إلى ذلك، ورحنا نأكل بشهية.

صباح اليوم التالي نهضت ممتلئاً حيوية. نضج إحساسي بالسور وطفقت أفكر في انقطاعنا عن العمار، وكأنه أدرك بما أفكر فقال لي:

ـ إذا أردت الوصول إلى حلّ لمشكلة ما فما عليك إلا بالانقطاع عن العمار فيصفو ذهنك ويفيض عندها بالرأي الصحيح.

ما سميته جنوناً تقمّص أحمد، كان حباً خالصاً ونهائياً للطّلول وللرياض الكامنة في رحم حجارتها. واستطعت بجهد نافذ رؤية ذلك الخيط الناعم والقوي الذي يربط لديه بين سعاد والسور وقلت إن سعاد وإن كانت وهماً خلقته الذاكرة لتستريح بظله من عناء السنين والهاجرة فإنها حافزه في رحلة استغرقت ما يقرب من عشرين عاماً عَبَرَ خلالها الصحراء دون أن يركن إلى تعب، أو صداع ظل يستبد به حتى مماته.

روى قصة السور، الذي أعاد بناءه، للملأ لحناً يملك به العقول وقال: إن داخل السور عين اليقين وفيها الروح القادرة على إزالة السحر الواقع على المدينة. وقلت في سعاد شيء من الحقيقة، فلعلها حبه الأول الذي أظله يوم صار طريد شكوكنا ونعوتنا، فلا غرابة أن يحبها هذا الحب ولا عجب أن يبحث عنها بين ركام الحجارة المتناثرة هنا وهناك، واستنتجت أنها لم تمت في أعماقه وإنما ظلّت متغلغلة فيه تحثّه دائماً على تذكّرها والوله بها.

لم أكتف بالاقتناع بأحمد، على العكس ذهبت إلى أبعد من هذا ، أخذت أتمثل أفكاره وأسعى إلى تطبيقها وتنفيذها. يوم قال لي لابد أن تتابع الرحلة جاش السرور في أعماقي وبكيت. لقد أدركت أنه لن ينقشع السحر الواقع على المدينة على يديه، وأنه يدنو من الستين وأن موتاً يقترب منه.

قال:

ـ تابع رحلتي وفكّ رموزها عندها سترى سعاد مسربلة بضوء سماوي. تزوجها وأنجب منها الذرية الصالحة وضمّ إليك ولدي الذي لم أره.

ـ من أين أبدأ؟

ـ من المدينة نفسها. إذا عرفت كيف نامت عرفت السبيل إلى إيقاظها، ولا تنظر إلي وأنت تبحث عن الحل. وإذا وجدت أنك ملزم بمغادرتي فافعل. هي ذي وصيتي إليك فلا تنس.

ـ وكيف أغادرك؟ لا لن أفعل.

ـ بل ستفعل ومن الآن لتعيش نفسك، ومتى تحقق هذا تكون متصلاً بي من غير انقطاع.

ـ وهل ستبقى هنا في الخلاء وحدك؟

ـ لقد جهزت حفرتي، إنها في الجانب الشرقي من السور. عليك أن تبدأ البحث فلقد أوصلتك إلى بداية الطريق وعليك أن تتابع رحلتي ولا تتقاعس، إذا أجبرتك الظروف على أن تتخلى عن بعض أفكاري فافعلْ. اجعل يقينك في إيقاظ المدينة. وإذا وصلت إلى الحل عُدْ وأبلغني.

التحول الذي طرأ عليّ بدّل من ملامحي. جهزت ما أحتاجه لرحلتي وانطلقت.

عند مشارف المدينة أدركني النعاس. نمت كيف ما كان، وفي الصباح تابعت مسيري. بعد حوالي ساعة رأيت الباب المندرس. كان كما وصفه أحمد آية في الجمال. عبرته إلى الداخل فواجهتني ريح ساكنة. أطلقت نظرة شاملة وسريعة فإذا نوم طويل قد استبدّ بالناس. تساءلت كيف يكون إيقاظ هؤلاء الناس ممكناً؟ وراودتني فكرةٌ قلت: سأفعل كما فعل أحمد وأصعد إلى مئذنة الجامع وأؤذن ولكن بطريقة مختلفة، وفعلت.. ثم نزلت وقلت: أقوم بجولة وجولات إن احتاج الأمر فأرى المدينة من أنحائها كافة، ولعلي بهذا أحلّ اللغز. وحرت من أين أبدأ قلت: من الناحية الشمالية ثم قلت: لا، بل من الناحية الجنوبية، ثم قلت من الناحية الشرقية. لم أدرِ من أين وكيف أبدأ حتى جاءني صوتٌ يقول: إن الحيرة أول ما يجب أن تقتل بعدها اعزم. قلت لابد أنه صوت سعاد نعم إنه هو. نفس الرائحة التي أسكرت أحمد أعوامه الماضية. انتشيت، ثم عزمت على المضي إلى الناحية الشرقية من المدينة. أول ما رأيت شارعاً تتلاصق المتاجر على جانبيه، أبوابها مشرّعة للشمس، وللهواء والرفوف التي بداخلها فارغة علاها الغبار. عند باب كل متجر رجل متخذ وضع الجلوس، غير أنه في سبات عميق وعلى شفاه كل من شاهدت من الرجال ابتسامات تنم عن أحلام كسولة. قطعت الشارع حتى نهايته فإذا مفترق طرق، وإذا أربعة شوارع تواجهني، وبسرعة اتخذت قراراً بعبور ذاك الذي يدفعني خارج المدينة، خارج العمار الميت إلى الخلاء الرحب الوسيع، وقلت سأغذّ الخطا إلى حيث يتربع الجبل القديم، الجبل النضر الذي افتضت قمته في غابر السنين. وهزّتني، بينما كنت أتخذ قراري بعبور الشارع المؤدي إلى خارج العمار، كلمات أغنية أتت مع الريح التي بدأت بالتحرك وإن ببطء شديد. كلمات أحسست بها تريد إثارة الريح الساكنة، وهزّ الأبدان المضطجعة منذ أمد بعيد. لقد حدثني أحمد عن الموصلي كثيراً حتى عرفته جيداً، وقلت: لابد أن هذه الأغنية من أغانيه التي فوّرت، يوماً، الحياة بحرارة النظم البديع.

طال حيث كنت أقف لبثي. تخللتني متعة لم أعش من قبل مثلها، وتمنيت لو يطول مكوثي فتشرب حواسي إيقاع المكان المسطور في هذه الأغنية.

بدأت أقطع الشارع المفضي إلى الخلاء، ورحلة أحمد تدبُّ معي في كل خطوة أخطوها. أخذت أوقن بأني على نفس الدرب الذي سلكه مع فارق أنني لن أتردد في قراري. راودني إحساس بالظفر، وبلغ مني الحبور غايته، فقلت: لِمَ لا، ولكن يجب علي أن أغذي هذا الإحساس وأن أتمترس في إرادة صلبة حتى أصل، وصدمني السؤال إلى أين؟ في الخلاء لا يوجد أمامي سوى الجبل تترامى من حوله وديان، ويترامى من حوله قفر موحش، شحنت خُطاي بالعجلة وبالرغبة بالوصول حيث أعلاه عسى أخرج بالحل.

عدت إليه.

لقد أدركت سرّ اللغز، وعلمت تفاصيل الحكاية وتوصلت إلى سرّ الطين وسأعمل على جَبْله وإغلاق النوافذ الكثيرة. قلت: لابد سيفرح، نعم سيفرح وليس يهم من وصل إلى الحل أنا أم هو. المهم أن الحكاية اكتملت.

لما وصلت إليه وجدته حِذاء السور ميتاً. جلست إلى جثته ساعات أتأمل وجهه الذي تخدّد محاولاً قراءته. قمت أجر الجثة إلى القبر الذي حفره بيديه. سويته فيه ثم أخذت أهيل التراب. غرست شاهدة من جانب الرأس وكتبت عليها العبارة التي قال لي ذات يوم إنها أليفة إليه: من هنا يكون عبورك إلي أيها الداخل جنتي.

استويت واقفاً. نظرت إلى الأفق الفضي البعيد، ثم لا أدري كيف شعرت نفسي تختلج وتتماوج وتصبح طيفاً يلج نسيج الحجارة العتيقة المتربة، وتصير جزءاً منها فيلتقي الصاحب بالأثر، وتُطوى السماء ضامّة الأرض في طقس من تصاعد الروح وتعاليها عبر ملكة من الصفاء والتجلي.

              

[i] أديب سوري