حدث في الطائرة
محمد الحسناوي
نحن الآن على متن الطائرة اليمنية من »دمشق« إلى »صنعاء« بعد أن توقفت قليلاً في مطار »عمان« وأقلعت مرة ثانية. الساعة الآن هي العاشرة والنصف من مساء يوم الأربعاء الموافق للثامن والعشرين من شهر رمضان المبارك عام 1986م في سماء عمّان.
لا ازدحام في الطائرة. بعض المقاعد خال. في الربع الأول من الردهة زوج وزوجة شابان، معهما طفل في شهره الخامس يغط في نوم عميق هنيء. في الربع الأخير من الردهة امرأتانن في العقد الخامس، إحداهما تجلس بقرب الممر بلباسها »الحلبي« (ملحفة سوداء)، دون الستين من عمرها، قد خدَّد الزمن في وجهها الهادئ. المرأة الثانية أصغر منها قليلاً، تجلس بقرب النافذة، مع طفلها الذي لا يجاوز الثامنة من عمره، تلبس جلباباً طويلاً على النمط الدمشقي المحتشم.
الزوجان على عجلة من أمرهما، التحقا بالطائرة في مطار عمان. أمّا المرأتان الكهلتان فقد ركبتا الطائرة في مطار دمشق.
منذ دخول الزوجين الشابين باب الطائرة والجو يعبق بموجات قدرية ذاهبة آيبة، بدأت خفيفة، ثم أخذت تشتد كلما تقدم الزمن. لم يكن الزوجان وحدهما بلباسهما الصيفي المدعوك هو مصدر هذه الموجات غير المرئية. بل كانت المرأتان أيضاً مركز استقبال وإرسال. هل كان يخطر ببال كل من مركزي الاستقطاب أن سوف يحدث لهما ما سوف يحدث؟!.
بوسعنا أن نسبر غور النبضات الأولى لهذه الموجات منذ ولادة الزوج الشاب »صالح« منذ ست وعشرين سنة، بل منذ زواج أبيه وأمه، ثم حملها به، لكن ذلك يتعب السادة القراء، ويشتت الأذهان، فلنكتفِ بالسنوات الأخيرة، التي يمكن أن توحي بكل ما يلزمنا الإشارة إليه، من تصاريف وشبكات مقدرة تقديراً.
- أريد أن أسلّم على هاتين المرأتين. هل عندك مانع؟ (قالت الزوجة الشابة).
- دعينا نستريح قليلاً من عناء السفر المتواصل. (بلع الزوج ريقه، وهو يسترجع شريط الأربع والعشرين ساعة الأخيرة، يعبر فوق المرتفعات والمنخفضات أرضاً وجواً، وعبر نقاط الحدود، وتفتيش الأمتعة، وفحص الأوراق والجوازات..).
- أنا غير متعبة. خذ راحتك. أنا سأستأنس بهما، وأشم رائحة سورية. (هل ركوب الطائرة والبعد عن القيود الأرضية أعطتها هذه الجرأة! سورية شيء سحريّ باهر في نفس الشابة المغتربة. هي الأهل والنسيم والعطر والغدران العذبة والبهجة العميقة والسعادة المفقودة التي لا قبلها ولا بعدها سعادة. كل ذلك استيقظ كانفجار بركة من ماء الزهر في حواسها الخمس ومخيلتها النشطة).
- دعي الناس في همِّهم، ونحن في همِّنا. (قال الزوج، وقد دهمه شعور وشوق جارفان للتعرف على المرأتين والسلام عليهما، أكثر من زوجته. إنما الرجل يبقى رجلاً غير المرأة في الشدائد).
- أعدك ألاّ أكلمهما بما يحرجهما. (ابتسمت بإصرار).
- إذا سألتِ عن الاسم وعن البلد وعن الأحوال.. دخلتِ المنطقة الحرام. (عبس الزوج وبسر).
راكب الطائرة لا بُدَّ أن يحس في الدقائق الأولى لإقلاعها بأحاسيس الرهبة من التعلق في الفضاء بين السماء والأرض، وبأحاسيس النشوة من الارتفاع على مشاغل الحياة الأرضية وهمومها، والخلو إلى النفس في سماوات عالية فوق السحاب. للخلوة بالنفس دورها، ولتغير ضغط الجاذبية والهواء دور آخر. وربما كان للقوى الغيبية التي لم يكتشفها العلم حتى الآن دور أيضاً، يحس به بعض الناس إحساساً غامضاً، ولا يملكون التعبير عنه. هذه الأحاسيس سوف تكون أعمق وأوضح للذين لم يألفوا أو يدمنوا السفر في الطائرات مثل الأناس الذين تتحدث عنهم هذه القصَّة. على الرغم من ذلك كله، تراجعت هذه الأحاسيس والمشاعر لديهم لتفسح المجال لخيوط التجاذب البشري غير المرئية بينهم.
بعد قليل سوف تنكشف بعض هذه الخيوط عياناً. وسوف تكون المبادرة من الزوجة الشابة. أمّا شجاعة الزوج الشابّ التي تفوق شجاعة المرأة عادة فلم تتعدَّ أن قام (صالح) مرتين من مكانه إلى مؤخرة الطائرة، بحجة جلب الماء لطفله الرضيع، وأن يتفحص ملامح المرأتين، ولنقل ملامح إحداهما التي تلبس الزي الحلبي، فلا يظفر بشيء يسوّغ اهتمامه وانشداده إلى ناحيتهما، فيعود إلى مجلسه كما قام ثم استأنف الضغط على أعصابه يهدئها.
بالتأكيد هناك توتر غير ملحوظ في جوّ الطائرة. هناك إرهاصات حدث ما سوف يحدث قريباً. لكن ما هو: ومنذا يُخمِّن نوع الحدث أو طبيعته؟ هناك حواس غير الحواسّ الخمس تتجوّل في ممرات الردهة، وفي تلافيف الأدمغة، وأعماق النفوس الجالسة على مقاعدها، بل بين بعضها وبعض. هناك ما يحمل الزوجة الشابة على الإلحاح بالسماح لها للاقتراب من المرأتين الجالستين في مؤخرة الردهة. هناك مثل ذلك لدى زوجها (صالح). وهناك أيضاً قيود وسدود قامت منذ ست سنوات، وخنقت مثل هذه الأحاسيس، وجعلت لها قنوات وصيغاً، مثل الحذر والحيطة، ودفع المخاطر عن النفس وعن الآخرين.
- لا. لن أسمح لكِ بأن تذهبي إلى هاتين المرأتين، لأنك سوف تسببين لهما الحرج بأسئلتك الفضولية، إنهما مخلوقتان غارقتان في بحر من الخوف عندما اجتازتا الحواجز الكثيرة قبل أن تصعدا سلّم الطائرة. وما يُدريك، لعلهما والدتان لأناسٍ من أمثالنا، مشردين يمضغون مرارة الغربة عن الأهل والوطن، وهما تخشيان التصريح بذلك؟
في الحقيقة لم يكن (صالح) يحاول إقناع زوجته وحسب، إنما كان يحاول إقناع نفسه أيضاً. ولما كانت زوجته الشابة تدرك ذلك بملكات الزوجة الفطرية، أمسكت عن الإلحاح لحين من الوقت تُقدِّرُ أنه سوف يأتي اللحظة المناسبة باحساس خاص.
قبل أن يصل هذان الزوجان إلى باب الطائرة كانا قد قطعا أكثر من ألف وخمس مئة كيلومتر خلال أربع وعشرين ساعة، بل إنهما استغلا عدداً من الفرص والظروف السانحة التي لا تتيسر دائماً، لكي ينتقلا من شمال (العراق) حيث يدرس (صالح) في كلية الطب - السنة الخامسة، ويحصلا على تأشيرة الخروج من العراق، والدخول إلى اليمن وعبور القطر الأردني، وشراء تذاكر السفر، مع مراعاة مواعيد الإفطار والسحور، وحلِّ بعض العقد في مراكز الحدود. من المعتاد - مثلاً - أن يُحجزَ جواز (صالح) وزوجته في أحد المطارات لبعض أيام، وتَفُوتَ عليه فرصة الإقلاع بالطائرة، والذهاب إلى اليمن والعودة من زيارة أخيه خلال مدة أسبوعين، كل العطلة الصيفية، ليلتحق بالعام الدراسي الجديد والأخير، للتخرج من كلية الطب. قلنا: من المعتاد أن يحجز جواز سفره، لكنّ (صالحاً) غامر، واستعطف موظف الأمن، وشرح حاجته للسفر والعودة سريعاً، فوافق الموظف - على غير عادته - وسلَّمه جوازه وجواز زوجته، حتى يركب هذه الطائرة، ويقع له ما سوف نعرض له بعد قليل.
في الواقع هناك أكثر من عقدة انحلت، وأكثر من عقبة اعترضت سفر هذين الزوجين، لكنها جميعاً تيسرت، وانحلت بقدرة قادر. لعل هذه القدرة الخفية هي التي يمكن أن تفسر كثيراً من غوامض الحدث الذي نتوقعه.
»أبوأنس« الأخ الأكبر للزوج الشاب (صالح) مقيم في اليمن منذ ست سنوات. رزق بغلام جديد قبل أربعة شهور، فكاتب أخاه (صالحاً) المقيم في العراق، ودعاه لزيارته بهذه المناسبة، وقد مضى على فراقهما خمس سنوات. استشار صالح زوجته، فوافقت ورحبت بالفكرة التي تتيح لها التعرف على أقرباء زوجها. اكتشف صالح أن هذا السفر فوق طاقته المالية، كما أن مدة أسبوعين - وهي عطلته الصيفية - بين عامين دراسيين - لا تكفي للذهاب والإياب مروراً بثلاثة أقطار عربية، فاضطر إلى تسطير رسالة تلغي رسالته التي حملت الجواب. تلك الرسالة التي كان أثرها في نفوس أخيه وزوجته وأولاده بالغاً لدرجة حملت »أبا أنس« على الاحتيال في دعوة أمه وأبيه المقيمين في سورية لزيارته في اليمن، كي يجتمع الشمل بعد فراق طال. قد يكون ضرورياً توضيح المراد بالاحتيال هنا، لأنه من الغريب أن يحتاج ابن بارّ للحيلة كي يدعو أمه وأباه إلى زيارته، ذلك لأن اطّلاع من لا يحسن اطلاعهم من سلطات بلاده على »الدعوة« سوف يسبب لوالديه محنة جديدة غير هجرته هو وأخيه صالح، وسجن أخيهما الثالث حتى الآن. مرة ثالثة يكتب (صالح) لأخيه أبي أنس يتعهد بقبول الدعوة، وتحمُّل النفقات، ومخاطر التأخير عن بداية العام الدراسي الجديد. وصار أخيراً هو وزوجته من رُكَّاب هذه الطائرة.
إحدى المرأتين ذات الزي الحلبي - ولنسمّها أمّ خالد - صادف سفرها من سورية بعض الصعوبات. على الرغم من ذلك أصرَّت على السفر حتى تغدو أيضاً في عداد ركاب هذه الطائرة. حينما ودّْعها ولداها الشابان في مطار دمشق عادا وحذّراها من السفر وحدها!
- أنت امرأة كبيرة في السن. سوف تصلين صنعاء حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل. أين تذهبين، وأنت قادمة على بلد لا تعرفينه؟ صحيح أن معك عنوان أخي، لكن أظن أن هذا العنوان لا يفيد امرأة في سنك، في ليل مظلم وبلد غريب!
- قلبي يحدثني أنّي لا بُدَّ أن أرى أحداً يوصلني إلى ابني. (القلب في هذه المنطقة من العالم - كما يبدو - له شأن خاص، لعله أكثر الأعضاء ارتباطاً بالقوى الغيبية، ولعل العالم الحديث لم يكتشف كل خصائصه).
- ألا تعلمين أنك ذاهبة إلى دولة أخرى وعاصمة أخرى، ولا أحد يعلم بقدومك؟
- إذا لم أجد أحداً في المطار يوصلني، فسوف أنام فيه حتى الصباح، ثم أبحث عن ابني.
- (قلب الشابين نبضا بإحساسات إشفاق. وتسليم بالقضاء والقدر، قد يكون في الظاهر تناقض بالإحساسات، لكن القلب ينسق، ويوفق بطريقته التي لا نفهمها حتى الآن).
عادت الزوجة الشابة تلحّ على زوجها:
- اللّه يخلّيك. اللّه يوفقك. (قالت هذه الكلمات برقة، وهي تحس بأن لكلماتها - هذه المرة - سلطاناً على زوجها لا يحتاج للرقة).
- طيب، اذهبي (سلّم أمره للّه)، لكن احذري أن تسأليهما: من أنتما؟ أو إلى أين تذهبان؟ أو مالكما في صنعاء؟ سلّمي عليهم، واعرضي عليهم خدماتك، ولا تسأليهم شيئاً. قولي لهم: إن هناك سيارة تنتظرنا بالمطار في صنعاء. إن أردتم أن نوصلكم إلى أي مكان ترغبون به.. سوف نصل حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل. لا تطلبي منهم أكثر من ذلك.
- أعدك بذلك (أشرقت أسارير وجهها. انفتحت أمامها أبواب خلاَّبة لا تدري ما وراءها بالضبط). هذا محمد بجانبك (حتى هذا الطفل النائم كان مصدر موجات إرسال يحس بها الغريب والقريب).
- السلام عليكم، ورحمة اللّه وبركاته.
- وعليكم السلام ورحمة اللّه وبركاته. (أجابت المرأتان همساً).
وقع نظر المرأة الشابة على وجه (أمّ خالد)، أخذت تتفرس بِنَهمٍ هذا الوجه الهادئ الوضيء. أحست كأنها تعرف هذا الوجه منذ زمن بعيد. العيون تومض ببريق مألوف. خطرت لها أهداب طفلها الطويلة، وحولها هالة كحلاء. الابتسامة مأنوسة أيضاً، لطالما واجهتها صباح مساء. أين رأت هذا الوجه يا ترى؟ حاولت أن تتذكر بسرعة حتى لا ترتبك. (أمُّ خالد) أيضاً حدّقت في وجه الشابة المقبلة عليها. لم تعرف هذا الوجه من قبل، لكنها أحست بشعور يشدُّها إليها. إحساس مشترك لاتحليل له. التعليمات التي حفظتها عن ظهر قلب، تقضي بألاّ تكاشف أحداً باسمها أو طبيعة سفرها. باختصار ألاّ تتكلم مع أحد غريب أيَّ كلام.
- إلى أين أنتما ذاهبتان؟ (اختلج شيء في صدر الشابة).
- إلى أين أنتِ ذاهبة؟ (أجابت أمّ خالد بجدّ وبدهشة. اختلطت لديها مشاعر الأنس والوحشة، والإقدام والإحجام. حدَّثت نفسها: بودي لو أقبّل هذا الوجه الحبيب. لكن الحذر الحذر! ماذا يخفي ما وراءه).
- نحن ذاهبان إلى عند رجل اسمه (أبوأنس) »شعرت أنها أرسلت سهماً مسدّداً«.
- ومن هذا (أبوأنس)؟ (قالت أمُّ خالد، وقد وقع الاسم في نفسها كالطائر الذبيح إنه اسم ابنها الأكبر. كان هذا لقبه حينما كان بجوارها قبل ست سنوات هو وفرخه الحبيب أنس. أين أنت يا أنس؟ على الرغم من ذلك أبدت تجاهلها. زمّت شفتيها عامدة).
- هو رجل من بيت عبدالرحمن من حلب. (ابتسمت الشابة أحست بأن مصاريع الأبواب تزحزحت) لم تستطع أمُّ خالد أن تملك نفسها فصاحت:
- هذا هو ابني.. هذا هو ابني.. واللّه هذا هو ابني. (لم يكن اسم ابنها وحده النور الذي برق لها، بل شلال أنوار تدفقت دفعة واحدة من مصادر عدة).
- هو اسمه سعداللّه عبدالرحمن (قالت الشابة موضحة مطمئنة).
- نعم.. نعم.. ابني سعداللّه.
- إذاً أنت امرأة عمي حماتي وأنا كنّتكِ (قالت الشابة غير مصدقة ما تقول).
- ماذا تقولين؟!
- أنا زوجة صلاح. ابنك صلاح الذي يجلس في مقدمة الطائرة وكذلك ابن ابنك!
اغرورقت العيون بالدموع. التفت المرأتان تتعانقان. المرأة الثانية الجالسة بجوار النافذة لم يفتها من المشهد شيء، بكت أيضاً دهشة وفرحاً. أخذت تضرب كفاً بكف قائلة:
- يا اللّه. سبحان اللّه!