" الحُلُم والسجن والعِمامة "
" الحُلُم والسجن والعِمامة "
بقلم : يحيى البشيري
(1)
- كل شيء على ما يرام سيدي اللواء ! لقد تم اختيار العناصر كما أشرتم من عشيرتنا ومن منطقتنا بالذات.
- هل تم تعبئتهم نفسياً، والتأكيد عليهم بعدم التحدث لأحد تحت طائلة المسؤولية؟؟
- تماماً سيدي!
- اتصلتم بالمقدم غانم قائد السجن؟
- اتصلنا به سيدي، واتفقنا أن تكون أبواب السجن الخارجية مفتوحة في تمام السابعة.
- وتأكدتم من العدد؟
- تأكدنا سيدي فهم (900) سجين .
- كان بودي أن يكونوا أكثر – يا مقدم علي – ولكن الوقت لا يتسع للانتظار حتى يمتلئ السجن .
- (بابتسامة صفراء) سيمتلئ سيدي ولن تجدوه فارغاً أبداً .
- نَسِّقْ مع المقدم غانم فهو شاب نشيط، وهو على كل حال ( بلدياتي ) يعرف المطلوب منه، دون أن تقيده الأوامر الحرفية.
- ولكن سيدي!
- ولكن ماذا؟
- بعض الضباط الذين سيقودون العملية يتهامسون حول علم قيادة الجيش بهذه المهمة .
- (بغضب ) أنا الجيش ! أتظنون أن وزير الدفاع يملك من أمره شيئاً …… انتبه إليَّ جيداً _ يا مقدم علي _ لولا العلاقة الوطيدة بينه وبين شقيقي الرئيس لكان لي شأن آخر معه ….. أتذكر قبل خمس سنوات حين كنتُ برتبة مقدم ماذا فعلت به؟
- صمت المقدم علي ولم يجب بشيء، مع أنه سمع عن مخالفات كثيرة ، ورأى ممارسات أكثر لا تمت إلى الانضباط العسكري .
- ( بتفاخر واعتزاز ) لقد أوقعته في حرج شديد ، حين دخلت إلى الملعب الرياضي ، وهو موجود فهتفت عناصرنا وتوقف المعلق الرياضي، وركز التلفزيون على دخولي، واحتار هو ماذا سيفعل ؟!!
( يهز رأسه بابتسامه ) : الأوامر من هنا _ يا مقدم علي _ نحن المعنيون، وليس هو ….. تستطيع أن تنصرف الآن ، أريد تقريراً مفصلاً يوم غد بتوقيعك وتوقيع المقدم سليمان وعلى مسؤوليتكما.
- كما تريد سيدي .
- ستجدون الرائد معين في المطار العسكري القديم يجهز لكم تسع طائرات فكونوا مستعدين.
حيّاه المقدم علي وانطلق وهو يردد في نفسه : إنها المرة الثالثة التي يرسلنا فيها بمهمات قذرة، وسيبقى صهره معين قريباً منه .
(2)
في الثالثة صباحاً تم إيقاظ الجنود بعد أن تَمَّ اختيارهم بالواحد، والتأكد من هويته المناطقية وولائه الشديد.
صاح الرقباء : باللباس الميداني الكامل …. وخلال دقائق كان الجميع في ساحة المعسكر ، وبعد لحظات كانوا في قاعة السينما وكان الرائد معين ينتظرهم .. وبكلمات مقتضبة وسريعة أفهمهم أنهم سيقومون بعملية ضخمة، وأن كل من يشارك فيها لن تنسى له القيادة ذلك ، وأنهم اختيروا من بين الآلاف لثقة القيادة بهم … كان الجميع صامتين … أضاف معين : مهمتكم هي الهجوم على السجن الصحراوي للقضاء على أعدائنا أعداء الثورة والحزب … هل فيكم أحد لا يريد أن يقاتل ، يستطيع أن ينسحب منذ الآن !! لم يرفع أحد يده وانطلق الجميع إلى السيارات العسكرية التي ستقلهم إلى المطار القديم … في تمام الخامسة كانت الطائرات المروحية التسع تحمل مئتي عنصر اختيروا بعناية شديدة، وكان معين يتابعها ببصره، وهي تحلق بعيداً عن العاصمة النائمة الغافلة … وفي السادسة وعشر دقائق كانت تقف في المطار الصحراوي بعيداً عن السجن .
نزل الجميع واصطفوا في رتلين كبيرين ، وتأكد الملازمان منير ورئيف من تواجدهم واستعدادهم ، ثم تم تقسيمهم إلى مجموعتين الأولى تكون في المطار للحراسة، والأخرى للاقتحام …. لم يطل الانتظار … تحركت السيارات العسكرية إلى داخل السجن الهادئ الصامت !! فالأبواب مفتوحة ، والحراس يقظون صامتون … والكل يترقب شيئاً ما ؟! ولم يكن أحد سوى مدير السجن يعلم ما سيجري بعد دقائق … وبدأت مجموعة الاقتحام تتوزع إلى مجموعات لا تزيد عن سبعة عناصر مدججين بالقنابل ومئات الطلقات .
(3)
كان المساجين قد تسللوا إلى دورة المياه بسرعة للوضوء ، عند تبدل الحرس المطل عليهم من النافذة العلوية في السطح ، وأدوا الصلاة ، وعادوا إلى أماكنهم لا يتحركون بانتظار أن يحين وقت الفطور الذي لا يسمن ولا يغني من جوع … بعضهم يهمس بأدعية وأوراد ، وبعضهم يعيد ما حفظه من آيات يوم أمس من أحد السجناء الحفّاظ … أيامهم تمضي على هذا المنوال ؟!
صمت داخل الزنازين … فطور مع الضرب والشتم … رياضة تلاحقهم فيها السياط … تنفس لا يقف فيه التعذيب … استدعاء أشخاص للمحاكمة بعضهم يعود محطماً ؟! وبعضهم لا يرونه أبداً …أصوات استغاثة تشق صمت الصحراء لأفواج جديدة جيء بها من العاصمة والمحافظات … تكبيرات مكتومة مع سقوط أجساد على الأرض … صوت سيارة البلدية يتردد في ساحة السجن بانتظام لحمل الجثث … أخبار باهتة عن الأهل… أنباء مضطربة عن حالة الناس خارج السجن يحملها أحد القادمين … انشغال بترقيع الثياب ومداواة الجراح ، ومتابعة الحشرات … عمليات جراحية بأدوات بدائية بين قلع ضرس واستئصال خراج …كل ذلك في صمت ؟! والويل لمن يخرج صوتاً ، أو يتحرك من مكانه .
(4)
كان أحمد مدرس اللغة الإنجليزية الذي جيء به بعد زواجه بشهرين ، كثيراً ما يحدث السجناء عن رؤيا رآها ! وكان بعضهم يجد فيها منتفعاً ويبحث عن تأويل لها يخفف عنه بعض المعاناة . وكان آخرون يتندرون بها ، ويمازحونه ، وهو يتقبل كل ذلك بنفس رضية وروح مرحة ، بل كان يُسَر حين يناديه أحدهم : سيدنا الشيخ العريس . ويعيد قصة محاكمته للمرة العشرين ويقول : العقيد سليمان رئيس المحكمة تعجب حين فتح ملفي ولم يجد فيه شيئاً يبرر سجني ، وكل ما فيه أنني من مدينة …… يصلي ، ويُخشى منه في المستقبل؟!
أحد أبناء مدينته ، وقد تعرف عليه داخل السجن يداعبه ويقول : ستخرج يا شيخ أحمد – إن شاء الله – إلى الجنة وإلى الحور العين، فيرد الأستاذ بحدة: وهل ينال الجنة أي واحد – يا مسكين – أنت لا تعرف في تعبير الرؤى ، صحيح أنني رأيت نفسي عريساً ولكنه العرس القريب أولاً – إن شاء الله – فلربما أفرجوا عني ، وأعود إلى زوجتي فأنا لا أزال عريساً … ثم يلتفت إلى أحد محبيه : أبو عبدو! واحد تزوج مدة شهرين ألا يعد عريساً! يهز أبو عبدو رأسه : عريس ، وحبة مسك ، يا شيخنا !
(5)
قبل يومين فقط امتنع الأستاذ أحمد عن إخبار مَنْ حوله بالرؤى التي يراها … حين ألح عليه أحدهم غمز بعينيه أن انتظر سأحدثك منفرداً عندما يبتعدون ، فأنا لم أحدّث أحداً سوى ( أبو عبدو ) . قال وقد نفد صبره : إيه ماذا رأيت – يا أستاذ أحمد- ؟!
الأستاذ أحمد : اسمع ، ولا تفسر شيئاً ! رأيت أننا جميعاً نلبس عمائم حمراء ، وأننا نقف في ساحة كبيرة ، كل من فيها له عمامة ! ولكننا كنا متميزين عنهم ؟!وأن باباً واسعا فتح على بستان كبير ، فتدافع الجميع لحسنه ، وأن صائحا صاح : الكل سيدخلون ، ولكن أصحاب العمائم الحمراء أولاً … ثم أفقت .
-
خير إن شاء الله يا شيخ أحمد ! بماذا تفسر ذلك ؟؟- أحمد : أعبّر ذلك بالخروج من هذا المكان .
-
إلى أين ؟-
إلى أهلنا في أبهى زينة … أو إلى …..عند ذلك فتحت العناصر المهاجمة أبواب الزنازين ، وبدأت تحصد الذين كانوا ينتظرون طعام الفطور ، فهذا وقت إحضاره !
أكثر من ثلاثة أرباع الساعة اختلط فيها أصوات الرصاص ودوي القنابل بأصوات الاستغاثة ، ونداءات الله أكبر … يا الله … يالله … لماذا تقتلونا … حرام عليكم …. حرام ….
(5)
روائح البارود تختلط برائحة الدم المتفجر الذي غطى أرض الزنازين ، وكسا القسم السفلي من جدرانها …. استطاع أبو عبدو وقد فاجأه الرصاص داخل دورة المياه أن يفتح الباب بقوة ويمسك بندقية أحد العناصر ، ويوجهها باتجاهه .. حاصرته الطلقات من كل جانب ، كان يقفز من زاوية إلى زاوية يدوس على الأجساد التي طالما عانقها ، وعلى الأيدي التي طالما صافحها …
كانت دماء أكثر من سبعمائة سجين تتفجر بغزارة وقد صبغت رؤوسهم بالأحمر القاني … لحظات سريعة وقبل أن يسقط تذكر الكلمات الأخيرة التي سمعها من الأستاذ أحمد الذي كان رأسه مصبوغاً بالدم !! أهؤلاء هم أهل العمامات الحمر !! أين عمامتي …. وسقط قرب الشيخ أحمد وقد رفع أصبع الشهادة باتجاه السماء...
(6)
كانت الجرافات تحمل الجثث التي تجاوز عددها الثمانمائة ؟! وتلقي بها في الوادي الشرقي ، وتهيل التراب كيفما اتفق ؟! فيما كانت الطائرات تحمل الضباط وجنودهم باتجاه العاصمة وفي الوقت الذي سُوي فيه التراب ، ونصبت الأسلاك الشائكة لمنع الرعاة من الاقتراب ، واعتبارها منطقة عسكرية ، كان الرائد معين يشكر العناصر والضباط ويقول لهم : لقد قمتم بعمل بطولي مع العلم أنها أول مرة نكلفكم بمثل هذه المهمة … لقد أمر لكم سيادة اللواء بمكافأة (200) ليرة لكل واحد منكم ؟!
انتهى المقدمان سليمان وعلي من كتابة التقرير بتفصيلاته ولم ينسبا أن يضيفا أن طلقة ارتدادية هي التي قتلت الرقيب اسكندر وحمل معين التقرير إلى عمه اللواء ، وفي جلسة عائلية كان يتابع فيها إحدى المباريات تناوله بأعصاب باردة وقال : كنت أتمنى أن يكونوا أكثر من ذلك !!
(7)
في مكتب وزير الدفاع تسلم العميد مدير المكتب مظروفاً " سري للغاية " ووقع عليه نيابة عن السيد الوزير ، وقبل أن يضعه الملازم المجند في الملف كانت عيناه تلتهمان الأسماء ، يبحث عمن يعرف منهم ! تسمرت عينا الملازم خالد عند اسم زميله في الجامعة أحمد ، ولاحت آخر صورة له عندما لقيه بعد التخرج لابساً الثوب الأبيض ، ومعتماً بعمامة بيضاء ! لم يكن خالد ليتساءل عما إذا كانت تلك العمامة قد تلونت باللون الأحمر ، فقد شغله البحث عمن يعرف من الشهداء عن أي شيء آخر !!