في مجمع الخالدين
د. طلال محمّد الدّرويش
لم يصدّق ما سمعته أذناه عندما زفّ إليه صاحبه نبأ موافقة الجامعة على التّسجيل فيها ؛ لنيل شهادة الدّكتوراه في الأدب ؛ فلطالما حدّثته نفسه ، لأكثر من أربعين عامًا ، وقد نيّف اليوم على السّتّين ، أنّ يومَا سوف يأتي وقد أصبح فيه اسمه على كلّ لسان ، ينادى به في المحافل الثّقافيّة ، والمؤتمرات الفكريّة ، والمنتديات الأدبيّة : " الأستاذ الدّكتور " ... وهاهي السّاعة قد أزفت ؛ ليصبح الحلم واقعًا ، وقد جاءه الخبراليقين من صاحبه الّذي تمكّن ، بعلاقته بالجامعة الأجنبيّة ، من تسجيله فيها ، وقد زكّاه لرئيسها مربّيًا قديمًا ذا خبرة واسعة ، وأثر كبير في الأجيال ، فغضّ النّظر عن كثير من متطلّبات الالتحاق بالجامعة التّي لم تكن متوفّرة فيه ؛ فيلتحق بها ؛ لنيل مثل هذه الشّهادة العالية !
مرّت سنوات وهو يعيش الحلم المتجدّد ، ويسافر سنويًّا ؛ للقاء أساتذة الجامعة ، وتقديم ما يطلبون ، إلى أن جاء اليوم المشهود : يوم نوقشت رسالة الدّكتوراه ، وأعلنت لجنة المناقشة نجاحه في الدّفاع عن مضمون رسالته ، فهنّأه أعضاؤها زميلاً جديدًا لهم !
لقد كان لعلاقة صاحبه برئيس الجامعة أثر كبير في اجتيازه العائق الأخير ؛ عائق المناقشة ، رغم أنّ رسالته كانت ، في مضمونها ، أقرب إلى التّربية منها إلى الأدب !
لم يكد يمضي شهر على نيله الشّهادة ، حتّى راح يسعى إلى العمل في إحدى الجامعات المحلّيّة . وبالفعل ، فتحت له إحداها أبوابها ، وبتزكية من صاحبه نفسه ! فلم ينتظر طويلاً حتّى يطبع بطاقات شخصيّة فاخرة وفيها : " الدّكتور / ... أستاذ جامعيّ ، ومستشار ثقافيّ ، وخبير تربويّ " !
وصدّق المسكين نفسه فراح يطرح اسمه ، ولقبه الجديد في كلّ ساحة ، ولكنّه لم يعلم أنّ إدارة الجامعة الّتي فتحت له أبواب العمل ، قد قرّرت منذ أيّامه الأولى فيها أن توصدها دونه فور انتهاء الفصل الدّراسيّ ؛ فقد ثبت لها أنّه إنسان مخفق تربويًّا من خلال تعامله مع طلاّبه ، وفارغ الجعبة من أيّ شيء يتعلّق باختصاصه ! حاول جاهدًا أن يعرف أسباب طرده من الجامعة ، ولكنّه عبثًا كان يحاول ! فقرّر أنّ زملاءه الكثر الغيورين من نجاحه ، والوشاة الحاقدين على مسيرة تميّزه ، قد سعَوا لدى رئيس الجامعة ؛ ليوقعوا به حسدًا من عند أنفسهم ؛ فقد كان دائمًا متفوّقًا عليهم في كلّ مجال !
لم ييأس يومًا من طرق أبواب الجامعات ، والمؤسّسات عارضًا خدماته على القائمين عليها ، طارحًا بين أيديهم سيرته الذّاتيّة الّتي تضاعف حجمها ، خلال أشهر ، عشر مرّات أو يزيد ! حتّى الصّحف ، لم تنج من محاولاته ، بل استطاع أن يغرّر ببعضها ؛ ليعمل فيها أشهرًا انتهت بما انتهى به عمله في الجامعة التّي طرق بابها أوّل مرّة ! ٍ
وأخيرًا ، حطّ به الرّحال في ساحة جمعيّة أدبيّة ، فطِن إلى أنّه كان يعرف رئيسها منذ كان معلّمًا في إحدى المدارس الابتدائيّة ، وكان الرّجل يتردّد على المدرسة سائلاً عن ابنه ، متابعًا له مثل أيّ أب مهتمّ بولده ، فتوجّه إليه مباشرة يذكّره بنفسه ، ويدفع إليه بطاقته المتورّمة ، ورزمة أوراق نسج فيها خياله سيرته الذّاتية !
رحّب به الرّجل ، ثمّ دعاه ، بعد تردّده المستمرّ عليه ، أن ينتسب إلى الجمعيّة ، ويكون عضوًا فيها .. لكنّه طلب منه أن يمنحه فرصة للتّفكير في الأمر ؛ لكثرة ارتباطاته ، وعظيم مسؤوليّاته ! وطار إلى جحره يكاد يغمى عليه من الفرح !
حاول في الأيّام الّتي تلت ، أن يتجنّب زيارة الجمعيّة ؛ ليوهم رئيسها أنّه منهمك في أعماله ، منصرف إلى إنجازاته ! وهذا ما حدث : فقد شعر رئيس الجمعيّة أنّه على وشك أن يضيع منه كنز ليس له مثيل في جزيرة القرصان ! فبادر إلى الاتّصال به عبر الهاتف ؛ ليطمئنّ عنه ، ويعرف سبب احتجابه .
- " أبدًا ، ولكنّها المسؤوليّات الجسام كما تعلم .. "
قالها بصوت منتفخ كأنّه يخبره عن عمل معجز لا يقدر على مثله سواه !
- " عافاك اللّه يا دكتور ، وأكثر من أمثالك .. ولكنّنا لا نقدر على الحرمان من رؤيتك ، والاستزادة من علمك ! "
- " شكرًا .. شكرًا .."
- " هاه .. فمتى تشرّفنا بزيارة يا أستاذي الدّكتور ؟ "
لمست الكلمتان الأخيرتان من قلبه ، وعقله ملمسًا لم يشعر بمثل نعومته من قبل ، وكاد ينسى الرّدّ على محدّثه ، لولا أن عاد يسأله :
- " نعم يا أستاذي ، متى نتشرّف بزيارتكم ؟ "
- " قريبًا .. قريبًا ، إن شاء اللّه ! "
أنهى المكالمة ، وقعد فوق كرسيّه يتمطّى ، شاعرًا بدغدغة كلمة " أستاذ " لشيء في نفسه ظلّ مكتّمًا زمانًا طويلاً !
_ " أستاذ دكتور ! عظيم .. عظيم ! "
وراح يحلم من جديد !!
في الصّباح أسرع إلى المطبعة ، وطلب من مديرها أن يطبع له مجموعة جديدة من البطاقات الشّخصيّة يضيف إليها كلمة " أستاذ " قبل " الدّكتور " ؛ ليصبح لقبه " الأستاذ الدّكتور " ! وهكذا كان ، وهكذا أضيف اللّقب الجديد إلى سيرته الذّاتيّة أيضًا !
مرّت الأيّام ، وقد صار صاحبنا مديرًا للجمعيّة المذكورة ، ومديرًا لمجلّة تصدرها . واستطاع بثرثرته ، أن يقنع رئيسها أنّه فارس الفرسان ، إذا نزل إلى الميدان ، يقارع بالكلمة ، ويتصدّى بالبيان ! وتمكّن بعد أشهر ، من السّماح لمن يريد بالنّشر في المجلّة ، وحجب من عدّه من الحاقدين الحاسدين !! وقرّب جماعة ، ونحّى جانبًا من عرفهم طوال ما يزيد على ثلاثين عامًا !!
وجاء يوم ما كان ليحلم أن يعيشه ، وأن يكون فيه نجم المهرجان ، يوم أن قرّر رئيس الجمعيّة إيفاده ممثّلاً للجمعيّة في مؤتمر يعقده " مجمع الخالدين " في مصر ..
أعدّ " الأستاذ الدّكتور " ورقة عمل يقدّمها في المؤتمر ، وراح يدرّب نفسه مرارًا على إلقائها قبل مجيء موعد السّفر .
وفي اليوم الموعود ، كان " الأستاذ الدّكتور " منتفشًا بلقبه فوق كرسيّ أعدّ له في المؤتمر .. قدّم ورقته .. صفّق له الحاضرون .. تساءل أكثرهم عن سرّ سخافة المضمون ، وسرّ اقتحام هذا الدّعيّ مثل هذا المؤتمر ! ولكنّهم قابلوه بابتسامات ماكرة لم يدر هو ما وراءها من خبث ودهاء !
في اليوم التّالي ، ركب الطّائرة عائدًا إلى دياره ، غير مصدّق كلّ ما يحدث ! وبعد ربع ساعة من إقلاع الطّائرة ، جاءته المضيفة بنسخة من صحيفة اليوم ؛ فشكرها ، وطلب منها ، بلطف بالغ ، أن تأتيه بكأس ماء بارد .
عادت المضيفة بعد دقائق لتصرخ بأعلى صوتها ، وتقع من يدها الكأس على الأرض ، وقد تناثر الماء فوق بعض المسافرين !
هبّ النّاس نحوها ؛ يستطلعون سبب صراخها ، وهلعها .. نظروا إلى الرّجل فوجدوه جثّة هامدة لا حراك فيها ، وقد جحظت عيناه تحدّثان بحديث الموت !!
عادت الطّائرة إلى المطار ، وقد خيّم على ركّابها جوّ امتزج فيه الحزن بالتّشاؤم !!
وقدّم الطّيّار تقريرًا عن الواقعة جاء فيه أنّ المضيفة عادت إلى " المرحوم " بكأس الماء البارد الّذي طلبه ؛ لتفاجأ به وقد أسلم الرّوح .. ولمّا عاينه الطّيّار ، وجد في يده الصّحيفة مفتوحة على صفحة المجتمع ، وفيها مقال بارز عنوانه : " هبنّقة في مجمع الخالدين " !