جرس
محمد الحسناوي*
بعد منتصف الليل قرع جرس الباب في مسكن المدرس حامد. على أثر سماع الجرس قفز الرجل من فراشه مذعوراً. وعلى أثر قفزته أجفلت زوجته واضطربت لاضطرابه. لم يكن سبب هذا الرعب هو شدة صوت الجرس المثبت على إطار خشبي، ولا شدة حساسية حامد بالأصوات لا سيما وقت النوم، وهذا كله له دوره، إنما كان السبب الأهم هو أن تجربة حامد منذ شهور قد استيقظت دفعة واحدة مع قرع هذا الجرس وفي مثل هذا الوقت المتأخر من الليل. تلك هي عملية اعتقاله التي بدأت بقرع الجرس، وترتب عليها سوقه من فراشه إلى مقر »المباحث«، ثم تنقله بين عدد من السجون العسكرية والمدنية.
لم يكن قد شبع من النوم أيضاً. وحين قفز لم يكن متأكداً إن كان السبب هو جرس الباب بالضبط أم أن صوتاً آخر أثار ضجة انتزعته من سباته الفطير. لذلك أصاغ السمع، يتحسس الاهتزازات في غشاء الطبلة، وفي هواء المسكن الضيق، وفي ملاسة الجدران التي تقسم المسكن إلى حجرات صغيرة متصلة على شكل بوق: صدى. أزيز. طنين. طنين. أزيز. لكن لا وضوح.
قبل أن يضع رأسه على المخدة في ذلك المساء.. كان في قمة السعادة. صحيح أن شعر رأسه الذي حلق في السجن لم يعد إلى شكله السابق، لكن شبح الإرهاب أو الاعتقال غاب، لأن الحكومة خسرت الحرب في شهر حزيران، وانشغلت بتسويغ الهزيمة واسترضاء الرأي العام. الزوجة تركت العمل خارج البيت والسهر في »مسشتفى دار التوليد« لأن راتب الزوج لم يعد مهدداً بالاعتقال. العمل في التدريس استؤنف أيضاً، وأجريت الامتحانات المعطلة بسبب الحرب، واستأنف حامد علاقاته الاجتماعية، وكأن شيئاً لم يكن قبل شهور: لا إضرابات، ولا اعتقالات ولا تعذيب ولا تشريد.
إما أن الجرس قرع حقاً، أو أن هناك وهماً!
كيف يستطيع الوهم أن يفعل كل هذا الفعل؟ أنا واثق بأن الجرس قد قرع. إن أذني لم تكذبني يوماً. لماذا يقرع الجرس بعد منتصف الليل؟ لقد أفهمنا الأهل والأقارب والأصدقاء والناس أن زوجتي لا تخرج ليلاً للتوليد، كما أنها لا توافق على التوليد إلاّ بعلم مسبق وفي نطاق الأقارب.. لا بخلاً ولا كسلاً، ظروف البيت لا تسمح. قولي لهم: زوجي صعب. زوجي عنيد. زوجي عقله مركب بالمقلوب. لا يسمح. لا يسمح. لا يسمح. من شاء فليقبل، ومن شاء فليغضب. المدينة ملأى بالقابلات ألا يوجد غيرك؟!
كانت ملامح الذعر والغضب المتمازجة في وجه حامد وحركاته تنعكس آلياً على وجه زوجته وأعماقها:الذهول. احتقان العينين. إطراق الرأس. الشحوب الذي زاده ضوء النواسة الخافت شحوباً. لم تكن زوجته وحسب إنها بالإضافة إلى ذلك المقابل النسوي للنموذج الذي يمثله هذا الرجل في المعاناة السورية عام 1967. من أجل ذلك اختارها زوجة، كما رضيت باختياره. لكأنه يعرفها وتعرفه من قبل أن يقترنا بزمن بعيد. فكيف وقد ارتبطا معاً في حلو الحياة ومرّها، بكل جزئياتها وتفاصيلها منذ سبع سنوات. كانت الوحيدة بين زوجات المعتقلين التي استطاعت الحصول على إذن بزيارته ومواجهة المحقق المسؤول عن اعتقاله: رجل ضخم الجثة، تكاد ثيابه تتمزق احتجاجاً على ترهل أوصاله المكتنزة. قصير الرقبة. جاحظ العينين. قصير الذراعين. مفلطح الرأس والقلب.
- هل تعلمون من تعتقلون؟ نعم تعلمون دأبه واستقامته.
- أدخلناهم السجن ولن يخرجوا منه. انصحي زوجاتهم بالبحث عن أزواج آخرين. إنه الآن يطلب كتب شكسبير، وكان بالأمس يقرأ سيد قطب.
- ألا تدرسون كتب سيد قطب في الجامعات؟ هل تنكرون فضل سيد قطب وأدبه العظيم؟!
- لا. لا. أبداً. إنما.. على كل حال أنا والدي شيخ.
- ليس المهم أن يكون أبوك شيخاً. المهم أن تكون أنت مسلماً حقيقياً.
- كلنا مسلمون.
- هل يبيح الاسلام اعتقال الأبرياء؟
- زوجك معارض للحكومة..
- أنت أدرى الناس بأن معارضته نزيهة. أنت نفسك تراقبه، وحققت معه أكثر من مرة.. هل تنكر؟
* * * *
قرع الجرس ثانية.
تأكد الزوج والزوجة والحماة أن قرع الجرس حقيقي. إن هناك من يقرع الجرس وراء الباب، يريد أو يريدون إيقاظ سكان المنزل، يريدون شيئاً ما. حتى الطفل تقلب في الفراش متململاً من سماع الجرس. لم تبادر الحماة هذه المرة إلى فتح الباب ولا إلى تصرف أو كلام. استفادت من التجربة السابقة. تطلعت الأسرة في وجوه بعضها تستفهم: ما الخبر؟ ما العمل؟ ما الرأي؟ لا جواب! حركات متشنجة، تصورات راعبة مشوشة. الرجل وحده متميز. المطلوب منه أن يتميز: أن يتجلد. أن يبتكر الاستجابات المناسبة، أن يتصرف التصرف المسؤول الذي يبعد المصيبة، أو يخفف من وقعها، لأنه يختار التصرف بنفسه، فلا يكون ندم، ولا تلاوم، ولا تدافع للمسؤولية.
»اللّه يبعد عنك أولاد الحرام« قالت الحماة في نفسها.
لم تقرأ الحماة ولم تكتب في حياتها. وبالطبع لم تنتم إلى أي نقابة أو حزب سياسي. شهدت العهد الفرنسي. وتعاطفت مع أبناء وطنها ضد الاستعمار، وعاشت أيام الصراع معه في مدينة حلب يوماً وحدثا حدثا من خلال ما تسمعه من رجال أسرتها الكبيرة قبل الزواج وبعد الزواج. بعينيها الاثنتين رأت الدماء الحمراء في الشوارع، وبأذنيها سمعت هتافات المظاهرات وإطلاق الرصاص وانفجار المتفجرات. كل ذلك لم يكن كافياً لتفهم الوضع السياسي الجديد بعد الاستقلال. زوجها توفي مبكراً بمرض السكري. وحرصت على تربية أولادها، الذكر الوحيد والبنات الثلاث، على عدم الاشتغال بالسياسة »السياسة لأولاد الذوات«. أصغر بناتها التي درست في دمشق، وتزوجها هذا الصهر، تبين أنها ذات ميول سياسية. لم يقل لها صهرها اكرهي فلاناً ولا أحبي فلاناً. لم يقل شيئاً عن الحكومة والأسعار والعدوان على العقيدة والحرية وضياع الجولان. لكنها من خلال حياته الشخصية وسلوكه الوظيفي والاجتماعي رأت فيه المواطن المحب للّه وللرسول، المعادي للشرور والانحراف أيّاً كان. ومن يعتدي على مثل هذا المواطن فإنما يعتدي على قيم الخبر والاستقامة. لم تتعاطف معه لأنه صهرها وحسب، بل لأنه مظلوم أيضاً.
لم يكن خوف المرأتين قليلاً، لكنه بالتأكيد خوف الغاضب المحتج الذي يودّ لو يقاوم. قرأ المدرس التصميم في وجه المرأتين وفي تحفزهما. والمطلوب منه هو الرجل أن يكون أكثر تصميماً. للأسف لم يخطط من قبل للمقاومة، ولم يتوقع الاعتقال بهذه السرعة. إنها مفاجأة للمرة الثانية.
هذه الجدران الحجرية قوية بما فيه الكفاية لكف المخبرين واللصوص، وهي تحول دون اختراقها للهرب. هل صنعت الجدران لرفع السقوف فقط؟! حبذا لو كنت أمتلك قوة خارقة لمعرفة الطارق، أو لاختراق الجدران أو للتخفي! لو كان في هذا المنزل الصغير مكان لما وقفت هكذا مشلول الحركة والتفكير. ليس عاراً أن أختبيء. أين المخبأ؟ وكيف؟.
تذكر حامد أنه في سجنه السابق قد هيأ حلاً لهذه المعضلة: أن يفتح نافذة في جدار مسكنه الخلفي المطل على سطح البناية المجاورة، وأن يحجبها بخزانة الملابس المتحركة. آه.. أشار لزوجته وحماته بيدين معبرتين بأنه سوف يهرب من النافذة المموهة، وأن عليهما إنكار وجوده بعد فتح الباب. فتح حامد النافذة. اختطف جلابية وحذاء. قفز بخفة بثياب النوم. خلال دقائق وبغير ضجة كان في الشارع الخلفي وقد لبس الجلابية والحذاء، يمشي متسللاً في الظلام متحاشياً بقع الضوء اللاهث. توجه إلى بيت أحد أصدقائه البعيدين: عبدالسلام، صديق لا يخطر على بال أحد؛ تربص يستطلع أخبار المداهمة.
* * * *
قرع الجرس مرة ثالثة.
نهض الطفل من فراشه. صاح: ماما. ماما. بابا. بابا.
لم يعد بدّ من الجواب على إلحاح الجرس.
كيف يقدم رجل بائس على الانتحار؟ كيف يندفع بطل إلى مواجهة خصمه؟ كيف ينطلق قطار بلا تفكير؟ اندفع المدرس ملقياً بكل الهواجس والاحتمالات وراء ظهره، مواجهاً مصيراً غامضاً لا يرى مناصاً من مواجهته، وليكن ما يكون: المشاجرة. السجن. القتل. أضاء مصباح الصالة. ألقى نظرة وداعية على ابنه الوحيد الذي نسي وداعه في الاعتقال السابق. نظر إلى زوجته وحماته متظاهراً بالاطمئنان. تهدج صوت محشرح أجش مدفوعاً من أعماقه يعبر الصمت المطبق وزجاج الباب ليصفع وجه الواقفين خلفه على شكل احتجاج رعيب:
- من؟!
جاء جواب. لم يفهم منه حامد شيئاً. صوت غامض مختلط.
لم يكن ضجيجاً ولا قعقعة على كل حال. صوت غامض ومختلط وحسب! مامصدر الغموض والاختلاط؟ هل هما مقصودان، أم هما انعكاس للقلق والاضطراب؟!
مرة أخرى استجمع حامد شجاعته وتصميمه:
- من الطارق؟!
- عفواً. هل هنا بيت القابلة؟
- بيت من؟
- القابلة!
- أي قابلة؟
- أم أحمد.
أضاء المدرس المصباح الخارجي. حدّق من خلال العين الساحرة. رأى شبحاً مائلاً. شبحاً واحداً. فتح الجزء الزجاجي من الباب. واجهه رجل في الثلاثين، غير مسلح. غير عابس. يرتدي قميصاً أبيض وبنطالاً أسود. وجه ودود، يميل إلى الأمام، كأنه ينظر في الأرض. محياه ينمّ عن التردد والحياء.
- لا مؤاخذة. زوجتي حامل، أخذها الطلق، على وشك الولادة. سامحني. القابلة أم أحمد موجودة؟ تسمح؟
ألقي لوح من الجليد في مرجل حامد:
- بيت القابلة أم أحمد مثل بيتنا في الطابق الإضافي الأخير، لكن ليس في هذا المدخل. اذهب إلى مدخل البناية التي قبلنا.
- شكراً. شكراً. لا مؤاخذة!
الهامش :
* أديب سوري يعيش في المنفى