كانت بائعة الورد
كانت بائعة الورد
فلور حسنا
كنت أرشف قهوتي بتوئدة، وابلع دخان سيجارتي وأخرج من كينونتي لكي أتفرج على نفسي وهي تبحث عن الألم لكي تصنع منه فانوسا يضيء وحدتها.
تحول الألم بدوره إلى شيء اعتيادي، فأصبحت كل الأشياء التي تحيط بي فاقدة لدهشتها وسر وجودها: قهوتي لم تعد ساخنة، ماتت رائحتها العبقة، الجرائد التي اقرأها، تكتب للأشباح، الوجوه التي اعرفها تحولت إلى ساحرات مكبث لكن المرأة التي تبيع الورود للعشاق لم تتغير ملامحها، ابتسامتها الناصعة تعطي بريقا لسمرتها، هي الوحيدة التي كانت عيوني تطمئن إليها.وكنت انشرح عند رؤيتها، لكني لم أكن اشتري منها الورود، كنت اكتفي بالنظر، وكانت تتجاهلني هي الأخرى، وترمي بعيونها إلى موائد العشاق. وفي صباح ربيعي، لم تأت بائعة الورد. وكانت أسئلة مزدحمة تفتت خلاي رأسي. ومرت أسابيع على غيابها وأنا أتلهف لكي أشم رائحة الربيع المختلطة بأنفاسها. عاتبت نفسي كثيرا لأني اشغل نفسي بتفاهات وبكائنات تعيش على الهامش، من تكون بائعة الورد حتى تنفلت من ركامها؟
-امرأة عادية بائسة، تحاول أن تشم رائحة البرجزة من زبائنها لا أكثر. وفي صباح جميل رأيتها وأنا امرق الشارع، تتجول ببضاعة أخرى غير الورد، واقتربت منها وأنا أتصفد عرقا.
-صباح النور، الست بائعة الورد؟
تسمرت في مكانها وبنبرة فيها الحزن والألم أجابتني:
-لا، أبدا، كنت مغفلة، أساهم في ترويج الكذب وتزييف المشاعر من حيث لا اعلم.
-ومتى كانت الورود يا سيدتي تعزف نشيد الشر؟
-عندما أمسكتها الأيادي المدنسة وحولتها إلى لعبة قدرة، إلى هدية لتفريغ الإنسان من معاني الحب والصدق.
-هل حدث لك شيئا يستحق هذا السخط بحيث هجرت عملك، رزق يومك؟
-لا تنبش ذاكرتي، دعني ابحث عن رزقي.
-هل سرق قطاع الطريق ورودك؟
-لا، قل لي، هل يمكن للإنسان أن يكون ثعلبا في الدهاء والحيلة؟
-كلامك غامض؟
-اسمع يا سيدي، رأيت رجلا يجلس باستمرار في المقهى، ويقدم الورد برقة وحنان إلى محبوبته لكن في اليوم التالي أجده يكرر مشهده مع فتاة أخرى، وفي اليوم الثالث يكرر اللعبة مع ثالثة ثم رابعة وخامسة
فهل تريدني، أنا بائعة الورد، أرى مشاعر النساء تذبح أمامي واسكت؟
-هذا شيء نادر، لا يدعوك إلى التخلي عن عملك؟
توقيعع
-لا يا سيدي، بل أصبح أمرا يتكرر بحدة، وأصبحت المقهى تكتض بالرجال الذين يفعلون نفس الفعل، وأنا ارفض أن تكون ورودي تحمل أنفاس الذئاب.
-لا اصدق، هل هناك بشر مثلك يتحركون على الأرض؟
-أرجوك، لا تعطلني أكثر، دعني اذهب بحلوياتي قبل أن تبرد، فأطفال المدارس على وشك الخروج؟
بدأت أوصالي المبعثرة تتعشق فيما بينها، وفي كل صباح جديد كنت أضع الورد في مزهريتي بكل نبل وصدق لأشم رائحة هذه المرأة البسيطة الكادحة الرائعة.