طارت ثمّ طار

طارت ثمّ طار

بقلم :  غرناطة الطنطاوي

    هجرت بيتها وزوجها وقفلت راجعة إلى بلدها وذويها مع أطفالها الثلاثة..

في المطار استقبلها أهلها بعيون ملؤها الدهشة.

البركان انفجر على ما يبدو... طوال ستة أعوام كان يزمجر ويتوعّد ويتهدّد بقذف حممه البركانية، ولكن الإشفاق على الصغار الثلاثة كان يسدّ فوهة البركان من وقت لآخر..

في ليلة العرس قال لها:

- إنّ من حقي أن أتزوّج بثانية وثالثة ورابعة...

أراحت الطرحة البيضاء عن رأسها ونظرت إليه بعينين عاتبتين:

- أهذا وقت المزاح وخاصة في هذا الموضوع...

ولكنه أكّد لها أن هيبته ومكانته لا تسمحان له بالمزاح، فهو رجل جدّي بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى، فالمسؤولية التي يحملها على عاتقه كبيرة كبيرة... فالدعوة إلى الله، والرجوع إلى تعاليم الإسلام مهمّة صعبة، وعليه أداؤها بكلّ قواه العقلية والجسمية.

كان يناقش هذا ويجادل ذاك بمنطق سليم. ولكن الإسلام هو الذي يتحدّث عن نفسه بثقة وعزّة... حيث تعاليمه السمحة الراسخة المُحْكَمة في كلّ صغيرة وكبيرة من أمور الحياة.. الواضحة وضوح البدر في الليلة الظلماء... لا يحتاج إلى حذلقة بعض المتحذلقين بوصف عظمته وقوته بكلمات رنانة وكليشيهات حفظوها عن ظهر قلب يرددونها في كلّ مناسبة وبدون مناسبة... مع أنه كان بإمكان كلّ فرد منهم أن يكون سفير الإسلام في كلّ مكان وزمان بتصرفاته الرزينة وبصدق أفعاله وأقواله... كم من تاجر ذهب إلى أقاصي الأرض بهدف التجارة، ولكنه بإيمانه القويّ، ومعاملته الصادقة هدى أعتى الناس إلى دين الله، لو أنّ هذا التاجر عبس وتولّى وألقى محاضرة في الإسلام والمبادئ والفطرة و.. و.. بوجه متجهّم وباستنكار لمعتقدات هؤلاء الناس، لانفضّ من حوله كل صغير وكبير...

ولكن صاحبنا كان يفهم من الإسلام كما يفهم صبي صغير عن تركيب قنبلة ذريّة، وكم يحلو له ترديد الآية الكريمة:

] فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع [.

 آه كم يستشعر عظمة الإسلام في هذه الآية ويهزّ رأسه طرباً.

يتوقّف عند كلمة (رباع) ولا يكمل الآية الكريمة:

] فإن خفتم ألاّ تعدلوا فواحدة [.

 وفي آية كريمة في السورة نفسها:

] ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم [.

ولكن ماله ولهذه الحيثيات...

بعد سنة واحدة من زواجه بدأ رحلة البحث عن ابنة حلال أخرى تشاركه حياته بحجة أنها ستعين زوجته على أعباء المنزل، وخاصة بعد قدوم المولود الجديد..

ضحكت زوجته من أعماقها من حجّته الواهية، فالمنزل يتكوّن من غرفتين صغيرتين وحمام ومطبخ أي أن تنظيف البيت لا يستغرق ساعة من الزمن، وهما بالكاد يعيشان، الديون تسربله من رأسه إلى أخمص قدميه، ولكنْ عنده إحساس أن الزوجة الثانية ستفتح له أبواب الرزق، فكما يقولون: (وجه يجلب النحس، ووجه يجلب الخير..)

قال له إمام المسجد القريب من بيته:

- أباح الإسلام الزواج من أخرى لوجود علّة أو مرض أو عقم في زوجتك... والحمد لله زوجتك لا تشكو من شيء...

أجاب الإمامَ :

 - أظنّ أنها تشكو من مرض عصبيّ، لأنها دائمة النرفزة والضيق.

قال إمام المسجد:

- هلاّ بحثت عن أسباب هذا الضيق؟..

وسكت الإمام هنيهة، ثم تابع يقول:

- ولكن إذا سمحت لي أن أتدخّل في خصوصياتك فإنّي أقول لك بصراحة: أنت مصدر هذا الضيق...

- ماذا؟…

- نعم كما سمعت، فكما تعلم.. زوجتي صديقة لزوجتك، وكم من مرة شكت لها من تصرفاتك الفجّة، وإهدارك لكرامتها وأنوثتها.. إذا تزيّنت كالأخريات سخرت من الأحمر والأصفر على وجهها الأسمر، ألم ترها يا أخي؟ ألم تلحظ اسمرار بشرتها قبل أن تعقد قرانك عليها؟...

فردّ عليه محاولاً تحويل دفّة الحديث:

- ولكنها لا تفقه من دينها شيئاً!..

أجاب إمام المسجد بحماسة:

- ألا تصلّي وتصوم وتحفظ عرضها وشرفها وتعرف الحلال والحرام؟ أتريدها أستاذة في الفقه؟!..

- ولكن الإسلام أباح لنا هذه المتعة فلماذا نحرم أنفسنا منها؟..

وهنا قال له الإمام في جدّ وصرامة:

- هنا بيت القصيد.. البعض يظنّ أن الزواج للمتعة فقط مع أنه بناء لأسرة جديدة مسلمة.. لإحصان المسلم من التردّي في الرذيلة.. عجباً أنت تعطي الدروس والمواعظ وتزيل اللبس والغموض عن بعض ما يُشْكل على الناس، وتفسّر معاني القرآن والسنة، ثم تقول هذا؟.. أم أنك ستكون كالمحامي الذي يعرف القانون وسراديبه ومخارجه فيجد الحكم المخفف أو حتى البراءة لمذنب متأكّد من ذنبه…؟ يا صاحبي ألا ترى هؤلاء المتربصين بالإسلام وأهله، أي خطأ يقع فيه المسلم يصبّون اللوم على الإسلام... كم من أديبة وكاتبة نفثت السموم وأطلقت العنان لخيالها المريض تصوّر المسلم زير نساء، حوله الجواري اللواتي لا حول لهنّ ولا قوة يؤمرن فيطعن... كلّ واحدة منهن تكيد للأخرى وتعمل كلّ شيء لجذب رجلها إليها، فهنّ في صراع دائم بعيدات عمّا يدور حولهنّ من عظائم الأمور.. من حرب وسياسة وعلم وثقافة... أي أن الإسلام صنع أجيالاً من النساء الجاهلات الساذجات.. هذا ما يردن الوصول إليه...

حتى إن بعض الفتيات الساذجات بتن يخشين الزواج من رجل متديّن حتى لا يصبحن جواري في مملكة الأزواج... فالمسلسلات التلفزيونية والقصص والروايات لا همّ لها إلاّ الترويج لهذه البضاعة..

فلم لا نفهم الإسلام الفهم الصحيح، ونذبّ عنه الذباب المتهافت عليه للنيل منه...؟

الزواج بأكثر من واحدة في بعض الأحيان يكون ضرورة وواجباً، وخاصة في حالة الحروب… ففي بعض الدول الغربيّة أقرّت هذا الزواج بعد الحرب العالمية الثانية، لموت الكثير من شبابها وارتفاع نسبة الفتيات والعوانس اللواتي انجرفن في تيّار الرذيلة… أي أنهم أقرّوا ما جاء به الإسلام منذ أربعة عشر قرناً... أمّا نحن..

هزّ صاحبنا رأسه مؤكّداً وانحدرت دمعتان سخينتان على وجنتيه وطار إلى زوجته كطفل صغير شعر بدفء حضن أمّه. بعد طول غياب...