الخنجر في ظهر عمر

عبد الجليل الشرنوبي

الخنجر في ظهر عمر

بقلم :  عبد الجليل الشرنوبي*

[email protected]

* المشهد الأول : الخبر
لحية بيضاء .. ثلجية الأصل .. وردية صارت ..جسد نحيل .. كهل القوام من عمر السنين الطوال .. بدن
تطاير .. رجل طار ..كرسي تحمله عجلات .. لا تتوجه زخارف الملك .. مرمي فيعرض الشارع مكسور العجلات و الروح سيارات بيضاء تحمل  شارات هلال أحمر وتعلق علي رأسها طاقية حمراء تقف في الجوار تزأر مكبراتها ..
مآذن جريحة يتحشرج صوتها .. ناقلاً الخبر يبتر  صوتها البكاء

.. تصمت .. تلوذ بآي القرآن ..
شوارع غزة أرحام ولوده تقذف بالآلاف من كل صوب نحو "شارع مسجد المركز الإسلامي " و المولود علامة حياته الصراخ .. مواليد غزة أعمارهم متفاوتة .. ليس بينهم صغيرالكل كبير .. الكل يصرخ .. والصراخ في قاموسهم .. تكبير...
*
المشهد الثاني  "فلاش باك"
مطرود من رحمة ربه .. جمع أعوانه .. نفس الوجوه التي تلتفي في محافله :
"
يهوذا الإسخربوطي" يقف وثلاثين من الفضة تلمع في ظلمة وجهه البائس .. الطامع لتسليم مسيح جديد
 "
أبرهة الحبشي " يداعب شفته المشرومة و يحلم بيوم يهدم فيه الكعبة  "أبو لهب " يوقظ زوجه لتحمل الحطب لتستعر نيران الأخدود..
ابن سلول أشداقه تقطر سم تلعقه أفعى مجلجلة فتعلوا أصوات جلاجلها يرقص علي إيقاعها فيراقصه كل يهود الدونمة
أبو لؤلؤة يخرج علي الجمع والخنجر في غمده متوارياً عن العيون  .. يضحك هرتزل وهو يمد يديه إلي الخنجر تحت طيات الملابس .. ويسحبه .. يشهره ..

الخنجر يتحول في يده رصاصات .. طلقات .. قنابل ..مطاطية .. دمدميه .. عنقودية .. ذكية ..
الخنجر يسقط من يده ينبت في الأرض جرا فات .. مجنزرات ..مصفحات .. مروحيات ..
الضحكات المجنونة تتصاعد من الجمع و .. وهرتزل يخرج من جيبه ثلاث ورقات لعب .. يقلبها .. يضحك ..بين أصابعه يبدلها ويبدلها و يبدلها  "لتختاروا " هكذا قال .
العيون الجاحظة تفتش في خلفيات الورق عن صورة  "عمر " يهوذا وابن سلول اختارا الوسطي ، أبو لهب وأبو لؤلؤة اختارا اليسرى أما أبرهة فقد رفض اللعب مؤكداً أنه مع الرابح لأن المهم عنده هو البيت ..
دخل آريل متأخراً متعللاً بأنه كان ينسف بعض صروح الإنسان .. طلب أن يشترك في اللعب وأختار الورقة الباقية
..
قلب هرتزل الورقة الأولي ثم الثانية والثالثة كلهم  "عمر"أبو لؤلؤة اعترض  "شكله ليس عمر "
لكن الجميع أكدوا وهم ينصرفون للتنفيذ أن صاحب اللحية الثلجية عمر في ثوبه الجديد ..
خرجوا .. وسقط غمد الخنجر علي الأرض فاستحال .. طاولة مفاوضات ..
 *
المشهد الثالث  "بورتريه "
عمر القرن الحادي والعشرين ..
 
يتحرك ولا يسير ..
 
يرفع آلاف الرايات و يداه تحملهما جوانب كرسيه ..
عيناه ترى أفقاً محجوباً عنّا لكنه لا يدعي الولاية
مؤكداً أنه مجرد فرد ..
كلماته لهباً - نبتت شجرته في طينة مقدسية .. مختلطة بتراب أزهري -  يشعل شتاء النفوس .. يذيب ثلجها المتراكم
..
فتحيل الكون ثورة ..
يبتسم فتري سكينة الراقد في الجنة .. لذا يرتمي صغار روضة المجمع الإسلامي في أحضان بسماته كلما هل وبذا
يوصيهم أهلهم مؤكدين أن أحضانه الجنة .

أنفه لا ينفعل إلا عندما يحملون إليه خبر شهيد زفوه ..يهتف  "هبي يا ريح الجنة " .. يسمعها الحاضرون أريجاً
ربانياً يدخل من الأذن للروح .أحلامه بسيطة-  الحرية -
غايته التي يتطلع إليها من فوق كرسيه المتحرك تلخصاها كلمته التي يقولها كلما تحرك  "الله " ..
الزعامة في رأيه حكراً علي رسول الأمة محمد صلي الله عليه وسلم ..
رفض أن يمزق الغاصب كتابا يراه دستوره .. فأعلن الجهاد سبيله للبقاء فسجنوه..ثم أخرجوه ثم حاصروه .. وكلما سأله صحبه عن أسمى أمانيه قال  "الشهادة " يقولها ويترحم علي  "حسن البنا "

مشهد البداية

صباح الاثنين 22 مارس 2004م
قطرات وضوء تسقط من لحية ثلجية .. تتعلق كل قطرة بالشعرالأبيض حتى آخر رمق .. وركعات ليل تحملها ملائك السحر ..ورفيقين تحملهما خطواتهما الوثابة إلي صحبة الشيخ –قطع- أعوان المطرود من رحمة ربه أنجزوا كل الترتيبات .. يهوذا أعد الرادار .. أبرهة ملأ خزان الوقود .. أبو لهب وامرأته تأكدا من صلاحية الصواريخ ..ابن سلول رفع آخر تقرير للمراقبة .. آريل جلس علي مقعد القيادة .. هرتزل أهداه قطعة من خبز مقدس .. باركه برش دماء عدة مواليد ..
وانطلق – قطع – الشيخ يرمق الرفاق وهم يحملونه إلي كرسيه بعين هادئة ..يتحركون دعواته تباركهم .. تطوي لهم الأرض .. ينظر كل منهما إلي الآخر  "آه لو كان المسجد بعيداً " يشعر الشيخ بالنظرات  "هي الصحبة يا شباب " بغير تردد يهتفان  "ما أجملها من صحبة " تسرح نظرات الشيخ يشعران انهما تجاوزا يستجمع أحدهما شجاعته : هل أفسدنا أورادك في طريق المسجد بثرثرتنا متأسفون لكن ..
يقاطعه الشيخ بابتسامة و ضمة عين ترميهما في نهر رقراق .. فيتنفسان نفساً عميقاً بنما يعلوا صوت الشيخ :
أسرعا فالوقت أزف ..
وأسرعا وهما يسبحان في النهر لا يريدان الخروج ..
مسجد المجمع الإسلامي بغزة .. فجره ليس كأي فجر ..
الرواد كثر .. القرآن دوي نحل في جنباته يدوي .. العيون تتطلع لساعة دخول الشيخ عله يلتقط منها رغبة صادقة فتحظى بشرف الولوج إلي قوائم الاستشهاديين  .. ويدخل الشيخ ..
 "
اليوم مختلف " هكذا توالت الهمسات داخل المسجد لم يرتد ثوباً جديداً .. ولم يضع عطراً مغايراً ولم يأخذ من
لحيته ومع ذلك العيون رأته أكثر شباباً .. أعذب ابتسامة.. وأقيمت الصلاة و..  "الله أكبر " الفاتحة .. الركوع
والسجود والفاتحة و "…… يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلي الأرض أرضيتم
بالحياة الدنيا من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل .. " الله أكبر … و السلام عليكم ورحمة
الله دموع الشيخ كانت تسير خلسة بين شعر لحيته .. رآها كل من حضر ورددوا خلفه  "لا لم نرض بالحياة الدنيا يا رب  " و .. ودعوه .
تحرك .. معه الرفقة .. – قطع – أريل يحوم بطائرته والجمع القابع عند المطرود من رحمة ربه يشدون من أزره عبر أجهزة الاتصال :

هيا يا بطل .. ارميه كالطير الأبابيل .. تباً له ولمن معه .. لا بد أن تغمد خنجرك كاملا في الظهر ..و يعلوا
صوت الأفعى المجلجلة طنيناً يملاً أذني  "آريل " يسكره يري الهدف ( ثلاثة أهداف ) هكذا قال وجاءته الإجابة
( المهم عمر .. لا مانع من أحد معه .. لكن تأكد من عمر ) ..   –قطع-
تواري المسجد عن العيون قال الشيخ  "الصحبة يا شباب .. "
فرح الشباب أردف الشيخ  "أبدية يا شباب .. "كبر الشباب
.. وهتف الشيخ  "..لا لم نرض بالحياة الدنيا يا رب..
"وارتج المكان بدوي انفجار هائل .. وتفتحت أبواب السماء
.. تسابقت الملائكة .. غردت الطيور الخضر .. و من كل
حناجر غزة دوت التكبيرات تودع الشيخ .. عمر .. الشهير بـ أحمد ياسين .

     

صحفي مصري
عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمي
عضو اتحاد نقاد السينما المصريين