البراءة أقوى

نعماء محمد المجذوب

البراءة أقوى

قصة: نعماء محمد المجذوب

مضى العام الدراسي، وأقبل الصيف، وذكريات العام لها نكهة، لكل ذكرى موقع في النفس، كفاكهة الفصول المتنوعة،.. سأبني على الغيوم قصوراً، وأسكنها وحدي، قد أتذكر أسماء كثيرة، ومواقف، وأتذكر بينها وجهي، واسمي، قد أتذكر تلميذة كانت كعاصفة أقلعت، ثم أخمدت، تشيح بوجهها بعيداً... لماذا هذا التذكر؟.. لست أدري... ثم أدري.

تناولت صحيفة ألتهم عناوينها، في الصفحة الأخيرة محاولات شعرية لناشئين، وناشئات، تنشط على مثل هذه الصفحة.. توقفت عند إحداها،.. تساءلت:

"من الذي ينتظر القصيدة بعد أن مضى العام الدراسي، وأقبل الصيف للاستراحة، لم يعد ملائماً للغوص في القصيدة الآن"

ولم  أقبع تحت موجتها، ولكن ما لبثت أن رأيت المحارة حبلى... من اعتاد على الغوص لا يمكن أن يصم أذنيه، الصمم ينسي الكلام... سأغوص في القصيدة.

رأيتها محاولة غضة، تمثل شباباً غضاً، فيها جمال يجذب حبات القلوب، ونظرات العيون، مصوغة بأسلوب رقيق، تحررت من قيد القافية، وأجزاء من الوزن.

هل الحب ضاع وتبدد؟

لشد ما أحتاج إلى كلمة الحب المسموعة، والمنطوقة!

لكنها عصية.

لم تنطق، ولم تسمع.

إلى متى كلمة الحب في القلب كامنة؟

هل أبقى في الظل إلى الأبد؟

متى تتجاوز ذاتك، وتثبت حضورك؟

دفعتني إلى مفارقة ما ألفيته من راحة بوجودك.

إلى أين يقودني مصيري؟

أم أنا من أدفع الثمن باختياري.

فالذي يختار يمشي إلى مصيره.

قد يمشي إلى حتفه الذي ينتظره.

منذ لحظة الانتظار.

أخشى ما أخشاه المصير المريع.

في قلبك كلمة الحب كامنة.

لمَ أخرستها؟

أنطقْها من أجلي، من أجل أخواتي.

نحن بحاجة إليها

دعني ألقي رأسي على صدرك

دعني أستمتع بعدد نبضات قلبك

متى تعي بنا؟

متى تتجاوز ذاتك، وتثبت حضورك؟

لا تقتلنا بإهمالك.

نحن بانتظارك.

ألا تدري؟

إننا كسيرات القلوب.

مهيضات الأجنحة.

أحبك يا أبي.. أحبك حتى الموت.

عد لنا، عد لنا.

"أمينة ب"

إذاً، هي أمينة، أسمع صوتها صارخاً في محاولتها الشعرية، وراء ما يشبه القناع، تعبر عن الألم، والسأم، والهجران، بلا أبعاد، ولا آماد، لأنها تعيش بلا ظلال من حب الأب، ورعايته لها، ولأخواتها، كأنها تهزه في جنون، وتدعو قلبه إلى اللين.

أثارت في مخيلتي، وسمعي شخصها، حين انزلقت قصيدتها على ذهني، وأنا أتصورها تحيا بلا ظلال مع أخواتها آلاف الليالي في زمن أبيها الأعمى عن الرؤية، وأبوابهن موصدة على كثير من المعاناة.أمينة لم تزل مثقلة بالحزن والكآبة، شعرها كان ميلاداً بلا حسبان، نغمة الزمن الموحش، أمنياتها مجنحة في نفسها مكسورة وترفض الموت حتف أنفها، وتمشي مثقلة فوق الأرض، وأبوها إنسان، وليس الإنسان.

هجرهن، ونام عنهن، وجعلهن يغرقن في صمتهن.

غابت الدنيا أمام ناظري، وأنا غارقة في حيرتي التي يزداد غمامها، محاولة البحث عن الإجابة المحددة، وخاطر يائس قد طاف برأسي فيما يشبه الإحساس بالندم... لأنها لجأت إليّ.

هل صددتُها؟

أجل، هربتُ من المواجهة.

أهكذا يا أمينة بعد سنوات ألتقي بك مرة أخرى، ولكن على الورق؟...

وتمر الذكريات متداخلة، ذكريات فيها ألم، أنين، قهر، ذكريات طرقت في محاولتها الشعرية، تستعرض فيها تفاصيل غير مملة... قطعت شريط الصمت بعد سنوات تسترجع أنفاسها، وترجعني إلى أحداث ومواقف.

كانت أمينة إحدى طالباتي في (التوجيهي)، تميل إلى السمنة، ثقيلة الخطو، محمرة العينين، كثيرة الصمت، في عينيها ذهول، وشرود، ألمح فيها غموضاً محيراً، واضطراباً، وإن نبهتها، بادرت بالتأسف... كنت أرى في هذا النوع من الطالبات ميداناً لأساليبي التربوية، أغوص في أعماقهن من خلال سلوكهن، أعينهن على تجاوز ما يعانين، وقد اكتشفت لدى بعضهن ملكة الموهبة، فأشجعهن على الاستمرار..

كانت أمينة من هؤلاء، أذيل موضوعاتها في التعبير بعبارات الثناء، وأنا أرى في أسلوبها السابح في أمواج من الخيال، وعذوبة اللفظ، ومعالجة الفكرة، شكلاً حسناً يتناسب مع سنها.

في ذات يوم اقتربت مني بخطاها الهادئة، تطقطق بأصابعها كعادتها التي لم تتخلّ عنها، أحاطت البسمة ثغرها، وأبانت عن أسنانها المنضودة كاللؤلؤ، والتمعت عيناها ببريق متألق، يزيده وضوحاً اسمرار بشرتها، همست بصوت خافت:

- لديّ محاولات شعرية أود أن تقرئيها، وتبدي رأيك فيها.

انتابتني بهجة، وجدتها فرصة لإبراز ملكتها الشعرية، ورعايتها، قلت مشجعة:

- أحضريها غداً.

جاء الغد بصباحه المشرق، ونسيمه يداعبنا بنداوة لطيفة، ويمنح نفوسنا الحبور... كانت غرفة المدرسات تلملمنا بعد بعثرتنا في الفصول، وكانت ميداناً لمناقشة ما يعترضنا من مشكلات، وتبادل الآراء لحلها.. وكثيراً ما نسر لنكتة تدغدغ نفوسنا، نتجاوب معها بضحك يزيل إرهاقنا.

في هذا اليوم حدث ما غيَّر أمزجتنا... فوجئت بالزميلة "نجاة" تنتقل بخفتها المعهودة، تهمس في أذن كل زميلة كلاماً.. طرق سمعي شيء منه.. تفسدهن، تسيء توجيههن، يجب إعلام الإدارة عنها، وعن أمينة الفاسدة، لفصلها من المدرسة.

لم أعرها بادئ الأمر أدنى اهتمام، فقد عرفت بدأبها المستمر على فصم أواصر الألفة فيما بيننا بما تفتريه من اتهامات باطلة، تنشرها في أجواء المدرسة غير هيابة، وتشعر بنشوة الظفر وهي ترى ضحيتها تتلوى أمامها، حتى إذا ما افتضح أمرها تأسفت بمراوغة معهودة فيها.

بيد أني لمحت على الوجوه وجوماً ثقيلاً، وفي العيون غمزاً، يشرن إليها بالكف عن الحديث.. ثم انشغلت بأوراق في يدها، فاكتفيت بأن أضيف تلك اللحظة إلى رصيد ملاحظاتي، حتى تتاح لي الفرصة لأتأكد من الأمر فيما بعد.. ثم تسرع خارج الغرفة لتتابع همزها ولمزها.. تساءلت:

لم وجم الجميع، وتغامزن حين رأينني؟

لمن توجه المفتربة افتراءاتها اليوم؟

من الضحية المغفلة؟

تفرست في الوجوه أقرأ صفحاتها.. فقد أزيل شيئاً من الغموض اعتراني.

هل الحديث يتعلق بي، فصمتن؟

أين ضحكاتهن، ومداعباتهن البريئة؟

أحسست بتجهم المكان، والسكون الموحش، انتابني استنكار، فشاركتهن وجومهن، قلت:

"عاصفة عابرة، ثم تتلاشى كالعادة."

ولكني شعرت بالغربة تجتاح روحي، تمزق نفسي، تلقيني في عمق سحيق، تتناوشني شكوك، همست:

قد أكون أنا الضحية.. ربما..

تعلمت كيف أهرب من العاصفة إن كانت تتعلق بغيري، أما الآن فلا أحاول الهرب، يمكنني مواجهة الموقف.

سألت:

- ما الأمر؟

حاولت أن أستدرج الزميلة، وأستدرجهن، كانت مرتبكة كعادتها، خيمت على وجهها سحابة من الخوف والقلق قبل أن تجيب.. ثم اقتربت مني بجراءة، وهي تصوب نظراتها الحادة، لتقول:

- إنه الغزل يا عزيزتي في عبارات الحب، والعاطفة المشبوبة، في محاولات أمينة الشعرية.

تلقفت آذان المدرسات اللفظ بانزعاج، ورددن التعليقات.

بدهشة تساءلت:

- أيمكن أن يصدر من أمينة مثل ذلك؟

- أين القيم والأخلاق؟

- أين السياج الشائك حول الفتاة في المدينة المنورة المراعية لها؟

- هل أرادت أمينة أن أرعى عواطفها المشبوبة في محاولتها الشعرية؟

راودتني فكرة تعنيفها بقسوة.. ثم ما لبثت أن ارتبت في كلام هذه الزميلة.

بتصميم قلت:

- ينبغي أن أطلع على محاولتها هذه، لإمكان إرشادها قبل أن تنجرف.

بادرتني إحداهن قائلة:

- نحن هنا أجنبيات غريبات، نقوم بمهمتنا التعليمية، لا شأن لنا بالجوانب الأخرى.

أنهت عبارتها بطرقة على سطح المكتب، كأنها تصدر من القاضي في قاعة المحكمة.. فكان القرار النهائي، وإغلاق الملف.

أبديت عدم الرضا، وبإصرار قلت:

- بل مهمتنا تعليمية، تربوية بآن واحد.

كان الإجماع على إغفال الجانب الآخر، بحجة أننا أجنبيات، ولا نريد أن نلقي بأنفسنا في التهلكة.

خيم الهدوء، وشعرت الزميلة بنشوة الظفر، وعلت وجهها ابتسامة النصر.. سألتُ:

- أين الدفتر الذي احتوى المحاولة الشعرية للاطلاع عليها؟

امتقع وجهها، أخذت تراوغ كعادتها بإلقاء المعاذير، وهي تشبك بين أصابعها في توتر ظاهر، وجسمها في ارتعاش، ورأسها يتمايل بذل فوق كتفيها، ثم لتقول:

- والله ما كنت لأقصدك.

- بل تقصدين.

- إنك مربية فاضلة، لا نشك في ذلك.

- بل إنك.. ونشك في أن تكوني..

ضغطت على شفتي بغيظ، كان بودي أن أستجمع ألفاظ الشتائم واللوم لأهوي بها على أمّ رأسها. همستُ:

- آه.. لو كان للغيظ أيد ومخالب لمزقتها شر ممزق..

ثم رأيت أن أكتم غيظي، وأعفو عنها.. كظمت، عفوت، ودعوت لها بالهداية، وهجرتها هجراً جميلاً.

تراخيت فوق الكرسي، لأعيد لنفسي هدوءها.. ولكن السؤال عاودني يلح عليّ:

- أين الدفتر الذي يضم محاولة أمينة الشعرية.. أين اختفى الدليل؟

توهمت أن الأمر قد أصبح واضحاً، أعلنتُ أمام زميلاتي بعدم اطلاعي على ما كتبت أمينة.

تفهمت الزميلات الموقف، لم يعلقن، سألتهن:

- أما تعلمن أن أمينة تعيش في معاناة؟

- لا يهمنا أمرها، نحن هنا أجنبيات.

- لماذا؟ أهذه وظيفتنا؟ إفراغ المعلومات في أذهان الطالبات وعدم دراسة أحوالهن؟

ثم رأيت أن أبتعد بسرعة عن ذلك الجو الخانق، أسعفني رنين الجرس.. خرجت مسرعة، قلت أهدئ نفسي:

- أمور تافهة لا تستحق سوى بضع كلمات عتاب، وينتهي الأمر..

وأنا لا أدري ما يدور بخلد هذه الزميلة.. شككت بها، تريد أن تتهمني بسوء التوجيه.. أكيد..

كلمات ترددت في ذهني، ولا أجد لها جواباً مقنعاً، بذعر وحيرة تساءلت:

- هل ساورتهن شكوك تجاهي آنذاك يا ترى؟.. ربما..

خيّم في نفسي سكون صاخب بضجيج الذكريات التي سرحت فيها.. أحسست بضيق حين تذكرت بناتي في سورية.. إذ أنّ الموقف ألقاني في عالم ضبابي بعيد، حيث تراءين لي يعانين الوحشة، ويدرن شئونهن بأنفسهن.. ضاق صدري، انتابني دوار ألقاني في عالم مليء بالهواجس، بذعر تساءلت:

- أيمكن أن يتعرضن إلى مثل ما تعرضت إليه أمينة؟.. يا ويلتي.

أثناء ذهولي، أطل في مخيلتي وجه (ريم) ذو الغمازين، يزدادان وضوحاً وعمقاً أثناء انفعالها، حين تحس بظلم، أو انتقاص، أو اعتداء، كانت تعلو مكتبها في الفصل، تطنب قامتها، وتلوح بقبضة يدها مهددة:

- والله سوف أشكوكم لبابا.

عبارة تفرغ الطفلة فيها غيظها، لتشعر الآخرين بحماية أبيها، ومقدرته مما يضطر المعلمة إلى مجاملتها، ودفع الأذى عنها.

وضحكت من أعماقي وأنا أتذكر قول أحد الآباء لابنته وهي في مرحلة المراهقة:

- المرأة والطفل الصغير، يحسبان أن الرجل على كل شيء قدير.

بمرارة، وألم تساءلت:

- بمن تحتمي أمينة، وبمن تتوعد؟

أبأب تائه في بحر الغرام مع زوجته الشابة؟

أم بأم أنهكها العمل في الخدمة داخل البيوت؟.. تكافح لتبني لبناتها المستقبل الجميل أسوة بأترابهن.

سألت الزميلة نجاة:

- لم لا ترينني الدفتر؟

إن الكتابة ليست عملاً فردياً، ننظر إليها بصدق بعينين صافيتين، أمينة بلا شك تقدم نفسها من خلال تجربتها الذاتية، الصادقة، الإنسانية.. أشك بكل ما تقولين حول أمينة من سوء الأخلاق. أجيبي على سؤالي:

- هل اكتشفت شيئاً مشيناً؟

- نعم، أشياء، وأشياء.

سؤال طرحته على نفسي:

- ما الذي جعل أمينة تتعرض لكل هذه المحاولات؟

كانت كلمات الزميلة عن أمينة أشبه بزلزال ضرب المدرسة.. تهيأ لي أن كل شيء في شخصها تحطم.

خرجت من غرفة المدرسات ساخطة، وأنا أهمس:

- كيف يتعين عليّ في مثل هذا الموقف أن أبرئ نفسي؟

تضاربت الآراء حول أمينة، وترسبت الحيرة في داخلي، فلم أستطع الاهتداء إلى رأي حاسم، وانتهيت إلى ترجيح فكرة الحصول على الدفتر.

كانت الألسنة كالزوابع، فتَّتَتْ نفس أمينة، وغيبت سرّها، وأضحت خطراً يهدد سمعتها في المدينة المنورة.

انتابني شوق ملح إلى بناتي في الوطن البعيد، تمنيت أن أطير على جناح البرق إليهن.. بقيت الصلة بهن من خلال الرسائل، والهاتف، تشعرني بسقوط الحدود، وانطواء المسافات، وحاجتنا الآسرة.. بعضنا إلى بعض.. أكيد هنّ يعانين من الغربة والوحشة كما تعاني أمينة.

التقيت بها في الممر الطويل خارج الفصول، كان في وجهها صورة شحوب غامض متوج بشرود.. كان يبدو أنه قديم منذ الطفولة، سألتها:

- ما بك؟ أراك ترتعشين.

- أرجوك، حاولي أن تنقذيني، فأنا لولا تشجيعك ما كتبت شعراً، ولا نثراً.

لقد ساءها من المعلمة نجاة ما لاقته من استنكار، وتعريض، واتهام بسوء الأخلاق، والفساد، شعرت بلوعة تلهبها، وتحاصرها، وهي تنتظر على جمر الشوق رأيي الجاد فيما كتبت، كنت أعتقد أنها تمتلك الموهبة والقدرة غير العادية على الإبداع.. كان الكلام واضحاً، وموجزاً إلى درجة أنني دهشت، فلم أهمس بحرف للحظات، وحرت، ماذا أقول.. ابتسمت وهي تقول:

- كنت أود أن أعرف رأيك فيما كتبتُ.

سألتها:

- أين الدفتر؟

- خطفته المعلمة نجاة من يدي، وجرت به.

عدت إلى ذهولي وحيرتي، وتساءلت:

- أين أخفته؟

هل مزقته؟

ماذا فعلت به؟

أمينة، انسي الموضوع، واستعيدي هدوءك.

لكنها ظلت تسأل بريبة واستنكار.. ويصمت كل شيء، وأنا أنظر إليها بسكون، كابحة قلقي عليها، وأنا أراها في اضطراب، وأدركت فعلاً أنها تقبع متوجسة داخل ملابسها.

كانت بقايا صوتها تأتي إليّ خافتة، وهي تقول:

- لقد أرعبتني فكرة الفصل من المدرسة، أحقاً سأفصل؟ أمر مستغرب، أليس كذلك؟

ربتُ على كتفها بإشفاق، وأنا أقول:

- سنجد لك حلاً، سيكون مريحاً لك.

رأيت في عينيها الدهشة، استوقفتني ملياًَ نظرة حزينة تعكس ما تمتلئ به نفسها، بدا وكأن قلبها وروحها تساقطا على الأرض.

- دعي التفكير بما لا جدوى منه، واهتمي بدراستك.

تفهمت أمينة الموقف، لم تعلق، أطرقت برأسها ترنو إلى الأرض، والدموع تسيل على خديها، وانسحبت قبل أن أكمل كلامي.. تجاهلت دموعها بمنتهى القسوة، فلم يكن بمقدوري أن أفعل شيئاً، وبقيت أتساءل بحيرة:

أين الدفتر، الدليل الوحيد على براءتي وبراءتها؟

إن أمينة حزينة، جد حزينة، وستظل تسأل بريبة وانكسار..

تابعت طريقي، لا أكاد أعي ما حولي، ما حصل كأنه كابوس.

كان صباح اليوم التالي كئيباً معتماً.. علقت المديرة ضاحكة بعد العلم بالأمر:

- إني مطلعة على ملف أمينة، لم تأت أي شكوى ضدها من المعلمات، أو الطالبات.

كنت أرى أحياناً ابتسامة باهتة في وجه أمينة، وعلامات القهر تظهر في تعابير وجهها، لم تزل عيناها تتعلقان بشفتي تنتظران جوابي الذي يمحو ما وصمت به.. كنت أتجاهلها.. لا أدري لمَ كنت أفعل ذلك، ولكني أهمس بصدق معاناتها، وأضغط على نفسي بغيظ، وأنا ألملم في ذهني الصور المبعثرة في غرفة المدرسات مغلفة بالألم، وأصطنع الهدوء، وأواسي أمينة بنظرة مطمئنة، وأتساءل بلوم:

- لم صمتُّ؟

هل كنت أخشى على نفسي؟.. أكيد..

أعلم أن محنتها ثقيلة عليها الآن، تنوء به سنو عمرها بحملها.. فليس أثقل على الفتاة من رؤية سمعتها تهشم، وتلوكها الألسنة، وتنفر منها صاحباتها، ولم يعد في يدي حيلة، فالدفتر الدليل الوحيد لإثبات براءتي وبراءتها قد أخفي، والقضية لملمت بطريقة عشوائية، وأدينت بجريمة التصريح بالحب، وما يستتبعه من لقاءات وهم، خارجة عن نطاق الأخلاق والفضيلة.

قلت أحدث نفسي:

- أشعر بأنينها، وقهرها، ثم ألقيه في أخاديد النسيان.

مرت الأيام بطيئة، وكان الاستعداد للامتحانات في نهاية العام الدراسي، واعتزلت الطالبات في البيوت للمذاكرة، كنا خلالها نجري عملية تهيئة الفصول بتعرية الجدران، والمكاتب.. هنا كراسات وكتب أهملت، وهنا مرايا صغيرة وأقلام شفاه، وزجاجات عطر وأمشاط أخفيت في بطون المكاتب.. قد أجد مجلة أو أكثر لنجوم الرياضة والسينما، أبتسم، أضحك، أعلق على بعض ما أرى، وأهمس:

إنها أشياء خصبة للإعلانات الفاضحة كي تذاع في مجتمع المدرسة..

آنذاك دخلت الزميلة (نجاة) متلهفة تدعوني إلى مشاهدة ما وجدت، ثم أخذت تعدد الأشياء بابتسامة ساخرة قلت:

- شيء طبيعي، طالبات مراهقات، الأشياء التي نراها لا تستدعي الهلع والتلهف، انظري إلى الجدران.. قلبان متعانقان صادهما سهم طائش.. كلمات منمنمة في بعضها مديح لبعض الزميلات، وأخرى فيها سباب.. قلوب صغيرة متناثرة فوق الجدار.. وأشياء كثيرة جداً.. أمر غير مستغرب.

قالت بخبث:

- ألا تذكرين أمينة، و..

- رجاء دعيني وشأني، وجع رأسي يحول دون تذكري لما حصل تماماً.

خرجت والذل يسكنها.

أثناء عملية الإزالة عن أسطح المكاتب، لفت نظري رسم طائر يحاول جاهداً الطيران، أفرد جناحيه يحلق، اصطدم بسفح جبل، تهشم أحد جناحيه، تقاطر الدم، لم يتوقف عن الطيران.. تأملت الرسم، أتابع بنظراتي تفاصيله.. طير مهيض الجناح ينزف.. ويبقى منطلقاً بشموخ نحو العلاء، لا يسيطر عليه اليأس، ولا يعيقه الألم، همست:

- إرادة قوية، وعزم مستمر..

مررت أصابعي برفق على الجناح المهشم، ثم لتتوقف في نهايته عند اسم (أمينة) حفرته بدقة عند مساحة الدم.

بانبهار قلت:

- أميـ ـ ـ نة؟

استيقظ في نفسي الألم، أبت أن تبقى في عالم النسيان، أطلت بهذا الرسم الجريح، لم تُتح لها الفرصة للإفصاح بلسانها، والدفاع عن كرامتها، وجدت نفسي من القسوة ما أخرسها، فلاذت بالجماد الأصم تفرغ عليه من ذاتها، وتشكو إليه همها.. تذكرتُ هربي من استغاثة نظراتها، مسوغة موقفي بمعاذير.. قد تكون واهية، بحزن قلت:

-       لك الله يا أمينة.

كبحت صورتها في ذهني، وتغافلت ثانية عن أمرها، لا أريد أن أفسح المجال لنقاش، وجدال، وصراخ، ومحاكمة فيها رفع الظلم، وعقاب الظالم، ونحن ندعي السلام والمحبة، ونرفع ألوية الوهم.

أقبل الصيف، كنت أراه كئيباً، كان عام، وتلاه آخر مثقلاً بالذكريات، يتردد صداها في جنبات نفسي بمشاعر متموجة من أنين، وزغردة، ضحك وسخرية، أو همس مشوب بلذة السعادة، أو صوت مبحوح يجرحه الحنين، بحيرة أتساءل:

لم لا تندثر الذكريات وتتلاشى؟

أحاول أن أجتثها من جذورها، فما تلبث أن تنبثق.

شغلتُ بقراءة الصحف، ولشد ما يسترعي انتباهي كتابات الناشئين، والناشئات، حتى التقيت بأمينة خلال محاولتها الشعرية، كانت انعكاساً لحياتها، وحصيلة لعزلتها مع نفسها، أزاحت اللثام عما تحتفظ به من سرّ أسريّ مدفون تحت هشيم كان مهملاً طوال سنوات، اتجهت فيها إلى إثبات ذاتها بصفات مختلفة، تريد صنع قرارها بنفسها، واستطاعت الإتقان في الخواء والفراغ.

كان قد اجتاح قلبها همٌّ عاطفي لقسوة أبيها، ملأته بمحاولات شعرية، فغاصت بها ولعاً بأبيها، وتصديراً لمعاناتها، وبكاء، وحزناً، في رقة وتفاؤل حتى في حزنها وبكائها على الفراق والهجران واللوعة، وأبت أن تكون تائهة في جحيم الألسنة رغم عذابها.. ويبدو أن زمن التمزق، والانسحاق، والحيرة الذي عاشته يبشر بغد إنساني جميل، وأن الواقع المرير الذي كابدته لم يؤثر في إيمانها بأن مستقبلها سيكون أبهى.. فكانت محاولتها الشعرية أسيرة زمان ومكان محددين، وظروف لم تصنعها، فالرمال لا تحفظ جذوراً، والشمس الحارقة لا تبقى على الأطلال.

شكراً لله أن لم تلق أمينة بما كتبت للنيران، بقيت تفتح باب قلبها لأنفاس الندى، والسعي لمستقبلها مع الناس، وبين زميلاتها في الجامعة، ثم تومض في الزحام، وتكون حقيقة حيّة في فعل الاختبار الذي لم يكتمل إلا بإلقاء الهراء وراء ظهرها، وتمضي بثبات، وتدرك أن الإنسان لا يموت إلا إذا مات في أعماقه الإنسان، وأن الإنسان الحق هو من ينطلق بجناحي الأمل والعمل.

ما أجمل الحقيقة وهي تتجلى بعد سنوات من خلال كلماتها الشاعرية، تتجلى مع فجر حياتها، وتبشر لولادة مستقبل جميل، تنبض مثل قلب الشمس، وتملأ شعاب قلبها بالحب، ولو كان وهماً.

وتساءلت:

هل تمنحنا أمينة المزيد من محاولاتها الشعرية؟

لقد استطاعت أن تبرئ نفسها من التهم الباطلة، وتثبت حضورها الإنساني.. كم وددت لو ذهبت إلى حارتها التي نشأت فيها، ودرست حالتها ضمن أسرتها.

وبحيرة أتساءل:

هل يقرأ أبوها خواطرها عسى أن يطرب قليلاً، وتتراجع أهواؤه نحو بناته؟

هل يخفف من تسلطه الحاد عليهن باسم الأبوّة؟

هل يعتذر عن تقصيره أو يسوغ موقفه؟

قد يكون أقرب إلى الشرح لأمر تعذر عليه أن يوصله إلى بناته كما كان يظن.

هل عاد إليها وإليهن؟.. ربما، لمَ لا؟.. آمل أن يكون ضميره قد استيقظ بعد سبات.

رنّ الهاتف، كان صوت الزميلة (نجاة) بقيتْ على اتصال بي رغم سنوات البعاد.

- كيف حالك؟

- بخير ولله الحمد.

- هل علمت آخر الأنباء؟

- علمتها، وقرأتها، وفهمت أسرارها.

- عمن تتكلمين؟

- عن أمينة ب..

- تلك الطالبة الفاسدة؟

- بل الطيبة الطاهرة، البريئة، التي حطمتِ سمعتها، وحرمتها من حق الدفاع عن كرامتها، لكن استطاعت أن تسمع أنين شكواها عبر الكلمة في الصحيفة.. هاك اسمعي..

ثم سمعت صوتها ينساب بتراخ، وتصورت الابتسامة الباهتة، ونعومة مراوغتها، وهي تقول:

- آسفة..

وصمت الهاتف بصمتها.

قلت بانعتاق:

- ما أعدلك يا الله!

أمينة الزهرة المهانة، تنبثق من خلال الأنقاض، وتفوح بعطر أريجها، بعذوبة لفظ، ونبل مشاعر، وخلق؟..