النَّسر والفأر

النَّسر والفأر

بقلم :  غرناطة الطنطاوي

حرارة الجو مرتفعة بشكل ملحوظ، كأنها مستمدّة من حرارة هؤلاء الصبية الصغار... الدماء تتدفّق في عروقهم حارّة متحفّزة مخضوبة بحنّاء الأرض، فقد انتهوا للتوّ من جمع الحجارة وقذفها في ظهور أعدائهم المولّين الأدبار دائماً، كم صالوا وجالوا، ضحكوا وعبسوا، تراجعوا وتقدّموا، كلّ واحد منهم تخيّر لنفسه اسماً حركيّاً كالكبار، ولمَ لا؟ إنّ هذا حقّ تفرضه بطولتهم وجروحهم التي لا تكاد تبرأ وتندمل حتى تعاود النزف من جديد…

سعيد اختار اسم صلاح الدين تيمناً بصلاح الدين الأيوبي، وأحمد اختار اسم القعقاع، وعمر اختار اسم أبي دجانة، وغيره اختار اسم خالد بن الوليد...

لله درّهم من صبية ولا عجب.. فهم أبطال الحجارة... نبتوا بين حجارة المخيّمات الصلدة، والكهوف المظلمة الصلبة، والأقباء الرطبة.. عاشوا فيها وبينها لحظة بلحظة، تعلّموا منها الصمود والتحدّي ومقاومة عوادي الزمن من فقر ومرض، كم حدّثتهم وحدّثوها عن تاريخ أبطالهم، فحفرت في عقولهم أخاديد عظيمة من أسماء يجب ألاّ تُنسى، وشرخت قلوبهم بحقد مقدَّس لا يُمحى على أعداء الإنسانية في كلّ زمان ومكان..

خطر في بال سعيد أن يلهو مع أصدقائه بعد عناء المعركة التي خاضوها منذ قليل...

فالطفولة وبراءتها أصيلتان في نفوسهم كأصالة دمائهم العربية، وكم يحلو اللعب بلعبة (عسكر وحرامية)... كأنّ هذه اللعبة هي القاسم المشترك بين أطفال العرب على كلّ بقعة من أرض لغة الضاد، كلهم يلعبون هذه اللعبة، وكلهم يرفضون دور الحرامية المتمثلة دائماً وأبداً بالصهيونية اللصوصية... فيقومون بإجراء القرعة بينهم، وسيّء الحظ هو الذي يقع عليه دور الحرامي، فيحمرّ وجهه خجلاً ويتقبّل الدور مكرهاً.. ثم يحاول تمثيل الدور بإحكام ما أمكنه ذلك، فيُظهر المذلة والخوف والتوجّس.. فتدور الحدقتان في محجريهما بترقّب ويحاول الاختباء دائماً...

وعلى العسكر المتمثلين بالعرب دائماً أن يبحثوا عن هذا اللص...

قفز سعيد (واسمه الحركي صلاح الدين) إلى سطح بيت متهدّم ليباغت الحرامي ويقبض عليه، وفي هذه الأثناء كان هناك جندي يهودي أصفر الوجه غائر العينين، ناتئ الخدين، كأنّ أنيبيا حادّة قد غزت وجهه واحتلّته إلى الأبد...

كان منهكاً محنقاً من ثورة هؤلاء الصبية، ومن حجارتهم العنيدة، وكان العرق يتصبب منه فتبدو ملامحه موحلة.. أراد أن يريح جسده المهدود إلى جدار ذلك البيت المهدّم، ويستظلّ بظلّه الحزين الذي يحنّ إلى أصحابه وأطفاله المشردين...فأسرع إليه، وأسند ظهره عليه ..

كان مع ذلك الجندي جهاز لاسلكي لا يفارقه لحظة، ليستنجد به إذا جدّ جديد... فهو كالحرامي دائم التوجّس والتخوّف... وكان هوائي ذلك الجهاز مشرعاً إلى آخره لينقل ذبذبات صوت صاحبه المرتجفة في أي وقت شاء...

أسند ظهره إلى جدار البيت المهدم، واسترخى، ليستدعي إغفاءة خفيفة بعد أن مسح المنطقة بعينيه تفتيشاً وتمحيصاً عن فدائي، صغيراً كان أم كبيراً، ولمّا تأكّد من خلوّ المنطقة من أي شيء يعكّر مزاجه، ويسرق أمنه وحياته، تثاءب وتمطّى، ومسح وجهه بيديه واستلقى على قفاه، وأغمض عينيه، هرباً من التعاسة التي يعيشها..

كان سعيد على سطح هذا البيت يراقب الجندي بابتسامة استهزاء وسخرية... قال في نفسه:

" هذا هو الحرامي الحقيقي، فلم لا أنقضّ عليه، وأسحبه إلى أصحابي ليعاقبوه العقاب المناسب؟.."

بعد هنيهة، سيطرت على تفكيره لعبة بريئة ولكنها تحمل معها معاني كثيرة… بحث في جيوب سترته فلم يجد مبتغاه… بحث في جيوب بنطاله المتهرئ ولكن الجيوب كانت مثقوبة بعضها كالغربال، وبعضها كالمنخل… بحيث لا يمكن الاعتماد عليها في إخفاء شيء…

ضرب جبهته بيده متذكراً بحركة تمثيلية مضحكة، ورفع طرف بنطاله، وأراح جوربه فأشرق وجهه فقد رأى ما يريد...

لم يكن هذا المبتغى قطعة شوكولاته أو بسكويت... فهو طفل عربي أي رجل صغير... تناول علماً فلسطينياً صغيراً بإجلال وحبّ وقبّله، فقد صنعه بيديه من ورق ملوّن... واستخرج بهدوء خيطاً من قميصه فظهر التمزّق من جديد في ذلك القميص الذي طالما رتقته له والدته...

أخذ العلم وربطه -بهدوء وحذر- بهوائي الجهاز اللاسلكي، ولمّا تأكّد له ما يريد، كادت تفلت من فمه ضحكة مجلجلة، فأخفى فمه بقميصه، ودمعت عيناه من الضحك المكبوت..

جلس ينتظر حتى يفيق العسكري اليهودي، ويرى ردّة فعله، وقد نسي أصحابه واللعب معهم، فقد استهوته لعبة القط والفأر أكثر...

تأخّر الجندي في إغفاءته، وسعيد متشوّق لرؤية ردّة فعله حيال العلم المعلّق في الهوائي...

أخذ حصاة صغيرة وقذفها على الأرض بجانب الجندي... هبّ الجندي مذعوراً وهيّأ سلاحه وأخذ ينظر يمنة ويسرة، فلم يرَ شيئاً فقال في نفسه:

" لعلها نسمة عابثة أو فأرة ظهرت من هذا البيت الخرب..."

فرك عينيه جيّداً ورفع بنطاله مثبتاً عليه سلاحه، وأصلح من هندامه وذهب إلى مركزه مبتسماً، فقد قام بدوره أحسن قيام في صدّ الانتفاضة... ولم ينتبه إلى العلم الفلسطيني، وهو يرفرف فوق رأسه منتشياً...

لحقه سعيد من بعيد متستراً بشجرة أو ببيت أو بسيارة، ليرى نتيجة فعلته هذه ليقصّها على جدّته وأهله وأصدقائه مفتخراً بشجاعته وقوته...

دخل الجندي مركز القيادة وهو يصفّر ويصفق بيديه، منتشياً كقائد منتصر.. ألقى التحيّة على رئيسه بخبطة من قدمه رجّت تحتها الأرض رجّاً...

امتقع وجه رئيسه، واصفرّ وأرغى وأزبد:

- أنتم مستهترون... أطفال... فئران...

كان يصرخ وهو ينظر إلى أعلى الهوائي.. إلى العلم الفلسطيني.

دُهش الجندي كثيراً واستجدى من رئيسه توضيح الأمر... فانقضّ عليه رئيسه، يركله ويرفسه كبغل هائج، وانتزع منه جهاز اللاسلكي وأراه ما أغضبه...

صعق الجندي كأنه رأى وحشاً أسطورياً...

- متى؟ وأين؟ وكيف؟..

زعق رئيسه بالحرس الذين حوله:

- خذوه إلى السجن، فليمض فيه ثلاثة أشهر، ليتعلّم منه كيف يكون يقظاً وهو نائم... هذا الفأر... هذا...

كان سعيد مختبئاً خلف شجرة عندما رأى الجندي يخرج من المركز والحرس من حوله، والدماء تسيل من فمه، ونظرات الاستغراب بادية على وجهه... أخذوه وألقوه في السيارة باحتقار وامتهان...

انطلق سعيد إلى صحبه وأهله وقلبه يرقص بين جنباته، وبشرى النصر على عدوّه تملّكت وجدانه... فأخذ يطير على الأرض طيراناً، وهوى على قدمي أمه يقبّلهما ودموع الفرحة تزهو في وجهه... وانطلق النسر يقصّ عليها قصّة أوّل سهم يوجّهه نحو عدوّه... لتتوالى السهام بعد ذلك..