فؤاد وغادة

فؤاد وغادة

نازك الطنطاوي

كان يدرس الطب في جامعة (بوخم) في ألمانيا. وكانت تدرس معه في الجامعة نفسها، ولكن في قسم الصيدلة، وكان اللقاء الأول في مقصف الجامعة، حيث لفتت نظره ملامحُها البريئة، وحشمتُها وغطاؤها الشرعيّ الذي يدلّ على أنها من أصل عربيّ إسلاميّ، ولو أنها كانت تتكلّم الألمانيّة.

وبعد عدّة أيام من لقائه بها.. وبينما كان يدرس في مكتبة الجامعة، لمح وجهها مرّة ثانية.. جالسة مستغرقة في القراءة، فدقَّ قلبه بسرعة غير عادية، وبدون أن يشعر، رأى نفسه أمام تلك الفتاة التي أسَرَتْ قلبَه من اللحظة الأولى.. تردّد كثيراً قبل أن يلقي التحيّة عليها، ولكنّ الكتاب الذي كانت تقرؤه أنقذه من التردّد والارتباك، فتقدم منها بضع خطوات في ثقة واتزان قائلاً: السلام عليكم..

رفعت غادة رأسها وهي غير مصدّقة بأنّها تسمع كلمات عربية، فاتجهت ببصرها نحو مصدر الصوت، فرأت شاباً وسيماً، عربيّ الملامح والسّمات، ممسكاً بكتاب في يده، وعلى شفتيه طيف ابتسامة آسرة..

- أنا فؤاد زميلك في الجامعة قسم الطب، عرفت أنّك عربيّة، فأحببت التعرّف إليك.. لأننا كما تعرفين في غربة عن الأهل والوطن واللغة.

  ثم تابع في ابتسامته العذبة:

- وكلُّ غريب للغريب قريب ونسيب..

قالت غادة والدهشة تتبدّد من نفسها رويداً رويداً:

- إذن .. نحن أقرباء؟

وتابعها فؤاد بسرعة:

- وأنسباء..

- عظيم..

- ثم إنّ الإنسان مهما دار في هذا العالم المتراحب، يظلُّ متعلقاً ببلده وأهل بلده، فهل لديك مانع أن نكون صديقين؟

أعجبت غادة بشجاعة فؤاد وطريقة كلامه معها، فارتسمت على وجهها ابتسامة رضا وقالت:

- وأنا اسمي غادة، وأدرس في قسم الصيدلة سنة ثالثة، وأعيش مع أخي في بيت صغير قرب الجامعة.

ثم أخذت تجمع أشياءها مستأذنة بالانصراف.

ودّعها فؤاد على أمل أن يلتقيها مرّة ثانية، ثم انصرف إلى منزله وهو في حالة بين الوجد والاندهاش والضياع.. إنه يتذكّر وجهها الجميل، وصوتها العذب، وكلماتها اللطيفة، وحركاتها الخجولة المرتبكة.

وتكرّرت لقاءاتهما، ورأى الاثنان أن آراءهما وانطباعاتهما منسجمة مع بعضها البعض.. فقرّرا الزواج.. ووافقت أسرتاهما.. وكان الزواج السعيد..

وعاش كل من الزوجين في سعادة تامّة، إلى أن أنهت غادة دراستها، وكذلك فؤاد فقرّرا الرجوع إلى الأهل والوطن للاستقرار فيه.

وعاش العروسان (غادة وفؤاد) في بيت أهل فؤاد على أمل أن يعثرا على بيت صغير يضمُّهما معاً دون أيّ شريك.. ولم يمض سوى بضعة أشهر على رجوعهما إلى أرض الوطن، حتى بدأت المشاكل والخلافات تتسرّب إلى هذا البيت الآمن، فقد كانت غادة موظّفة في إحدى مؤسسات الدّولة، وكان عملها شاقّاً جّداً، فهي تذهب من السّاعة السّابعة صباحاً، ولا تعود إليه إلا بعد العصر.. منهكة القُوى مُتْعَبَة.. فتجد أخت زوجها بانتظارها، والشّررُ يتطاير من عينيها، تكيل لها أقسى أنواع الكلام، متّهمة إياها بالتّقصير في عمل البيت، وكأنّها الأميرة، وهي الخادمة..

كانت غادة تسمع هذا الكلام وقلبُها يعتصر من الألم.. فهي مُجْبَرَةٌ على العمل المضني من أجل أن تساعد فؤاداً في تكوين عشّهم السعيد، فكانت لا تتفوّه بأيّة كلمة، وتنطلق مسرعة إلى غرفتها، ويأتي فؤاد من عمله متعباً، فيجد زوجته الحبيبة منكبّة على السرير تبكي بحرقة.. فيسألها عن السبب، فتجيبه والدموع تغطي وجهها:

- أنا آسفة يا فؤاد لما سأقوله لك.. ولكنّك يجب أن تعلم أنّ أختك وأمّك هما السبب في بكائي، فأختك دائماً تتّهمني بالغرور والتقصير في مساعدتها في أعمال البيت، وأمّك تقف بجانب ابنتها ضدّي، وأنا -كما تعلم- أخرج من الصّباح ولا أعود إلا بعد العصر.. ومع ذلك أحاول دائماً أن أساعدها ولكن..

رَبَّتَ فؤاد على كتف غادة قائلاً لها:

- يجب أن نصبر يا زوجتي الحبيبة، فلم يبق سوى بضعة شهور.. سنة أو سنتين على الأكثر وننتقل إلى بيتنا السعيد. فأرجوك يا غادة اعملي جهدك وتقرّبي إلى أمّي وأختي أكثر.

نظرت غادة إلى فؤاد متصنّعة الابتسامة، وهزّت رأسها بالموافقة على كلامه.

وتوالت المشاكل.. وكانت غادة بين نارين، فهي غير سعيدة في بيت زوجها، وهناك بعض المضايقات في العمل، حتّى لم تعد قادرة على تحمُّل هذه المشاكل، فقرّرت ترك منزل زوجها إلى بيت أهلها، وهي حزينة باكية على فراق أغلى الناس لديها.. وعندما جاء فؤاد إلى المنزل لم يسمع أية مشاجرات، وكان البيت صامتاً، فتفاءل بالخير وقال في نفسه:

- ماذا حدث؟ هل اتفقْنَ أخيراً؟ هل اتفقت أختي وأمّي مع زوجتي؟..

دخل غرفته وهو مندهش من هذا السكون المخيّم على البيت.. ولكنّ دهشته ازدادت حدّة عندما لم يجد زوجته في انتظاره كدأبها في كلّ مرّة..

خرج من غرفته نحو غرفة أمّه، يستفسر عن زوجته، فنظرت الأمُّ إلى ابنتها ثمّ إلى فؤاد وقالت له ساخرة:

- إنّ زوجتك لم يعجبها العيش معنا.. وقررت العودة إلى بيت أهلها..

فتح فؤاد فمه من الصّدمة، وقبل أن ينطق بكلمة، عادت الأم تقول له:

- اتركها يا فؤاد، فهي إنسانة متعجرفة، متكبّرة وخمولة، وغداً سوف أزوجك أفضل منها.

وبينما كانت الأمُّ تسرد سيئات زوجته وسلبياتها، كان فؤاد يجوب بذاكرته الصّفحات التي طواها مع غادة، منذ التقيا في الجامعة.. كان ذهنه سارحاً في أول يوم نظر فيه إليها، فرأى الطّيبة والأخلاق السويّة، وبعد معاشرته إيّاها لم يلق منها سوى الخير.. فلماذا تحاول أمُّه جاهدة أن تبعده عنها؟

ترك والدته وانصرف إلى بيت أهل زوجته.. وما إن رأت غادة فؤاداً حتى رمت بنفسها عليه باكية قائلة:

- لم يعد بيدي شيء أعمله، لقد نفد صبري.. لم أعد أطيق هذه المعاملة القاسية من أمّك وأختك.

حاول فؤاد أن يرجع غادة معه إلى البيت، ولكنّ أهلها حالوا دون ذلك.. ولم يسمحوا لها بالرّجوع، خوفاً على ابنتهم الغالية من أن تتدهور صحّتها أكثر، بتفاقم المشاكل من جديد.

وبدأت كلٌّ من الأسرتين توجّه إلى الأخرى الاتهامات، وكثر الكلام واشتدّ الخلاف بينهما، وفي هذه الأثناء حاول فؤاد جاهداً التحدث إلى غادة، ولكن غادة كانت قد تغيّرت من كثرة ما قيل عن فؤاد، فأخذت تتهرّب منه ومن الحديث معه، والاجتماع به..

تمكَّن فؤاد أن يكلّم غادة دون علم أحد من أهليهما، واضعاً حدّاً لهذه المشكلة التي بدأت تتعقّد مع الأيام..

جلست غادة وفؤاد في مكان هادئ صامتين.. وأخيراً قطع فؤاد حبل الصمت بقوله:

- كيف حالك يا غادة.. وما أخبار الشغل عندك؟

أجابت غادة في حزن:

- بخير والحمد لله، أمّا من ناحية العمل فإنّي ألاقي مشاكل كثيرة، ولو أتيح لي العمل في أي بلد فلن أتردد في ترك العمل هنا..

أطرق فؤاد مليّاً ثم قال بصوت حزين كصوتها:

- وماذا عن حياتنا يا غادة؟ هل سيستمرّ طويلاً هذا الجفاء بيننا؟ أنسيت ما تعاهدنا عليه بأن نكون روحاً واحدة، ويداً واحدة، لكي نبني حياتنا الجديدة؟

وسرحت غادة في أفكارها وذكرياتها الحلوة مع فؤاد.. ثم قالت:

- أنت تعلم يا فؤاد كم تحمّلت من أجلك.. ولكنّي لم أعد أستطيع التحمّل أكثر..

ثم غطّت وجهها بكفيها، وأخذت تبكي بحرارة وتقول:

- إنني تعيسة يا فؤاد، ولا أدري ماذا أفعل، يكاد رأسي ينفجر من التفكير..

نظر فؤاد إلى غادة نظرة مليئة بالحب والحنان ثم قال:

- ما رأيك يا غادة لو نعود من حيث أتينا.. نكمل الدّراسات العليا هناك، ونعيش حياتنا بعيداً عن الأهل ومشاكلهم؟

ابتسمت غادة ابتسامة عريضة لما قاله فؤاد، ثم وضعت يدها في يده.. وسار الاثنان معاً..