ممتلكات
الآخرين الرائعة
بقلم : نسرين
طرابلسي
بينهما... تشعر بالأطفال المجنحين يملأون فضاء المكان، ويرمون سهامهم عشوائيا فتصيب
قلبها في طريقها إلى قلبيهما. بينهما... تشعر بانعدام الجاذبية، كأن روحيهما تفترش
غيمها الوردي، فيصبح السير لمسا طائرا لوجه المطر برؤوس الأصابع.
تأتي إلى عملها كل صباح بخفة عصفور يهتدي إلى عشه... تصفر لحنا تعلمته من
همساتهما.يبكّران قبل حضورها. تملأ هي الآنية بالورود... بينما يحضر هو القهوة...
ويبدأان عملهما بابتكار أساليب جديدة للاحتضان... حيث لا يشكل وجودها أي إزعاج
للعاشقَين... تتابع انعكاس صورتهما على شاشة كمبيوترها... فترقص أصابعها الماهرة
رقصة الصهيل الحرّ في براري الكلمات، وتعزف، أثناء شرودها في ملكوتهما، خمسين كلمة
بالدقيقة الواحدة.
يده
على يدها يرشدها، يدلّها، تنصت إليه كأنه إله المعرفة. تعرف تماما أنها أكبر منه
سناً وأكثر منه خبرة... لكنها تسلمه دفة القيادة في مكتب الترجمة الذي تملكه. يوم
جاء إليها باحثا عن عمل، تغاضت عن نقص بياناته، وانعدام خبرته، فقط لأن عينيه، كما
أخبرتها، توسلتا بكبرياء، وكانت المرة الأولى التي ترى فيها توسّلا عزيزا صامتا،
فوظّفته.
اغتاظت... وبحكم الصداقة التي كانت في طور النمو بينهما:"أراك لم تطلبي شهادة حسن
سلوك، وبراءة ذمّة من العمل السابق، ولم تخضعيه لاختبارات المهارة والسرعة
والإنكليزية كما فعلت بي؟" الألق المتهدج في عينيها الحائرتين أجاب بأنها هي نفسها
لا تعرف السبب... فصمتتا وغفرت لها هذا التمييز المقصود. بدأ النور يدخل
المكان المعتم كأن النوافذ أزهار رفعت رأسها باتجاه الشمس. ومضى اليوم الأول
يتحدثان، والثاني يتعرفان على أرجاء المكان، وفي الثالث سلّمته تاريخ مشروعها
الرابح وأسراره، وفي الرابع مفاتيحه، وفي الخامس نفسها.
تلاشت غيرتيها سريعا، حين خلعت ربة العمل تاجها، صارت أبسط وأكثر تواضعا،
وتقربت منها تحكي لها كل التفاصيل... الشرارة والحب واختلاجات الانطفاء. وبعد أيام
من السعادة زادت راتبها، ثم ابتاعت لها كرسيا دواراً مريحاً وهاتفاً خلوياً،
وأخيراً أغدقت عليها بدوام قصير. قالت لها: "طالما رأسي يشم الهواء ستعملين عندي...
يا وجه السعد".
بحساب
السنوات تعرفها منذ سنتين، عندما أحاطت يائسة كل طلبات التوظيف وهيأ القدر أن تكون
أول متقدمة لمكتب ترجمة جديد تكاد خبرة صاحبته توازي خبرتها. معا نزلتا إلى السوق
لابتياع تجهيزاته المكتبية. معا وقعتا ضحية الغش التجاري، ومعا كسبتا القضية ضد
الشركة، وقبضتا التعويض. معا تشاجرتا مع آلاف الزبائن المتعجرفين والمستعجلين
وسلمتا الطلبات في وقتها كأنهما تعملان بأربعين إصبعا. معا سهرتا ليالٍ لتصحيح
أخطاء الآلة الحرنة التي يتذكران، عند توقفها أو التهامها للملفات فقط، بأنها مجرد
عقل الكتروني لا يمكن الوثوق به. كل ذلك لم يجعل منهما صديقتين حميمتين، بقيتا
رئيساً ومرؤوسا. أحيانا كان العمل المتواصل يجبرهما على تناول وجبة سريعة وقوفاً،
يتخللها حديث وديٌ عن آلام الظهر والدوالي الزرقاء من الجلوس الطويل، وعن الضرر
الذي لحق بالعيون من التحديق بالشاشة المضيئة، وعن النقص في الأحبار ونوعية الأوراق
ومعجم جديد صدر حديثاً. وبقيت حدة اللّهجة الآمرة في ساعات التأخر الصباحي، وقسوة
اللوم عند حدوث الخطأ، وانعدام الثقة لتسليمها نسخة من مفاتيح الباب الخارجي أو
الخزنة.
كانتا عازبتين في رحاب الثلاثين، لم تتجرأ إحداهما على التذمر من الأمر أمام
الأخرى، تظاهرتا طويلا بأن كل شيء على ما يرام. إلى أن جاء. لم تزرع نفسها في أصيص
المنافسة مع مديرتها، كان الاختيار محسوما من البداية. مد أصابعه قطفها، بقيت هي في
الظل. نظرت إليه ينفث إنهاكه مع دخان إدمانه، يخلع حذاءه وراء الباب
ويحشوه بجوربه القذر. لحيته نبتت بلون خضرة العفن، ورائحة ساعات طويلة من البحث عن
عمل تفوح منه. لم ينظرا إلى بعضهما. متى وكيف تحول إلى شخص آخر؟ وهو الذي كان يبدو
مع الأخرى كجذع سنديانة ضخمة، تختبيء وراءه، تتسلق حضوره، ترتشف نداه، تداعب
أغصانه، وتحفر على جبينه اسمها. أين تلاشت النظرة المثقلة بالمعاني، المحمولة على
جفن مسدل ورفرفة الرموش الخاطفة؟. النظرة التي كانت تخترق كل العناصر، وتفتت جسدها
إلى ذراته المتماسكة المتصادمة وتبعثره كشحنة ضائعة في أرجاء المكان. النظرة التي
جعلتها ترضى بأن تكون ورقة تحترق وراء شعاع نظرتها وعدسة عينيه.
أيذهب
كل ما تكبّدَتْه سدى؟ أتحتمل وحدها وزر الخيانة بعد خيبة امتلاكه؟ لماذا كان يبدو
معها أكسير الشباب، مارد الخاتم، جني المصباح، السيف المرصود والحلم الموعود؟ حتى
وجدت في نفسها الشرّ الكافي والجرأة اللازمة لتؤلف له عنها حكايات بغيضة سوداء
تقطعها وجِلةً بعبارة: "سامحني يا رب، ولكن لم أعد أستطيع أن أتفرج عليك
وأنت تغرق". وكشهرزاد بدأت تختلق حكاية من حكاية، ورجالاً من رجال، وتسحب من فمها
الأسرار كما يسحب الساحر حبل المناديل الملونة من قبعته بلا انقطاع. وعند نهاية
الدوام تسكت عن الكلام لتتابع على الهاتف ليلاً سردها الشائك. بدأت علامات
الكبر تظهر فجأة على المرأة الأخرى، خطي العبوس الغائرين، زوايتي الفم المكسورتين،
ظلال الأنف المحني، سقوط الوجنتين، خطوط الهم حول العينين، كدمات الحزن تحتهما،
واحمرار الأرق فيهما وفراغ الفقد... وحين أبلغتها باستقالتها من العمل، أي صخرة
نبتت في قلبها لتتحمل عناقها ودموعها وضعفها وهي تتوسل لها ألاّ تتركها الآن. كان
الوقت قد حان للهرب به بعيدا. تركتها ومشهد رأسها المتكور بين ذراعيها كطفل لقيط
على باب ملجأ لم يفارق كوابيسها الآتية. ما أن غطاهما سقف واحد حتى طارت العصافير
التي كانت تدرب أجنحتها فوق كتفيه، وتكسّرت هالة القداسة المحيطة برأسه، وانطفأ.
وللمرة الأولى انبعثت منه رائحة رجولة تنقصها العناية. ولاحظت حدبةً واضحةً بين
كتفيه، وثؤللاً كبيراً تحت شحمة أذنه اليمنى. ولم يبد معها أسمراً ذهبي الجبهة بل
شاحباً بصفرة رمادية وطبقة عرق دهني تلمع على أنفه الكبير.
أسابيع قليلة فقط كانت كافية ليقررا معا أن كل واحد يجب أن يمضي إلى حال
سبيله. ووجدت نفسها على بابها ثانية. استقبلتها بحفاوة ملكية مفروشة بأزهار الجليد.
وعلى الكرسي الدوار المريح كان يجلس شاب مثل القمر، يناديها من حين لآخر: سيدتي
الفاضلة. قدمته لها على أنه:"الكل في الكل".