بطـالة

بطـالة

نعيم الغول

و ضعت رأسي بين راحتي  و أخذت أتابع تحركات زوجتي في البيت . كان الوقت قد تجاوز الحادية عشرة  صباحا  ،و  مددت يدي الى   فنجان القهوة  ببطء  و تراخ دونما رغبة  قوية فيها  كما كنت معتادا .و أحسست بطعم البن الخفيف  فعرفت ان زوجتي ماضية في سياسة التقشف  التي أعلنت عنها أمس  .و تذكرت ما حدث  فانتابني شعور بمرارة طعم القهوة  ،و شعرت  بالضيق ،و لم ادر ان كان طعم القهوة مرا لنقص في كمية  السكر فيه أسوة بالبن ، ام ان الضيق الذي أحس به كان يسبغ على الأشياء من حولي هذا الشعور .

كنت قد رحلت   و زوجتي و طفلي   الذي كان  قد بلغ  حينئذ  شهرين من العمر قبل ثلاثة اشهر من الكويت مع من خرجوا نجاة بجلودهم   بعد الاجتياح العراقي  لها . خرجنا مع الموجات الأخيرة التي خشيت من عمليات الحلف و الوقوع بين ناري المقاومة الكويتية و الجنود العراقيين . كان الوضع قد اصبح لا يطاق في الأسابيع الأخيرة التي سبقت القصف و إخراج العراقيين . فلم يكن العراقيون ليسمحوا بالتجول بعد السابعة وكانوا يطلقون النار على أي شيء يتحرك . نقصت الأدوية و الاغذية بشكل مخيف . وتعذر علي الحصول على حليب لطفلي الرضيع . و كان النهب حدثا مألوفا  في جميع مناطق الكويت . لكن القتل بات مألوفا اكثر . فكنا نخشى مغادرة البيت  في الحالين فقد تقتل  او تسرق محتويات البيت .فقررنا الخروج من الكويت حتى تستقر الأحوال . وكان لدي  بعض المال و أثاث  منزلنا الذي  استطعنا ان نخرجه  .  عبرنا العراق الى الاردن .كان الوصول  الى الحدود الاردنية أشبه بالمعجزة . فقد كانت الطائرات الأمريكية  تقصف أي شيء يتحرك على الطرق العراقية وسرق الكثير من الأثاث  ونحن نيام على الطريق البري .

وحين وصلنا الى عمان مكثنا في فندق رخيص  . وحتى لا انفق ما لدي في الفندق فقد أقنعت صاحب الفندق  بان يعطينا غرفة بسرير  مقابل دفع أجرة سرير و نصف  والاستغناء عن وجبة  العشاء . أخذت ابحث عن شقة تؤوينا أنا وزوجتي وطفلي .  وبعد ما يقرب من ثلاثة أسابيع وجدت شقة  في احد  مناطق عمان متوسطة الحال .

وحتى لا ينفد  ما لدي  من مال قليل  في  نفقات أسرتي  و أجرة الشقة  قررت البحث عن عمل فورا  الى ان  نتمكن من العودة الى الكويت  .صليت الفجر وبقيت جالسا  الى جانب زوجتي  ارقب  طفلنا وهو نائم  . ولا أدري ما كان يمر به من  خاطر إذ أجده  يبتسم تارة  ثم يقطب تارة اخرى  و يحرك رأسه  و يوشك ان يجهش في البكاء  لكنه لا يبكي  و تعود قسمات  وجهه الى حالها  التي تكون عليها  أثناء نوم هادئ . كان وجوده يدخل الراحة الى قلبي و يخفف من وقع  أسئلة بدأ يلوكها فؤادي .

 كنت ارقب  شروق الشمس  بفارغ الصبر . كنت قد أعددت قائمة  بأسماء شركات و مدارس خاصة  لديها وظائف شاغرة. لم تكن القائمة طويلة  و لم تكن الوظائف كثيرة . و قد حصلت على هذه الأسماء من الصحف خلال ما يقرب من أسبوعين من المتابعة  حين كنا لا نزال  نحاول الاستقرار في بيت أولا

ما يقلقني حقا هو ان خبرتي العملية قصيرة . و كنت قد غادرت الضفة الغربية للدراسة في الكويت وتخرجت في جامعة الكويت قبل الغزو بسنتين حاملا شهادة  البكالوريوس  في اللغة الإنجليزية  . و وجدت نفسي  امام الطلاب في مدرسة ابتدائية  نائية  .. وكان المطلوب تدريسهم كل المواد .. اما الإنجليزي  فيمكنه الانتظار . كانت سنتان حصدت من ورائهما هواء . وكنت آمل في النقل الى المدينة لكن الغزو عاجلني.

و شعرت بالهواجس تنتابني لتخيلي ان  الكثير من المواصفات لا ينطبق علي  لكنني رغبت في المحاولة  لعل احد الطلبات يقبل و احصل  على  وظيفة ما .

في اليوم الاول من البحث رفضت الشركة الأولى قبول  طلبي  لعدم استيفائي للشروط . و ذهبت الى الشركة  الثانية  فرفضت طلبي ايضا  لتأخري في تقديم الطلب  عن الموعد المقرر .  و انطلقت الى الثالثة فرفضته ايضا لكون الوظيفة لم تعد شاغرة .

كان الوقت في ذلك اليوم  قد شارف على العصر  فعدت الى البيت حزينا  تعبا .لكني من جهة اخرى كنت مطمئنا . كان باستطاعتي ان أتقدم الى وزارة التربية  للعمل كمدرس  فيها  و كنت متيقنا   بان  الوظيفة مضمونة  لديها. لأن اللغة الإنجليزية  تخصص مطلوب  و لدي خبرة في التدريس  وهذا يعزز طلبي . لكنا كنا  نسمع ان  رواتب المعلمين في الاردن قليلة  و المعلمون يعانون  من انخفاض دخلهم  و كثرة أعبائهم . سقى الله أيام الكويت  فقد تعودت فيها  على الراتب  المرتفع  وعلى بحبوحة العيش .  سألتني زوجتي ان كنت سأتقدم بطلب الى الوزارة فقلت لها بان الوزارة ستكون الملجأ الأخير .

و صحوت في اليوم التالي  باكرا ايضا  و صليت و دعوت الله بحرارة  ان أوفق  . و جلست ارقب  الطفل بانتظار الشروق  . كان قد تحلل من لفائفه  واخذ يحرك يديه  ورجليه كأنه يتعجل  النهوض و القيام و المشي . مددت إليه إصبعي كأنني أساعده على النهوض فامسك بإصبعي و لم يكد يفلته. و خرجت  وفي نيتي ان اكمل القائمة بالمدارس الخاصة . ووجدت الجواب  نفسه  . كانت الخيبة تزيد من ثقلها على صدري . لكنني  تصبرت  و عدت الى البحث في إعلانات الوظائف  في الصحف . لكن الإعلانات  كانت قليلة جدا  اما الإعلانات  عن الوظائف الشاغرة في الخارج فقد اختفت تماما .  فقد كانت الدول الخليجية تتخلص من العمالة الوافدة إليها . حتى الذين خرجوا و هم على راس عملهم قبل الغزو لم يسمح لهم بالدخول بعده . و كان الوضع ينذر بالخطر . فقد كانت الصواريخ تسقط على اليهود و نذر الحرب تتصاعد.. كان شهر كانون الثاني قد بدا يحتضر . و لم يكن الا اللجوء الى الورقة الأخيرة ..التدريس في الوزارة .فذهبت إليهم فقالوا بان ديوان الخدمة المدنية هو الذي يستقبل  الطلبات . و حين تقدمت بالطلب الى الديوان سالت عن الوظائف فقالوا ان التوظيف متوقف الآن و ان علي ان انتظر دوري .

هوة سحيقة امتدت امامي .. رأيت الظلام جنينا حبلى به الأيام المقبلة .. و  تلفت ابحث عن يد تمتد .. تمنحني قبسا   فما وجدت ؛  غيوم كانون رزحت على صدور الناس و اختلطت بأفكارهم  فما كان أحدهم لينظر حوله ليرى غير ما يبقيه حيا  .و كان الناس يتسابقون على خزن المواد الغذائية التي ارتفعت أسعارها و شحت . و كان ما لدي من مال قد أوشك على النفاد  . ولم اكن اعرف  أحدا ألجأ إليه اذا ما ازداد الحال سوءا . كان العدد القليل الذي اعرف  قد جاءوا ايضا من الكويت .  و أهلي في  الضفة  الغربية و لم استطع ترك عمان الى  طولكرم  فقد كانت الجسور مغلقة .

و بدا البحث عن الوظيفة يصبح عادة يومية  و لكني مع تكرار الرفض او سماع عبارة : "قدم الطلب و انتظر الى ان نتصل بك " أخذت  اجر نفسي جرا للبحث . و تباعدت تدريجيا مدد الخروج و البحث . و كان أمس هو اليوم الأخير بعد انقطاع أسبوع  عن البحث .   و عدت منهكا و قررت ان لا اخرج أبدا .

كانت زوجتي  تسألني كلما عدت من محاولاتي  عن النتيجة . و كانت دائما مبتسمة . و كلما كان الضيق يلوح  على وجهي تسبقني الى القول : "الفرج من عند الله."  و لكنها لم تسال هذه المرة  و لم تستطع إبقاء الابتسامة على وجهها . و لكنها قالت بلهجة ناطق عسكري يلقي ببيان هام : " سنكتفي بوجبتين خفيفتين " و حين رأتني  صامتا أضافت : و سنركز على العدس .. العدس يدر الحليب من اجل الصغير " و تفرست في وجهي و لكني لم أعقب فأتبعت بالقول : " و علينا ان نترك الشقة  و نذهب الى منطقة يكون حال أهلها مثل حالنا .. ما رأيك بالوحدات .. الوحدات مخيم جيد .. كل شيء فيه رخيص " .

أدرت وجهي عنها و قلت :

- ترى لو بقينا في  الكويت  أكان هذا حالنا ؟"

- " قدر الله و ما شاء فعل !"

- "و لكن ألم يجد القدر غيرنا يصيبه ؟ ماذا عن الأمريكان و اليهود ؟ انظري إليهم يفعلون ما يفعلون و هم كفار و مع ذلك حالهم دائما في تحسن.  كثيرا ما أسال نفسي : ماذا فعلت ؟  أنت تعرفين يا راضية  أننا طوال عمرنا ما أسأنا لأحد .. لم نسرق و لم نقتل و لم نزن و لم نأكل مال الناس . لم نبدل   خيرا بخير و لا شرا بشر . كأننا لسنا على وجه الأرض ."

- " هون عليك . غدا تفرج بإذن الله ."

 - "من أين يأتي الفرج . لقد سدت الأبواب في وجهي  كلها . و الأحوال  لا تطمئن  و توقفت الشركات و المصانع و المؤسسات عن التوظيف .. الرزق انقطع يا راضية .. البطالة تخنقني ."

- " استغفر ربك يا رجل . لست وحدك . الكل اكتوى  من النار نفسها."

- " و ما يهمني  غيري الآن . المهم أنت و الطفل . أكان يجب ان ننجبه .   لو أننا صبرنا  و  لم نتعجل ."

قالت معاتبة :"  لا تقل ذلك . من الذي يقضي الساعات ينظر في وجهه ؟ و هل الأمر بيدي او بيدك؟ الأمر بيد الله ."

 - "و لماذا يرضى الله عن حالنا  هذا ؟ كل ما أطلبه عمل ."

" استغفر  ربك يا رجل غدا تفرج . . أنت بلا عمل منذ شهرين و معك قليل من المال و غيرك بلا عمل منذ سنوات و لا يملك شيئا ."

المسكينة . إنها تتظاهر بالجلد و الصبر على ما نحن فيه و لكن الى متى . لقد عودتها منذ خطبتها ان اقدم لها هدية كل شهر  و منذ الاجتياح لم تحظ بشيء . الحمد لله  أنها تتفهم ما نحن فيه . أي جحيم ساكون فيه لو كانت لا تقدر و لا تتفهم . أحسست  بموجة من الحنان تتسع في صدري نحوها  . و تمنيت لو أجد عملا . و تخيلت نفسي امسك بأول راتب و أضعه بين يديها لتشتري ما تشاء . لكن الأمنية تلاشت بسرعة كما تتلاشى الأمواج حين تمس اليابسة .

 لا زال طعم القهوة مرا و لا زلت أحس بعزيمتي  تخور  و  بالرغبة  في مواصلة السعي للعمل تموت في . و شعرت بأن من غير  المجدي  القيام  بأي شيء . و نظرت كعادتي إليه . كان نائما على الأريكة  ملفوفا . و اخذ يحرك فمه كأنه  يرضع و كأنما أدرك ان لا شيء في فمه ففتحه  و اخذ يحرك وجهه كأنما يبحث عن الثدي  . و فجأة انفجر الطفل بالبكاء . فجاءت من المطبخ مسرعة  جلست مقابلي  و حملته  . واصل البكاء بعنف . و ضعته على الأريكة . قلت منزعجا من صراخه :

- "ما به ؟ أقرصه شيء ؟"

- "لا أظن . هو جائع يريد ان يرضع ."

أحسست بقلبي يكاد ينخلع من جنبي . قلت و أنا أخمن جوابها : "أراه يرضع كثيرا . الا يشبع ؟!"

جاء الجواب كما خمنته مما زاد في رعبي: "حليبي لا يكفيه".

كان الطفل ينشج . وكانت  تفك لفائفه  و مدت يدها الى  صدرها  لتخرج  ثديها  و ترضعه لكن بكاءه تواصل . و لاحقتهما بعيني  باهتمام . كانت قد حملته  و وضعته في حجرها  و رأسه على ساعدها الأيمن  و يدها اليسرى تمسك  بثديها . ازداد بكاءا  رغم ان الثدي كان قريبا منه . قربت  ثديها  من انفه . شمه و فتح فاه بلهفة و اخذ يحرك رأسه  يمنة و يسرى  بحثا عن الحلمة  حتى تعثر فمه بها فالتقطها بشدة و اخذ يرضع بعنف و رويدا رويدا  هدأت رضاعته و ارتخت قسمات وجهه .

 ابتسمت بحنان  وقالت : "الثدي أمامه معد له  و آتيه بين  لحظة  و اخرى  لو صبر  ."

تأملتهما برهة من الوقت  ثم قمت و قلت :"سأعاود البحث  عن عمل و أ ظنها ستفرج ان شاء الله."