غـفـلـة
غـفـلـة
قصة : غرناطة الطنطاوي
تسارعت دقات قلبها، وامتقع لونها من هول ما سمعت. وضعت إصبعها الصغير في أذنها تنظفها كي تتحقق مما سمعت.. ما هذا؟ أمن المعقول أن تصدر مثل هذه النصيحة من صديق يظن نفسه مخلصاً؟.. أوقفت دقات قلبها كي تسمع بوضوح.
ردّ والدها على نصيحة صديقه:
- لا.. لا يا أبا أحمد، أتنصحني أم تريد غزل المشاكل لي؟!!
قال أبو أحمد مؤكداً:
- الزوجة المثقفة الحائزة على شهادة جامعية أقدر على فهم عملك وتسهيله لك، وخلق جوٍ من المودة والحبّ يُسيّرك إلى الأمام، وتحلّ مشاكل الأولاد بنفسها، ولا ترفض لك طلباً. فالزوجة المثقفة تكون على وعيٍ تام بما يدور حولها فلا تتأفف من غيابك المتواصل عن البيت.. كما أن ينبوع الثقافة والعلم سينهمر غزيراً على أولادك فيغرفون منه متى احتاجوا إليه، فهو ينبوع عذب لا ينضب. أمّا أمُّ سلوى زوجتك فهي للأسف كأغلب الزوجات لا تعرف من الحياة إلا الطبخ والطعام والشراب ، وتصرّ على تلبية طلباتها مهما عَظُمت وأتصورها كزوجتي تغضب وتزمجر لأتفه الأسباب، لا تستطيع ابنتها بثّ همومها ومشاكلها لها خوفاً من غضبها فهي لا تعرف المناقشة الهادئة الهادفة مع زوجها فكيف الحال مع ابنتها؟
انفجرت الدموع من عينيها بصمت حزين، وهرولت إلى حضن أمّها الدافئ تبكي بحرقة.. أمي.. أمي أعظم إنسانة في الوجود علّمتني الحب والتفاني في الإخلاص.. علّمتني التواضع والسموّ بنفسي عن سفاسف الأمور بعفوها وتغاضيها عن أخطاء زوجها في حقّها عن طيب خاطر، حتى صارت تمثّل الحب والوفاء، فليست الثقافة والشهادات الجامعية هي التي تصنع الوعي الكامل والحب والتفاني.. إنما نفس الإنسان بذاتها وفطرتها الصحيحة السليمة وغريزة الأمومة الفيّاضة توجّه الأم إلى المنحى السليم وتجعلها أستاذة في أكبر جامعة في الدنيا هي جامعة الحياة. فكما قيل : إذا علمت رجلاً علمت فرداً، وإذا علّمت امرأة فإنك تعلّم أسرة.
ولكن هذا العلم لا ينحصر فيما قاله فيثاغورث وأفلاطون وأرسطو، بل فيما قاله القلب وصدّقه العقل. فليست كل متعلمة واعية وليست كل واعية متعلمة.
وخلال هذا العناق الحار مع أمّها والمحاورة العقلية مع نفسها، دُقّ الباب دقات سريعة فنهضت تمسح دموعها وتفتح الباب فإذا هي جارتها وكالعادة أعطتها مفتاح بيتها وذهبت تسابق الزمن لأن محاضرة أدبيّة ستبدأ بعد قليل وعليها متابعتها وكتابة ملاحظات حولها، وصراخ أطفالها يهزّ العمارة ولا يهزّ أوتار قلبها.
كان على سلوى الذهاب بين الفينة والأخرى إلى بيت جارتها للاطمئنان على أطفالها الثلاثة وإسكاتهم بقطع من الحلوى حتى تعود والدتهم من (بحر الثقافة والأدب). فإذا عادت أمّهم انكبّت على أوراقها تكتب وتنقّح ما كتبته بالأمس، تفتح كتاباً وتغلق آخر، والويل كل الويل لأولادها إذا حاولوا الحديث معها فمستقبلها العلمي في خطر، إذا قطعت سلسلة أفكارها وأجابت طفلها الصغير إلى ما يريد.. ولو وقع شجار بين أطفالها قامت إليهم جميعاً تضربهم فهي تعرف أنها لو ضربت واحداً وتركت الآخر فستتأثّر نفسية ابنها المضروب وسيشعر بالغيرة من أخيه والحقد عليه.. هكذا يقول علم النفس. فلتضربهم جميعاً دون تحرّي أسباب الشجار، وحلّ المشكلة بهدوء لأن ذلك يتطلّب وقتاً هي أحقّ به من أولادها الذين لا تنتهي خلافاتهم..
ثم لماذا الخادم ؟ أليست من أجل الإشراف على طعام الأولاد ؟ ومن أجل تربيتهم والعناية بهم؟ إنّها مخلوقة للثقافة والأدب ، وليست للأمومة .. ولذا لم تكن تعبأ بما تناوله الأولاد من طعام.. هل شبعوا تماماً أم ناموا وبطونهم خاوية، أم تناولوا زيادة عن حاجتهم مما يسبب لهم السمنة أو التخمة وعواقبها الوخيمة.
ينام الأولاد دون نظرة حنان أو كلمة حب أو حتى قبلة المساء من تلك المرأة التي تسمّى أمّهم.. التي تكون على أهبة الاستعداد لاستقبال صديقاتها الوافدات عليها بمناسبة وبدون مناسبة، فالمجاملات الاجتماعية والزيارات المتكررة من أركان الحياة العصرية.. قد لا تكون كلّ المتعلمات كجارتها تلك ولكن هذا لا يعني أنّ غير المتعلمات لا يصلحن لأن يكنّ ربّات بيوت ممتازات..
ودّع الأب الصديق الناصح الأمين وإذا هو يسمع نحيب ابنته فقادته أذناه نحوها وكأنه قرأ ما يدور في خلدها فأقبل عليها، محتضناً إياها بحبّ وعطف، وربت على ظهرها مُطمئناً..