أحلام العاشقين

    أحلام العاشقين

قصة: فاضل السباعي  

قرع الباب، فظهر له وجه امرأة ليس هو الذي يقصد. تمتم معتذراً، وهمّ بأن يتراجع، ولكنْ جذبته ابتسامة في وجه امرأة بالغة الأناقة. تلعثم:

- كان عليّ أن أقرع باباً آخر!

تحوّلت الابتسامة إلى دعوة:

- كلّ الأبواب ترحّب بك، يا سيّدي!

- كنت أقصد الباب الذي إلى اليمين.

- يسعدني أن أستقبلك، وأن.. أصغي إليك! تفضّل.

وجد نفسه يجتاز عتبة الباب.

- كان حديثي، مع جارتك، سيدور حول الحريّة.

- وأنا.. حديثي، مع الرجل الذي أنتظره، سوف يدور حول.. الحبّ.

- إنْ نحن جمعنا بين الكلمتين، المحورين، حصلنا على معنى أجمل، حبّ الحرية!

- أو.. الحريّة في الحبّ!

- ذلك صحيح، إذا ما أظلّتنا أجواء الحرية.

- يبدو لي حديثك شائقاً، أيها السيد.. هل نتابعه، وفي يد كل منّا كأسه؟

- أكون ممتنّاً جداً، يا سيدتي.

- نبيذ معتّق، يدفع الدم في عروقنا، في هذا اليوم الشتوي؟

- بل ما هو في مثل لونه، إنْ توافر عندك: شراب التوت الشامي.

- كما تحبّ يا سيدي!

راق له جوابها، ورجا أن يكون ذلك بداية لحوار مفيد. جالت عيناه في أرجاء المكان: صالون بحجم نظيره في البيت الذي تاه عنه، أنيق بأرائكه الشرقية، وبما عُلّق على جدرانه وما تدلى من السقف.

انحنت لتضع الكأس أمامه، فغمره في ذلك عبيرٌ أخّاذ.

- بداية، إنّ الحرية هي أول هواجسي يا سيدتي!

- كلنا نعشق الحرية.. أنا، مثلاً، حرة فيما أفكر، حرة في تصرفاتي. إني لا أزال، منذ عشر دقائق، أنتظر رجلاً متميزاً، سيحدثني عن الحبّ، هل يضايقك دخوله، الساعة، ومشاركته لنا في الحديث؟

- على العكس. في هذه الحالة أكون قد كسبت جليساً آخر. ولكني أخشى أن يرى فيّ زائراً فضولياً!

- إنه متفتح الذهن جداً. لست أدري لماذا تأخّر، مع أنه دقيق في مواعيده.

- "الغائب عذره معه" كما يقولون. أنا، مثلاً، ما زلت على موعد مع سيدة البيت المجاور.

اشتبهت عليّ الأبواب! هل تلاحظين أن الأبواب، كلّ الأبواب، قد غدت متشابهة في هذا الزمن؟

قرعت بالخطأ هنا، فجذبني ترحيبك الحارّ إلى هذا الصالون البديع!

- جارتي هذه؟ إن ما بيني وبينها لا يعدو ابتسامة، نصطنعها، أنا وهي، كلّما تلاقينا على الدرج.. منذ متى تعرّفت إليها؟

- لم يمض طويل زمن على تعارفنا. ولكن العلاقة بيننا وثيقة جداً، تضرب في العمق.

- أراها امرأة جديّة، مع أنّ شكلها لا يخلو من جاذبية.. هل تزورها كثيراً، جارتي هذه؟

- بين الحين والحين.

- وتتبادلان الـ...؟

- أجل، إنّ ما بيننا..

- الحبّ؟

- أسمى من الحبّ!

- وما هو؟!

- عشق الحرية.

- حقاً، إن الحرية هي هاجسك الأوحد!

- ليس الحرية وحدها، ولكنّ السعي إلى نوالها.

- أفهم من كلامك أننا نفتقد الحرية!

- ولا أظن أنك تعتقدين أننا نتمتّع بـ "حرية التعبير" مثلاً.

- بحسب المفاهيم التي لقّنونا إياها في الجامعة، فإن مصطلح "حرية التعبير" فضفاض ينبغي تحديده.

- أو تحجيمه، حسب مرادهم! طيّب، لنأخذ جانباً عملياً من مفهوم هذا المصطلح: حرية المواطن في نقد ما يلاحظ من الفساد الذي يستشري حوله.

- في هذا يقولون إن الفساد قَدَرُ العالم الثالث.

- ليس هذا تفسيراً. إنه تبرير لما يفعلون، كي يتابعوا ما هم فيه. لو أنّ هناك حرية تعبير، لأميط اللثام عن وجود المفسدين فتلاشوا تحت سيف العدالة. أسألك، يا سيدتي: ألم تلاحظي فساداً، من أيّ نوع، في الوسط الذي تعيشين فيه؟ ما العمل الذي تمارسينه، منذ تخرجك في الجامعة؟

صمتت لحظة:

- سكرتيرة!

- أين؟

- عند أحد المسؤولين!

- مسؤول كبير، صغير، متوسط المكانة؟

فارقتها حماستها:

- هو... مسؤول مرموق!

- هل تحدثينني عنه قليلاً، ولا حاجة لذكر الأسماء؟

تهدّج صوتها:

- الحالي، والسابق، والأسبق.. لقد ملك كلّ منهم فيلا جميلة في العاصمة.

- بعد ارتقائه المنصب؟

- وفيلا مثلها في الريف، وأسسوا لكل واحد من أبنائهم منشأة ما، تعمل دائماً بنجاح كبير.

آخرهم بنى قصراً، فوق مرتفع يطلّ على البحر، مؤلفاً من طابقين، وست وستين حجرة، وسبعة صالونات بأفخر الرياش، كما في الأحلام، وفي حديقة القصر مبان للخدم والحشم، ومرائب للسيارات، واصطبلات.

إنه يسمع، كما في الأحلام أيضاً.. أم أنّ شراب التوت الشامي قد تحوّل، في شرايينه، إلى نبيذ معتّق؟

- من عرق الجبين، بنوها، يا سيدتي؟

- كم أنت بارع في بحثك عن الحقيقية!.

- هل زرتِ القصر؟

- إنك لتجرّني إلى أن..

أية مصادفة ساقته إلى هذا المكان! هذه الساحرة العينين مثل غزالة، الفارهة مثل فرس أصيلة، الوديعة مثل يمامة، الأنيقة، الرقيقة، المترعة بالمشاعر الفيّاضة، لقد كسروا عنفوانها وملكوا رقبتها! إنهم ما زالوا يتداولونها واحداً بعد آخر، جعلوها جزءاً من مقتنيات الفيلا والقصر. إنها تبوح له، وجسدها الغضّ ينتفض. ماذا يحملها على الاعتراف له، وهو العابر، الداخل بيتها خطأ؟!

تكفكف دمعها.

ذات يوم –تقول مقهورة- التقت بمواطن من المغتربين، جاء في زيارة قصيرة أملاً في أن يعود مصطحباً زوجة من بنات وطنه. خيّل إليها أنه قد تجاوز بعض المفاهيم، صارحته، فإذا هو يعود إلى مغتربه وقد أقلع عن فكرة الزواج!

تنتظر الآن، أن يقرع بابها من يروي لها أساطير الحب الجميلة.

- أما زلتُ جميلة، يا سيدي؟

*   *   *

لحظة خرج من البيت مودعاً، لمح رجلاً يخرج من الباب المجاور، مودعاً أيضاً! ابتسم له، إذ التقاه على فسحة الدرج، فبادله هذا الابتسام. لاحظ أنه يقصد الباب الآخر: فهذا الرجل هو المتميّز الذي تنتظره ليحدثها عن الحبّ! وهو قد أخطأ الباب أيضاً! يا للمصادفات العجيبة، في هذا اليوم الجميل!

ظهر له وجه صاحبته من وراء الباب، وقبل أن يغلق، سمع الباب الآخر يُغلق.

قال: إذن. فقد قرع هذا الرجل الباب عليك خطأ!

قالت: كيف عرفت؟

قال: هذا ما وقع لي، أيضاً.

قالت: دخلت بيتها، جارتي هذه، التي حين تنزل الدرج تُخلّف وراءها سحابة عطر؟

قال: لحظة فوجئت بي أمام الباب، هشّت لي ودَعتني إلى الدخول.

قالت: هل استدرجتك إلى الحديث الذي تنتظره من صاحبها؟

قال: بل استدرجتُها إلى الحديث الذي نذرتُ نفسي له.

قالت: مثلما حدّثتُ أنا صاحبها عن عشقي للحرية، طوال الساعة التي جلس فيها أمامي مؤدباً.

قال: عرضت عليّ كأساً من النبيذ المعتّق.

قالت: سألني ذلك، فقلت إن عندي ما يُماثله لوناً.,

قال: بعد أن تناولنا شراب التوت الشامي، استبدّ بي الحزن وأنا أصغي إلى اعترافاتها، لقد بكت المسكينة أمامي تعاستها وقهرها.

قالت: هو لم يبكِ.. ولكنه استوعب خطابي جيداً.

قال: بات الناس مهيئين لأن يعلنوا عشقهم للحريّة.

*   *   *

بعد أن أخذ ينزل الدرج، سمع الباب الآخر خلفه يُفتح. التفت، فرآها تودّعه.

في الطابق الذي تحت رأى رجلين قد انفرج عنهما، في اللحظة ذاتها، البابان المتجاوران. نظر كل منهما إلى الآخر وابتسم.

في الطابق الذي يليه، رأى رجلاً يخرج من هذا الباب، وامرأة تخرج من الباب الآخر. تبادلا الابتسام.

الجميع يخرجون إلى الشارع الفسيح.

وقيل: إن كثيراً من الناس باتوا يخطئون الأبواب، ثم يخرجون منها عاشقين للحرية.

وانتشر بين الناس أن كثيراً كثيراً منهم، أخذوا يطرقون أبواباً يقصدونها، غير مخطئينها.

وانتشر، أيضاً وأيضاً، أنهم لا يدخلون البيوت فرادى، وأنّ الأمر تمادى حتى أخذوا يجتمعون في غير البيوت، وأنّ ما كانوا يتبادلونه همساً، أخذوا يصرّحون به جهاراً، وأنهم ينتظرون يوماً تُشرق في صباحه، شمسٌ لا تتخفّى وراء الغيوم.

إنها أحلام العاشقين!