للثلج أوهامه أيضاً

للثلج أوهامه أيضاً

قصة: نعيم الغول

اليوم الأول

التصقت أنوفهم بزجاج الشبابيك ترقب المقطوعة الموسيقية التي تعزفها السماء، وتتساقط ألحانها قطعاً بيضاء يلاحق بعضها بعضاً، حتى تقع على الأرض منتظرة ما تبقى من ألحان، لتكتمل سيمفونية الفرح. تهلل وجه أبي محمد وغمغم "موسم خير إن شاء الله". ومن وراء نافذة بيت مجاور هتف أبو سالم وهو يستمع إلـى أنبـاء تعليق الدراسة والدوام في المؤسسات والنصائح بالبقاء في البيوت "نرتاح يوماً ثم نعود.. الثلج بشرنا بالخير".. وفي بيت قبع منزوياً بوحشة في آخر الشارع، سرت رعشة في قلب امرأة شابة، وهي تلاحق بنظراتها زخات الثلج، وترفع بصرها إلى السماء وتهمس، وبياض الثلج ينداح في ثنايا صدرها "الثلج.. الثلج.. لعلها العلامة بأن توبتي قبلت!".

اليوم الثاني

التصقت أنوفهم بزجاج الشبابيك ترقب تساقط الثلج، وقد ازداد غزارة، وسد الطرقات، وتراكم على الأسطح، وتشربته الأسقف حتى دلفت، تذكر أبو محمد محل "النوفوتيه" و الديون المتراكمة والفواتير غير المسددة والشيكات التي أعيدت من غير رصيد والتي ستعود.. غمغم ورئتاه تلاحقان الأوكسجين الذي فر من الغرفة فجأة "أنا بحاجة لكل يوم لكل ساعة".. ومن وراء نافذة بيت مجاور نظر أبو سالم إلى السماء فتسلل لونها الرمادي القاتم إلى صدره.

أطلقت زوجته ملاحظة أن الغاز والكاز والمؤن قد نفدت جميعاً، فانفجر "أتشربون الكاز والغاز، ليس في جيبي ما يكفي لبقية اليوم، الجاراج مغلق.. الطرقات مغلقة، أنا خلقت للشقاء وليس للراحة". في بيت المرأة الشابة رن جرس الهاتف، ترددت قليلاً ثم رفعت السماعة، جاءها صوت هادئ مألوف ذكرها بصوت صنارة تلقى في بحيرة تبحث عن السكون: "أصحيح ما سمعناه؟ يقولون أنك تبت؟! مبارك.. العقبى لنا.. ما رأيك لو أجلتها قليلاً.. يعني حتى تحصلي على الصور إياها!! أنتظر في المكان نفسه!".

اليوم الثالث

أشرقت الشمس، وصفا الجو، واشتاق زجاج النوافذ للأنوف التي كانت تتلصص على الثلج، حمل كل رجل من رجال الحي رفشاً وانطلقوا خارج بيوتهم يجرفون الثلج بغضب مكتوم.. ومن البيت الذي يقبع بوحشة في آخر الشارع خرجت المرأة الشابة وسارت في الطريق الطويل مشية أسير متعب.. نظرت إلى الأفق البعيد منتظرة موسماً ثلجياً آخر يغسل الصور القديمة ويمحوها، وعلى حواف الشوارع تكوم الثلج واختلط بالماء الذي اسود من آثار عجلات السيارات، فغاب بياضه وأدار الجميع ظهورهم منتظرين أن يذوب.